**سلسلة قراءات في شعر الغربة العراقي **
المكان المقدس في شعر الغربة العراقي
قراءة في قصيدة (خريف المآذن ربيع السواد..)/ الشاعر (باسم فرات)
حين تمتزج المشاعر الشاعرة , بالمشاعر المقدسة .فهذا يعني تمازجا ً ممتدا ً على مستويات دينية وتاريخية وأدبية . فتشكيل المكان في النص الشعري -لاسيما النص المغترب مبدعه, روحيا ومكانيا – على هذه التصورات (ارتباطه بالخلفية الدينية على اختلاف مصادرها) , يبعث منه امتدادا ً للقيم الإيمانية التي تربط الإنسان بأمكنته , ومن ثم يحقق من هذا البعد تفاعل الذات الشاعرة بما يحدث فيه ,فتتأثر بسياقه الروحي.
وظلت الاماكن المقدسة , لها حضورها العميق على مستوى الموضوع والفكرة في الفن الشعري . وشكلت صوت حاضر في قصيدة الغربة للشاعر العراقي المغترب . ذلك إنهم وجدوا في هذه الأماكن ملاذا آمنا لروحهم المتألمة الفاقدة للهوية والانتماء. التقطت عيونهم من فضاءها القدسي وعبر المسير في هذه الرحلة ومن خلال مناسكها وتوظيف اسماء ورموز دينية ,صورا لا ينضب معينها , ومعان متجددة بتجدد هذه الرحلة الروحانية , لتلك الأماكن . كما وشكلت رموزاً دالة على وحدة الجماعة وتماسكها . ويعبر هذا الفضاء الديني عن وعي الإنسان بأهمية الصلة بين السماء والأرض , وعلاقتهما بوجوده . ومن هنا بدأ الترابط بين الحس الديني والحس المكاني في نفس الشاعر (باسم فرات) فانعكس في بناء فضائاته الدينية ,وإبراز معالمها الفكرية والجمالية . فنجد في ( خريف المآذن) عمقا ً في التجربة وثراءً في المفردات والصور . والميزة الجمالية تقودنا الى اثر الجمال الذي تركته هذه الاماكن في مخيلة الشاعر ,مما انعكس ذلك على بنية القصيدة . فعلى صعيد المفردات فقد انتشرت مفردات وصور للمكان الديني على مساحة ليست قليلة في النص, بدأ ً من العنوان ( المآذن , القبلة , الفردوس , القديسين , كهنة , تسابح , صلوات , ملائكة , كربلاء ,.....) . فتجربته تستنطق كوامن الذات بتوهجاتها الإنفعالية، والعاطفية التي توحي الى لحظتها الشعورية.. فتقدم نتاجاً شعرياً يتصف بالحسية والإنفعالية والمجازية الصورية وشاعرنا الغائب بأغترابه والحاضر بإبداعه الشعري يطالعنا هنا بإضاءة فنية ,وإيحاءات تنطوي على دلالات عميقة تجرنا صوب منجزه الإبداعي الذي تميز بصوره التي تجسد مكنونات غائصة في العمق الإنساني وهي تكشف عن ذات وموضوع مأزومين . إذ المقاربة ما بين الهواجس والحالات النفسية بلغة تشحن نفسها من عصر مليء بالتناقضات على المستوى الإنساني , فتتحول إلى أداة تحرك الحس الجمعي . يقول:
تراتيل كهنة وقديسين
صلوات شهداء
وتسابيح عشاق الرب
وما زالت الملائكة تطوف بأزقتك
يشعلون البخور
ولدرء براءتك من هشيم صرخات خمبابا
يخضبون غبارك بالحناء
وينشدون: / كربائيلو.. سيدة لا تشيخ ابدا
واختلاط حيرة الماء والاعداء معا
اسم عتيد يتوضأ تاريخا وبطولات / حزن خال من الضغائن
رايات بكاء يضيق بها الأفق(1
فالصورة الشعرية في نصه، تتسم بحيويتها التي تتأتى من خيالاته، واتساع رؤاه الوجدإنية والفكرية فيرسم فضاءه الديني في لوحة فنية مشحونة بتموجات داخلية وهموم ذاتية للتعبير عن تجربته الإنسإنية والابيات السابقة تثير تلاقي التراكيب في النص , اللهفة والدموع والنور واللوعة واللقاء والحنين ..
فتراتيل القديسين وصلوات الشهداء وتسابيح عشاق وطواف الملائكة يشعلون البخور ، اضاءات لمراسيم دينية يمارسها حجاج الاماكن المقدسة .ادت هذه الكلمات في صورها,دور الوسيط الدلالي ولعل التصور السيميائي لعنوإن القصيدة يمكن إن يمدنا بخيط مبدئي لنسيج الدلالة الكلية للنص فهو بمثابة هيكل إشاري مستتر خلف الكلمات ، فأذا نظرنا اليه فإننا نعده علاقة تتألف من إشارتين لغويتين مشحونتين بدلالات رمزية منفتحتين على قيم إنسانية وثقافية واجتماعية ونفسية وايدولوجية ، وقد أدت المفارقة الصورية التي رسمتها واحالتها ( خريف المآذن) الى نهاية وإنغلاق زمني.
إما ( ربيع السواد) فهي جملة بلاغية في غاية الإبداع والذكاء أبرزت عمق الإحساس بقيمة المكان وعبقريته وسره، فالربيع وما يحمله من معان وصور ومزجه مع لون السواد ، وما يحمله من صور الحزن والدموع والانكسار ، مزج بين متناقضين يمثلان رؤيتين جماليتين متصالحتين جوهرا ,تتضح عن طريقها خصوصية المكان . وبهذه العتبة النصية قرّ في ذهن المتلقي ، إن النص في حد ذاته قطرات بكاء مكتوم يسترجع فيها السارد الطقس الحزين لإحداث مؤلمة وقعت في ذلك المكان ثم ينقلنا الفعل الشعري إلى فضائه . فيقول:
يا اعتق المدن المقدسة
جئناك بالدر والحنين
لنرتشف من مائك الطهور
سلسبيل اغإني الذين لاذوا
بعفتك من نجاسة الحروب / المتكئين على ارائك المجد
وشهوة الخلود/ ابناء سبيلك
اطعموا الحلاج صبر همو / وأفاضوا على الملاء حلما(1)
في هذا الخطاب الديني الذي يتجدد في مقاطع القصيدة ، بتجدد بكارة الصور الوجدإنية تخاطب الأحاسيس، فكرا وتدبرا بما يبتعد عن المباشرة ,بدأ النص على هذا النحو لإن أفق القارئ يبدأ بتحفيز ذهنه مع بدء كل مقطع يربط بين مضمونه وعنوان القصيدة سعياً للمتوقع من حدسه وتبدو ذاتية الرؤية – بوصفها مشاعر وأحاسيس – جلية أكثر هنا ، فالحنين الذي يستحيل في دمه ثورة مضطربة ينتهي إلى تصوير ناري مجسد في صور الحروب التي دارت في هذا الفضاء. وتقف مرجعية الضمير ( نا المتكلم)في قوله ( جئناك)، شاهداً على الربط العضوي المعنوي ، وحدا بين الذات وفضائه الديني ، لتنطلق بما يجلي رحاب ( كربلاء المقدسة) مكانا روحانيا ً عبقريا ً.
إن مرجعية الضمير في قوله ( لنرتشف من مائك الطهور) تعود به الى العذوبة مذاقا، على الخبر الذي وصف الشاعر بـ ( سلسبيل) ، يجتذبه من الروضتين المقدستين ، جاعلا رشف النفس المطمئنة من ( مائك الطهور) الخير الفياض الذي يغسل مرارة الفراق والغربة ويطهر النفس من ذنوبها.
إن الاعلاء من قيمة الشعور، جلي في نصه الابداعي ,فهو جرس منغوم في لفظ هامس، ونبض فائر جعله ضوءا للحياة بحلّوها ومرّها. ولم يتخل هذا المبدع المغترب عن شغفه بمدينته المقدسة ، عبرصورتها في شعره ذي الطابع الوجدإني تعبيرا وتصويرا وايقاعا. يقول:
أي سلسبيل قباب الله ومآذنه
أو كلما ابتعدت عنك ازددت قربا
احمل بوصلتي فلا تشتهي إن ترتل اسمك
افتح كتابي فتشير كلماته الى زخرفك السماوي
قناديلي تغمس ضياءها في قبابك المذهبة / إنت فردوس الدموع
وبهجة النشيج / أحلامي تستوحي هديلك
فتفرك عن سريري النعاس/ ابل صمتي بخريف المآذن(2
إن المتلقي للنص السابق تقع في وجدإنه الديني رهافة موحية ، تربط - في نسغ صوفي- بين بقعة مقدسة ومعشوقٍ يتغزل الراوي في جمالها .فينقلنا الى فضاء كربلاء . ليصف من خلال تجليات المكان في خصوصية من التصوير رسما لقسماتها,عبررؤية شاعر كربلائي مولداً ، ونشأة . لتصير معشوقته مصدراً لجمال الطبيعة في أبهى صورها.
والشاعرفي رؤية يلفها خدر حيال قداسة المكان ورهافة الرؤية يقف بنا إمام قسمات وجه ( كربلاء) المكانة والمكان مبتعدا عن حدّة حسية الوصف الى براعة وخصوصية فيه لا تتجلى الا لوجه ( كربلاء الحسين) عبرنورها الاعظم الذي بدد ظلام البشرية وقهر الطغاة فالضياء الروحي والنور المنبعث من (قبابك المذهبة) لتوقفنا هذه المفردة مع الشاعر في حيز الاستلهام الروحي والشعائري للمدينة المقدسة. وبذلك تغدو هذه الصورة الشعرية المشرقة ، فضاءً زمنياً ونبوءة وابتهاجاً عطاءً وجوداً مصدره (كربلاء) في سرمدية خالدة . ويستمر السرد هنا في رسم ملامح الفضاء الديني على لسإن السارد المشارك فيقول:
طفولتي إنسى صباي
يترع العباءات في باب القبلة
وسنواتي في تل الزينبية
تلهو بالمسابح والعقيق
في شارع العباس يتزاحم الجمال مع الاسئلة
أي حاضنة الرياحين
إنا سادن عشقك العطش(3
إن تجليات( كربلاء) مكانا ومكانة روحية في النص تتخذ منه هوية حقيقية إذ الإنتماء بشتى مناحيه البيئية والموقعية بل والشخوص الذي يعيشون فيه أهلا وأصدقاء . ولعل تجربة الاغتراب التي عاشها ( باسم) قد صبغت شعره تجاه (كربلاء) ، بأبعاد أكثر انتماء لهويته الكربلائية – إن جاز لنا التعبير – حتى إنها جعلته ينظر بعين التحسر لأي منجز حضاري يغير جغرافية المكان، ولو كان لتوسعة أزقتها خدمة للحرمين ،كما هو موضح في نماذج آخري من شعره . ذلك إنه وجد هويته تتكون جسدا كما تتكون جسدية الأزقة والإحياء والشوارع التي عاش فيها على الرغم من طبيعتها الظاهرة نلمس هذا في قوله( طفولتي أدونها في ساحة الحرمين/ باب القبلة/ سنواتي في تل الزينبية/ في شارع العباس) وهذا الاسترجاع الزمني لماض بهي في ( حاضنة الرياحين) وعشقه لذلك الفضاء الروحاني ,يجعله ينفر من أي تغيير لمعالم المدينة لأنها هدم لروحانيتها وهويتها التي تتجسد في هندسيتها، ذلك لان ((علاقتنا بالمكان تنطوي – إذن – على جوانب شتى ومعقدة تجعل من معايشتها له عملية تجاوز قدرتنا الواعية لتتوغل في لا شعورنا فهنا جاذبة تساعدنا على الاستقرار وأماكن طاردة ترفضنا . فالإنسان لا يحتاج فقط إلى مساحة فيزيقية جغرافية يعيش فيها ، بل يصبو إلى رقعة يضرب فيها بجذورها وتتأصل فيها هويته))(1). وبذلك فإن البحث عن الهوية والكيان يأخذ شكل الفعل على المكان لتحويله إلى مرآة ترى فيها " الأنا" صورتها. إن تجليات هذا الفضاء الديني يهفو له قلب الشاعر السارد ، وتبدو لعيان المتلقي في قوله:
ترانيمي بجداولك وسواقيك
وبهوائك تعطرت
من مشاعلك أوقدت لغتي
إلى إن يقول:
القي السلام كابن بار
اتوغل في المطلق
عن يميني سدرة المنتهى/ عن شمالي كفا العباس
يلوحإن لي(2)
هذه الفضاءات التي يجليها النص إمام أعين المتلقي هي المثير الأول الذي معه ترق القلوب المرهفة بحب عذري، فيستدعي المكان المكانة ويستدعي المكان الأصغر ، المكان الأكبر في النفس . ( فسدرة المنتهى/ كفا العباس) هما رمزإن حيان يربطان الذات الشاعرة بالمحبوبة الصغرى( الأزقة والإحياء) والمحبوبة الكبرى التي ضمّنها بين ظهراني إحيائها وشوارعها.
ويمكن إن تكون لدلالة السلام والألفة والاستقرار لهذا المكان والفضاء الديني , أهمية من حيث البعد النفسي(للمكان) داخل النص , وداخل الصورة الشعرية ,إلى جانب وظائفه الفنية ,وأبعاده الاجتماعية والتاريخية والعقائدية التي ترتبط بالمكان و لا تفارقه , حتى أننا نسترجع هذه السياقات والإبعاد عند استرجاعنا للمكان نفسه, أو ما يرتبط به . وبين ألم الفقد والوداع واللهفة للمشاعر المقدسة ,انبجست مشاعر الشاعر ,وقد جسد فيها عناصر المكان في صورة مجددة الجرح , والذكرى , تكشف فيها لحظات الفراق وساعات التفجع لفراق المكان والأحباب . ومدى تشبث الشاعر بتراب أرضه وما احتواه مكانه المقدس (كربلاء) من عناصر , تجلت في رؤيا جذوة الشوق ومكنون القلب لها , لتطفو على سطح الرؤية الشعرية , فيسطرها إبداعًا .
***************************************************
باسم فرات: شاعر عراقي من كربلاء , مغترب منذ عام 1993 ومستقر في الاكوادور ,له نتاجات شعرية كثيرة ترجم معظمها الى لغات عديدة .
(1 الى لغة الضوء ، مجموعة شعرية، باسم فرات ,ص 23 .
(1) الى لغة الضوء، ص24.
(2 الى لغة الضوء، ص24.
(3 نفسه، ص26.
(1) مشكلة المكان الفني، بقلم يوري لوتمإن – تر: سيزا قاسم ، مج إلف - القاهرة ، ع- 6- ربيع 1986.
(2) الى لغة الضوء، ص26 -27.
المكان المقدس في شعر الغربة العراقي
قراءة في قصيدة (خريف المآذن ربيع السواد..)/ الشاعر (باسم فرات)
حين تمتزج المشاعر الشاعرة , بالمشاعر المقدسة .فهذا يعني تمازجا ً ممتدا ً على مستويات دينية وتاريخية وأدبية . فتشكيل المكان في النص الشعري -لاسيما النص المغترب مبدعه, روحيا ومكانيا – على هذه التصورات (ارتباطه بالخلفية الدينية على اختلاف مصادرها) , يبعث منه امتدادا ً للقيم الإيمانية التي تربط الإنسان بأمكنته , ومن ثم يحقق من هذا البعد تفاعل الذات الشاعرة بما يحدث فيه ,فتتأثر بسياقه الروحي.
وظلت الاماكن المقدسة , لها حضورها العميق على مستوى الموضوع والفكرة في الفن الشعري . وشكلت صوت حاضر في قصيدة الغربة للشاعر العراقي المغترب . ذلك إنهم وجدوا في هذه الأماكن ملاذا آمنا لروحهم المتألمة الفاقدة للهوية والانتماء. التقطت عيونهم من فضاءها القدسي وعبر المسير في هذه الرحلة ومن خلال مناسكها وتوظيف اسماء ورموز دينية ,صورا لا ينضب معينها , ومعان متجددة بتجدد هذه الرحلة الروحانية , لتلك الأماكن . كما وشكلت رموزاً دالة على وحدة الجماعة وتماسكها . ويعبر هذا الفضاء الديني عن وعي الإنسان بأهمية الصلة بين السماء والأرض , وعلاقتهما بوجوده . ومن هنا بدأ الترابط بين الحس الديني والحس المكاني في نفس الشاعر (باسم فرات) فانعكس في بناء فضائاته الدينية ,وإبراز معالمها الفكرية والجمالية . فنجد في ( خريف المآذن) عمقا ً في التجربة وثراءً في المفردات والصور . والميزة الجمالية تقودنا الى اثر الجمال الذي تركته هذه الاماكن في مخيلة الشاعر ,مما انعكس ذلك على بنية القصيدة . فعلى صعيد المفردات فقد انتشرت مفردات وصور للمكان الديني على مساحة ليست قليلة في النص, بدأ ً من العنوان ( المآذن , القبلة , الفردوس , القديسين , كهنة , تسابح , صلوات , ملائكة , كربلاء ,.....) . فتجربته تستنطق كوامن الذات بتوهجاتها الإنفعالية، والعاطفية التي توحي الى لحظتها الشعورية.. فتقدم نتاجاً شعرياً يتصف بالحسية والإنفعالية والمجازية الصورية وشاعرنا الغائب بأغترابه والحاضر بإبداعه الشعري يطالعنا هنا بإضاءة فنية ,وإيحاءات تنطوي على دلالات عميقة تجرنا صوب منجزه الإبداعي الذي تميز بصوره التي تجسد مكنونات غائصة في العمق الإنساني وهي تكشف عن ذات وموضوع مأزومين . إذ المقاربة ما بين الهواجس والحالات النفسية بلغة تشحن نفسها من عصر مليء بالتناقضات على المستوى الإنساني , فتتحول إلى أداة تحرك الحس الجمعي . يقول:
تراتيل كهنة وقديسين
صلوات شهداء
وتسابيح عشاق الرب
وما زالت الملائكة تطوف بأزقتك
يشعلون البخور
ولدرء براءتك من هشيم صرخات خمبابا
يخضبون غبارك بالحناء
وينشدون: / كربائيلو.. سيدة لا تشيخ ابدا
واختلاط حيرة الماء والاعداء معا
اسم عتيد يتوضأ تاريخا وبطولات / حزن خال من الضغائن
رايات بكاء يضيق بها الأفق(1
فالصورة الشعرية في نصه، تتسم بحيويتها التي تتأتى من خيالاته، واتساع رؤاه الوجدإنية والفكرية فيرسم فضاءه الديني في لوحة فنية مشحونة بتموجات داخلية وهموم ذاتية للتعبير عن تجربته الإنسإنية والابيات السابقة تثير تلاقي التراكيب في النص , اللهفة والدموع والنور واللوعة واللقاء والحنين ..
فتراتيل القديسين وصلوات الشهداء وتسابيح عشاق وطواف الملائكة يشعلون البخور ، اضاءات لمراسيم دينية يمارسها حجاج الاماكن المقدسة .ادت هذه الكلمات في صورها,دور الوسيط الدلالي ولعل التصور السيميائي لعنوإن القصيدة يمكن إن يمدنا بخيط مبدئي لنسيج الدلالة الكلية للنص فهو بمثابة هيكل إشاري مستتر خلف الكلمات ، فأذا نظرنا اليه فإننا نعده علاقة تتألف من إشارتين لغويتين مشحونتين بدلالات رمزية منفتحتين على قيم إنسانية وثقافية واجتماعية ونفسية وايدولوجية ، وقد أدت المفارقة الصورية التي رسمتها واحالتها ( خريف المآذن) الى نهاية وإنغلاق زمني.
إما ( ربيع السواد) فهي جملة بلاغية في غاية الإبداع والذكاء أبرزت عمق الإحساس بقيمة المكان وعبقريته وسره، فالربيع وما يحمله من معان وصور ومزجه مع لون السواد ، وما يحمله من صور الحزن والدموع والانكسار ، مزج بين متناقضين يمثلان رؤيتين جماليتين متصالحتين جوهرا ,تتضح عن طريقها خصوصية المكان . وبهذه العتبة النصية قرّ في ذهن المتلقي ، إن النص في حد ذاته قطرات بكاء مكتوم يسترجع فيها السارد الطقس الحزين لإحداث مؤلمة وقعت في ذلك المكان ثم ينقلنا الفعل الشعري إلى فضائه . فيقول:
يا اعتق المدن المقدسة
جئناك بالدر والحنين
لنرتشف من مائك الطهور
سلسبيل اغإني الذين لاذوا
بعفتك من نجاسة الحروب / المتكئين على ارائك المجد
وشهوة الخلود/ ابناء سبيلك
اطعموا الحلاج صبر همو / وأفاضوا على الملاء حلما(1)
في هذا الخطاب الديني الذي يتجدد في مقاطع القصيدة ، بتجدد بكارة الصور الوجدإنية تخاطب الأحاسيس، فكرا وتدبرا بما يبتعد عن المباشرة ,بدأ النص على هذا النحو لإن أفق القارئ يبدأ بتحفيز ذهنه مع بدء كل مقطع يربط بين مضمونه وعنوان القصيدة سعياً للمتوقع من حدسه وتبدو ذاتية الرؤية – بوصفها مشاعر وأحاسيس – جلية أكثر هنا ، فالحنين الذي يستحيل في دمه ثورة مضطربة ينتهي إلى تصوير ناري مجسد في صور الحروب التي دارت في هذا الفضاء. وتقف مرجعية الضمير ( نا المتكلم)في قوله ( جئناك)، شاهداً على الربط العضوي المعنوي ، وحدا بين الذات وفضائه الديني ، لتنطلق بما يجلي رحاب ( كربلاء المقدسة) مكانا روحانيا ً عبقريا ً.
إن مرجعية الضمير في قوله ( لنرتشف من مائك الطهور) تعود به الى العذوبة مذاقا، على الخبر الذي وصف الشاعر بـ ( سلسبيل) ، يجتذبه من الروضتين المقدستين ، جاعلا رشف النفس المطمئنة من ( مائك الطهور) الخير الفياض الذي يغسل مرارة الفراق والغربة ويطهر النفس من ذنوبها.
إن الاعلاء من قيمة الشعور، جلي في نصه الابداعي ,فهو جرس منغوم في لفظ هامس، ونبض فائر جعله ضوءا للحياة بحلّوها ومرّها. ولم يتخل هذا المبدع المغترب عن شغفه بمدينته المقدسة ، عبرصورتها في شعره ذي الطابع الوجدإني تعبيرا وتصويرا وايقاعا. يقول:
أي سلسبيل قباب الله ومآذنه
أو كلما ابتعدت عنك ازددت قربا
احمل بوصلتي فلا تشتهي إن ترتل اسمك
افتح كتابي فتشير كلماته الى زخرفك السماوي
قناديلي تغمس ضياءها في قبابك المذهبة / إنت فردوس الدموع
وبهجة النشيج / أحلامي تستوحي هديلك
فتفرك عن سريري النعاس/ ابل صمتي بخريف المآذن(2
إن المتلقي للنص السابق تقع في وجدإنه الديني رهافة موحية ، تربط - في نسغ صوفي- بين بقعة مقدسة ومعشوقٍ يتغزل الراوي في جمالها .فينقلنا الى فضاء كربلاء . ليصف من خلال تجليات المكان في خصوصية من التصوير رسما لقسماتها,عبررؤية شاعر كربلائي مولداً ، ونشأة . لتصير معشوقته مصدراً لجمال الطبيعة في أبهى صورها.
والشاعرفي رؤية يلفها خدر حيال قداسة المكان ورهافة الرؤية يقف بنا إمام قسمات وجه ( كربلاء) المكانة والمكان مبتعدا عن حدّة حسية الوصف الى براعة وخصوصية فيه لا تتجلى الا لوجه ( كربلاء الحسين) عبرنورها الاعظم الذي بدد ظلام البشرية وقهر الطغاة فالضياء الروحي والنور المنبعث من (قبابك المذهبة) لتوقفنا هذه المفردة مع الشاعر في حيز الاستلهام الروحي والشعائري للمدينة المقدسة. وبذلك تغدو هذه الصورة الشعرية المشرقة ، فضاءً زمنياً ونبوءة وابتهاجاً عطاءً وجوداً مصدره (كربلاء) في سرمدية خالدة . ويستمر السرد هنا في رسم ملامح الفضاء الديني على لسإن السارد المشارك فيقول:
طفولتي إنسى صباي
يترع العباءات في باب القبلة
وسنواتي في تل الزينبية
تلهو بالمسابح والعقيق
في شارع العباس يتزاحم الجمال مع الاسئلة
أي حاضنة الرياحين
إنا سادن عشقك العطش(3
إن تجليات( كربلاء) مكانا ومكانة روحية في النص تتخذ منه هوية حقيقية إذ الإنتماء بشتى مناحيه البيئية والموقعية بل والشخوص الذي يعيشون فيه أهلا وأصدقاء . ولعل تجربة الاغتراب التي عاشها ( باسم) قد صبغت شعره تجاه (كربلاء) ، بأبعاد أكثر انتماء لهويته الكربلائية – إن جاز لنا التعبير – حتى إنها جعلته ينظر بعين التحسر لأي منجز حضاري يغير جغرافية المكان، ولو كان لتوسعة أزقتها خدمة للحرمين ،كما هو موضح في نماذج آخري من شعره . ذلك إنه وجد هويته تتكون جسدا كما تتكون جسدية الأزقة والإحياء والشوارع التي عاش فيها على الرغم من طبيعتها الظاهرة نلمس هذا في قوله( طفولتي أدونها في ساحة الحرمين/ باب القبلة/ سنواتي في تل الزينبية/ في شارع العباس) وهذا الاسترجاع الزمني لماض بهي في ( حاضنة الرياحين) وعشقه لذلك الفضاء الروحاني ,يجعله ينفر من أي تغيير لمعالم المدينة لأنها هدم لروحانيتها وهويتها التي تتجسد في هندسيتها، ذلك لان ((علاقتنا بالمكان تنطوي – إذن – على جوانب شتى ومعقدة تجعل من معايشتها له عملية تجاوز قدرتنا الواعية لتتوغل في لا شعورنا فهنا جاذبة تساعدنا على الاستقرار وأماكن طاردة ترفضنا . فالإنسان لا يحتاج فقط إلى مساحة فيزيقية جغرافية يعيش فيها ، بل يصبو إلى رقعة يضرب فيها بجذورها وتتأصل فيها هويته))(1). وبذلك فإن البحث عن الهوية والكيان يأخذ شكل الفعل على المكان لتحويله إلى مرآة ترى فيها " الأنا" صورتها. إن تجليات هذا الفضاء الديني يهفو له قلب الشاعر السارد ، وتبدو لعيان المتلقي في قوله:
ترانيمي بجداولك وسواقيك
وبهوائك تعطرت
من مشاعلك أوقدت لغتي
إلى إن يقول:
القي السلام كابن بار
اتوغل في المطلق
عن يميني سدرة المنتهى/ عن شمالي كفا العباس
يلوحإن لي(2)
هذه الفضاءات التي يجليها النص إمام أعين المتلقي هي المثير الأول الذي معه ترق القلوب المرهفة بحب عذري، فيستدعي المكان المكانة ويستدعي المكان الأصغر ، المكان الأكبر في النفس . ( فسدرة المنتهى/ كفا العباس) هما رمزإن حيان يربطان الذات الشاعرة بالمحبوبة الصغرى( الأزقة والإحياء) والمحبوبة الكبرى التي ضمّنها بين ظهراني إحيائها وشوارعها.
ويمكن إن تكون لدلالة السلام والألفة والاستقرار لهذا المكان والفضاء الديني , أهمية من حيث البعد النفسي(للمكان) داخل النص , وداخل الصورة الشعرية ,إلى جانب وظائفه الفنية ,وأبعاده الاجتماعية والتاريخية والعقائدية التي ترتبط بالمكان و لا تفارقه , حتى أننا نسترجع هذه السياقات والإبعاد عند استرجاعنا للمكان نفسه, أو ما يرتبط به . وبين ألم الفقد والوداع واللهفة للمشاعر المقدسة ,انبجست مشاعر الشاعر ,وقد جسد فيها عناصر المكان في صورة مجددة الجرح , والذكرى , تكشف فيها لحظات الفراق وساعات التفجع لفراق المكان والأحباب . ومدى تشبث الشاعر بتراب أرضه وما احتواه مكانه المقدس (كربلاء) من عناصر , تجلت في رؤيا جذوة الشوق ومكنون القلب لها , لتطفو على سطح الرؤية الشعرية , فيسطرها إبداعًا .
***************************************************
باسم فرات: شاعر عراقي من كربلاء , مغترب منذ عام 1993 ومستقر في الاكوادور ,له نتاجات شعرية كثيرة ترجم معظمها الى لغات عديدة .
(1 الى لغة الضوء ، مجموعة شعرية، باسم فرات ,ص 23 .
(1) الى لغة الضوء، ص24.
(2 الى لغة الضوء، ص24.
(3 نفسه، ص26.
(1) مشكلة المكان الفني، بقلم يوري لوتمإن – تر: سيزا قاسم ، مج إلف - القاهرة ، ع- 6- ربيع 1986.
(2) الى لغة الضوء، ص26 -27.