انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

    محمد غازي الأخرس: من خريف المآذن .. إلى ربيع الاحتجاج..حين تصارع اللغة العالم

    avatar
    Admin
    Admin


    المساهمات : 533
    تاريخ التسجيل : 14/09/2010

    محمد غازي الأخرس: من خريف المآذن .. إلى ربيع الاحتجاج..حين تصارع اللغة العالم Empty محمد غازي الأخرس: من خريف المآذن .. إلى ربيع الاحتجاج..حين تصارع اللغة العالم

    مُساهمة  Admin الجمعة أكتوبر 22, 2010 4:26 am

    بلغة مشحونة بدلالات الحزن والانكسار، وبصور تستحضر قيم الخيبة ، يطلق الشاعر العراقي باسم فرات ، المقيم في نيوزلندا ، صرخة احتجاجه الثانية في كتابه الشعري الجديد هذا ، حيث كان قد نشر قبل ذلك ديوانه الأول " أشدّ الهديل " عن دار ألواح – اسبانيا عام 1999 – مضيفاً لمنجزه السابق تجربة غنية تستحقّ أكثر من وقفة تأمل .
    يمكن الزعم ان الشاعر ، في ديوانه الجديد ، كما في منجزه السابق ، إنما يجسّد بشكل عميق تلك العبارة الدالة التي يقدم بها نفسه للقارئ ، في أولى صفحات " خريف المآذن " قائلاً " عام 1967 أطلقتُ إحتجاجي البكر في مدينة كربلاء – العراق " ، مشيراً ، بكناية ذات مغزى ، لتماهي فعل الولادة والانقذاف الى العالم مع فعالية الاحتجاج المنوّه عنها باطلاق الصرخة الاولى ، بل ربما يغلّب الشاعر دلالات الاحتجاج في تلك الصرخة الحيوانية التي يستقبل بها الوليد عالمه الجديد ، والحال ان صرخة الولادة هذه ، ظلّت دائماً موضوعة تساؤل وتأويل في ذهن الانسان ، البعض يرى ان الوليد حين يخرج إلى عالم النور فانه يصرخ باكياً لمفارقة عالمه الأول ، عالم الرحم الفطري ، والمرتبط أشدّ الارتباط بعالم الحقيقة حيث لا مشوشات تضيع في زحمتها الحقيقية السابقة ، البعض الآخر يعتقد ان الطفل إذ يدخل عالمه الدنيوي فانه يبكي هلعاً من ولوجه إلى عالم الفناء والزوال وهو دون شك ، ماضٍ قدماً إلى لحظة الموت ، بل لكأن الطفل هذا إنما يبكي من هول مصيره القادم ، والحق ان هذه الأفكار لا تعدو كونها تأويلات مثالية الطابع تحاول التفكّر في أفق تلك الصرخة الغامضة ، صرخة البدء التي يكني بها باسم فرات لحظة مجيئه للعالم ويوصفها بكونها الاحتجاج البكر في مسيرته كذاتٍ قُذف بها في أتون الوجود دونما إرادة.
    يمكن اعتبار اللحظة الغامضة هذه نقطة لولوج عالم الشاعر الذي يبدو وكأنه عالم متماهٍ مع ذات منكسرة ، فاقدة الارادة ومهجوسة بمفاهيم العدم حيث الاشياء من دون معنى وحيث الزمن عابر ، تغترب فيه الذات وحيث الامكنة مقيتة ومميتة . لنسمع ل "باسم فرات" مثلاً وهو يقول: " أنا لم أخبئ طفولتي في قميصي
    لكنها سرقتني من الحرب "
    يلاحظ هنا ان الطفولة تأتي وكأنها صنو الحرب ، أي ان هذه الذات المهجوسة بصورٍ عدمية لا تفعل شيئاً سوى أنها تقرّ انها تقرّ للطفولة عدمية هي ذاتها التي تبسطها الحرب. نقول ان ثمة ، على الدوام ، أشياء منزوعة المفاهيم ، في شعرية باسم فرات ، أو بالاحرى ، هناك سلب لحقيقة ومعنى الأشياء بالنسبة للذات المنتجة لدلالات الأشياء . والشاعر لا يتوقف أبداً ، وبأشكال لغوية متنوعة ، عن التعبير عن عجزه والاشارة إليه إزاء عمليات السلب والاستلاب هذه ( الحروب التي كنت خاسرها الوحيد
    علقتها على مضض




    ومضيت أبحث عني )
    أو
    ( من يمسك بظلّه؟
    أخطاؤنا وطن يتكئ على حربه
    وأحلامنا تنمو على الشرفات ) .
    ندعي هنا ان عجز الذات عن فهم علاقتنا بالعالم ، وهي علاقة تبدو الذات فيها عجزاً مطلقاً عن التحكم بالعالم ، إنما يتجسد لغوياً في خصائص عدة ، بلاغية واسلوبية . ثمة مثلاً آلية التساؤل التي تستبطن دلالة العجز ( كيف لي أن أجعل الآس لا يشير إلى أسراي ص42 ) كيف لي أن أطرد الأشجار من رأسي ص45 ) ( أي حلم يجفف طفولتي ، أي حلم يشقّ صباحاتي .. ص9 ).
    ألى جانب ذلك ، ثمة آلية التشخيص المتجسدة بالمناداة وهي مناداة تشمل الأشياء والاماكن والتواريخ والقيم ، وهي جميعاً تبدو غائبة ، وما آلية تشخيصها ومن ثم مناداتها سوى محاولة محكوم عليها بالفشل والخذلان ، لنلاحظ هذه العبارات ( يا بلادي استرجعيني ص 9 ، سلاماً مناديل الوداع ص 11 ، سلاماً عباءات الدموع ص 11 ، يا خطاي لا تسعك البراري ص 44 ، يا أعتق المدن المقدسة ص 52 ..الخ .
    واقع الحال ان آلية التشخيص ، كما يمارسها فرات ، تأتي كمحاولة استحضار تستبطن ، بالضرورة ، صور السلب والغياب ، ولعلّ اللغة الشعرية كلها تستبطن صور السلب ذاته ، والحال ان السلب المشار إليه لم يأت اعتباطاً في هذه التجربة الشعرية ، بل هو ، إن أردنا الدقة ، تجسّدٌ لواحدة من أزمات الذات المنفية والمقتطعة من جذورها ، لذا ، ما كان غريباً أن تعتاش اللغة نفسها على ذخيرة الذاكرة من رموز بصرية ومفاهيم تشير لملامح هوية ما ، كما هو حاصل في نصوص " جنوب مطلق " و " خريف المآذن .. ربيع السواد .. دمنا " و " عواء ابن آوى " و " أقول أنثى .. ولا أعني كربلاء " .. وغيرها . نقول ان الشاعر ، في هذا الديوان ، يحقق واحدة من ظواهر الشعر المكتوب في المنفى ، وهي تلك الظاهرة المتعلقة بطرح صورة من العلاقة مع العالم تشوبها لكنة أحتجاج مر ، والراجع بدوره لمدى التغيب الذي مارسه العالم ضد الذات ، سواء كان العالم وطناً مزقته الحروب أم كان منفى يمزّق مفاهيم الانتماء ويسلب عن الذات وشائج الارتباط بالهوية الغائبة .
    باسم فرات يعلن عن هذه الظاهرة بقوة ، وبنبرة عالية وهو إذ يفعل ذلك فانه يفعله بحرفةٍ وأناة . على ان اللغة المبنية بكذا رؤية إحتجاجية لا تخلو أحياناً ، من ترجّل وهذيان ، ربما كانا يمثلان " متحجرات " ثمانينية عُرف بهما الشعر المكتوب في مرحلة الثمانينيات في العراق .
    ولعلّ السبب يرجع إلى ان باسم فرات قج تربى على مثل هذه اللغة ذات يوم فبدت آثار ذلك واضحة في لغته . انها إذن تجربة منفى وللمنفى أثر لا يخفى في الشعر الذي يُكتب ويتداول هذه الأيام ، بدأ من طرح إشكاليات الانتماء ومروراً بالمفردة السوداء الملتاعة والمريرة وانتهاءً بالتعكز الذي يبدو غير مبررٍ أحياناً على الذاكرة لا سيما ما يتعلق منها بالجانب الكارثي من العالم .
    لنقرأ المقطع الآتي وليكن مفتاحاً لفهم "شعرية " المنفى ، أو ليكن قفلاً لفهم الوطن المنتج لهكذا أشعار ( أعلّق عمري على رصاصة ،
    تدلّت من سماء بعيدة
    أصابعي بقايا مدن غابرة
    وختم الموتى خطواتي ) .

      الوقت/التاريخ الآن هو السبت سبتمبر 28, 2024 10:28 pm