يجوب الشاعر العراقي باسم فرات (1967) المقيم في الإكوادور بين نصوصه الجديدة (بلوغ النهر) أجواء حكايات الرحّالة الذين ما تركوا كبيرة ولا صغيرة في رحلاتهم إلا صبغوها بحبرهم.
جاب هذا الشاعر الصين وكمبوديا والإكوادور ولاوس بحثا عن الصورة، عن الخيال الذي يمده بالكلمات و يجعله جليس لغة صارخة يتناوب عليها السرد والبلاغة معاً، كأنك في ورشة شعرية تحضر فيها الفلسفة (الرؤية) وتجتمع المعرفة مع محاولات تجريبية لمسحات صوفية صافية تندلق منها مقولات الشاعر الذاتية الخاصة (مخاطبات) و(مناجاة) مع محاولة دائمة في تعريف شعره عبر التخاطب المنتظم لبنية الإيقاع الكامل للنص, ومن يعد إلى مجموعاته الأولى «أشدّ الهديل» عام1999 فلن يحتاج إلى معجم لغوي أو دليل قاموسي ليجتاز وعورة ومسالك النص، فهو يفتح الباب على مصراعيه للقارئ ويدلّه على كنوزه وأسراره وغنائمه ونسائه وأحزان وطنه وتأملاته في رحلة حياة امتدت على طول حدود آسيا, و تخطت نيوزلندا و هيروشيما حيث يتوقف النص عندها ويبدأ نزيف الكلمات في احتفاء غريب بهذه المدينة التي استيقظت على هدير طائرات لوّنت سماء المدينة بلون واحد هو الأحمر الدافئ أبداً:
(حينَ تَدخلُ.. عليكَ أنْ تَحذرَ الارتطامَ بالأنينِ
أو أن تُحرّكَ دَمعةَ طفلةٍ بارتِباكِكَ
اضغطْ على الزرِّ وأنصتْ لِحِكاياتٍ صامتةٍ
حكاياتٍ توغلتْ القسوةُ فيها والألَمُ
خلفَ الزجاجِ ثمةَ حِدادٌ زادَهُ الزمنُ نضارةً
ثَمّةَ بَقايا رَمادِ الضحايا،
أشباهُ ساعاتٍ تُشيرُ إلى الثامِنَةِ والربعِ صَباحًا
دُمًى عليها آثارُ أصابعَ احترقتْ
قلائدُ صَدِئةٌ، ما بقِيَ من طفولةٍ ابتلعَها الجحيمُ
في الأقفاصِ الزجاجيةِ قافلةُ أحلامٍ تَجمّدتْ
وكثيرٌ من حماقاتٍ وخيالاتِ رجال أثقلتْ أكتافَهُم النياشينُ)
باسم فرات لا مرجعية له إلا مرجعية مخيلته البصرية, عيونه التي تعادل عيون السينمائي في نقل ما هو ممدد على مرمى خياله, شعرية تغوص في لملمة التفاصيل نحو مساحة غامضة تجوب فيها اللغة بدورياتها, لتأسر ما هو مدهش وطائش وصاعق, إنه يلوّن الكلمات بألوان الطبيعة التي صبغت في مخيلته كجزء من طبائع المدن والأمكنة التي مازلت عالقة في أعماقه:
(الصفحةُ بيضاء
القصيدةُ تَتَشَكّلُ
وأنتَ هنا مُحاطٌ بألفِ بوذا
ينهمرونَ برهبانِهِم وتراتيلِهم
وبخورِهم
تَستنشقُ آلامَهم المستعادة
تتدفقُ المياهُ حولك
لكن أصواتَ الكائناتِ تُربكُ زهوَك
علقٌ أبيضٌ، أخضرٌ، أحمرٌ، أسودٌ
وأعلاقٌ أطفأتها الريحُ
ابتهالاتٌ تتَواشجُ، فتسقطُ اللغاتُ عنها ويبقى الندم
أضحيةٌ لم يمسسْها الغفران
تسيلُ معابدَ وأطفالاً حُفاةً)
يكتب باسم كعادته نصاً طويلاً, مفتوحاً على معان تولد من تلقاء نفسها, أنه يجعل من نصه سياقات دلالية تتحرك وفق مكونات رؤيوية و تخييلية كجزء من نص مفتوح على احتمالات كثيرة و فسحات جمالية متنوعة.
والديوان هو الإصدار الشعري الخامس بعد: («إلى لغة الضوء»، عن دار الحضارة، «أشد الهديل» (مدريد)، «خريف المآذن» (عَمّان)، «أنا ثانيةً» (منشورات المركز العربي السويسري: زيورخ- بغداد)».
ويضم الديوان الجديد ثلاثة وثلاثين نصاً شعرياً، في تجربة فريدة، حيث كتبها في 6 من البلاد النائية، تغرّب فيها، والْتَحم بها، وتحاور معها، وحنّ إليها كما حنّ من قبل إلى وطنه العراق. وهي: نيوزلاندا، اليابان، جمهورية لاوس، تايلند، فيتنام، وكمبوديا، ومن هناك جاءت قصائد الديوان لتعبر عن واقع عايشه وعاشه شاعر اغترب عن وطنه، وجال في هذا البلاد.
يذكر أن باسم فرات من مواليد عام 1967 كربلاء، بدأ النشر عام 1987، ِفي جريدة العراق، ثم توالت قصائده وإصداراته، حتى صار من أقطاب قصيدة النثر، خرج من العراق عام 1993، منتقلاً إلى الأردن، ثم إلى نيوزيلندا، ثم إلى هيروشيما، ثم استقرَّ به المقام في جمهورية لاوس.
جريدة تشرين السورية
http://tishreen.news.sy/tishreen/public/read/262911