الشاعر العراقي المغترب باسم فرات يبوح بالكثير في لقاء خاص
حاوره / بلاسم الضاحي
الشعر لعبة ...
تتسع باتساع الرؤيا نعبر من خلالها نحو فتح أبواب المجاهيل
المؤدية إلى فضاءات غير مأهولة في ذواتنا المعتصمة بأماكنها .
الشعر لعبة ...
تحتاج إلى إتقان قوانينها بمهارة صياد صابر ينتظر متى يطلق
احتجاجاته لإعادة صياغة شفراته الحياتية ، يغيير ألوان زمانه
ومكانه ، محتجا من بغداد الى عمّان إلى نيوزلندا إلى هيروشيما إلى .....
لغته الشفيفة احتفظت بقاموس من المفردات والتراكيب والاستعارات
الفريدة ، ساهمت في انتاج نص شعري يسعى دائما إلى أن يخرج نحو
اكتمال ـ القصيدة ـ القصيدة ـ المنحازة بتوازن إلى الجماليات والصور
الباحثة عن الدهشة ، المحتفظة بخصوصية التفرد بين مجايليها ...
يحاول أن يدفع الداخل / الأليف / المعذب / الثابت نحو التعميم / المتحول
خارج ستر الجسد باختصار شعري يمازج بين الصورة ومعناها مرة
بالمباشرة المحببة وأخرى بدعوة التشفير الواعي لحداثته .
حاورناه من ( هيروشيما ) حيث يقيم جسده هنالك ـ عبر الانترنيت ـ من
هنا من بغداد حيث تقيم روحه أسوة بأرواحنا المعذبة بأزيز رصاص الاحتراب
الذي يظهر انه استوطن ارحامنا التي لم تلد سوى أجنة مشوهة !!!
* هل أنت شاعر ؟
أطمح لأن أكونه ، وكل ما أفعله هو محاولات ، لا أدري مدى نجاحها ، ولكني أعلم ان لاطريق اخر لي سوى الشعر ، فهو المنتهى والمرتقى ، والحلم الذي نقضى العمر في سبيل الوصول اليه ، هل أنا شاعر ؟ هذا ما يحدده الآخرون ، ولكني على يقين ٍ، بأني تلميذ نجيب في مدرسته العظمى ، أواظب على التلقي والبحث والتأمل والمعرفة والتجربة وكل ما يتطلبه فهمي للشعر ، وهضمه لتوليد قصيدة ، تنتمي للشعر الخالص ، وفيها مميزات القصيدة وليس الشعر فقط ، فهناك من يكتبون شعرا ولكنهم لايكتبون قصيدة ولم ينوجد الشاعر الذي يكتب القصيدة في كل مرة ، بل غالبية الشعراء يكتبون شعراً ، ونادرا ً مايكتبون قصيدة .
* إذن كيف نميّز بين القصيدة والشعر ، أو كيف تُنَظّرُ للقصيدة خارج الشعر ؟
لستُ منظراً ، وانما أنا كاتب نص ، أطمح لأن أكون شاعراً ، وان يرقى نصي ليصل الى مستويات القصيدة – القصيدة ، فلو عرفنا أن نميز جيداً ونضع القوانين الرياضية للقصيدة ، لخرجنا من فضاء الشعر كعمل إبداعي يعتمد الموهبة والخلق والحدس والذائقة ، إلى ماهو غير شعري ، ولكني لن أجافي الحقيقة لو قلت لك ، إن الشعر يكتبه غالبية الشعراء ، بينما القصيدة لم يتمكن شاعر ما من كتابتها باستمرار، الشعر هو جمل شعرية متنوعة ، والنجاح في إحدى صوره ، هو كيفية استخدام هذه الجمل ، والتعاطي معها . الشعر موجود في أجناس أدبية كثيرة ، ولكن القصيدة ، حصرية ، أي لا نجدها في الأجناس الأدبية الأخرى، وفي غالبية ما يكتب تحت لافتة الشعر ، وجودها شبه نادر ، قد يقضي الشاعر نصفَ قرن في كتابة الشعر ، ولكنه حتماً سوف يكون محظوظاً ، بل وجدّ مهم في الشعرية لو كتب ثلاثين قصيدة صافية ، والتي ادعوها بالقصيدة – القصيدة .
كثيرون هم الشعراء الذين يقعون في هذا المطب ، فيخلطون بين الجُملِ الشعرية المتنوعة في ذات القطعة الشعرية التي نطلق عليها جزافاً قصيدة ، كما ويسيئون استخدام اللغة الشعرية ، وتكون بداية قطعتهم الشعرية وخاتمتها باهتة ، لا روح فيها ، ولا دهشة .
* كيف اهتديت إلى الشعر أو من دَلّكَ عليه ؟
الفطرة ، فلقد ولدت وانا اعشق الشعر ، والا لماذا حفرت قراءات جدتي للقرآن وكتب الادعية ، عميقا ً في روحي ، بينما لم يلامس هذه الروح عشرات الامور التي كانت تحدث امامي ، ولهذا أرى ان الموهبة تولد مع الانسان ، ربما تلهيه بيئته عن ان يتلمسها ، ولكن حتما ً سوف يقع عليها ، وان كانت احيانا ً الكتابة وخصوصا الشعر ، نزوة ، فكلنا يعرف مئات الشعراء يتركون الشعر قبل ان يتخطوا الثلاثين ، وعشرات يتواصلوا بعد الثلاثين لسبب اجتماعي ، وليس لرغبة عميقة في ذواتهم ، ولكن حتما الشاعر الحقيقي هو من يستمر ، ولن يتنازل عن مشروعه الذي نذر حياته له ، علماً اني بدأت كتابة الشعر وانا في الابتدائية .
* ماذا تريد من الشعر ؟
أن يعيد التوازن لروحي ، انه عزائي الأبهى، لا أريد تغيير العالم بالمفهوم المراهقي الذي تعلمناه ، فلقد اثبتت لي الايام اني أعجز من أن أقف بوجه دهاء السياسي وتجار الحروب والمشاعر والوطنية والحقوق المغتصبة ، يكفيني ان اقف ضد المد الجارف للظلام والخراب ، اعزل الا من كلماتي ، لااغني للموت والحروب ، ولا امدح الطغاة بحجج واهية كما فعل غيري ، لا أبيع وطني وكلماتي من اجل حفنة اوراق نقدية ، او منصب ما في مجلة او جريدة او اية مؤسسة ثقافية ، او دعوات لمهازل تسمى مهرجانات وهي في حقيقتها تريد تصدير فكر شوفيني ، تحت مسميات شتى ، بل راح بعضهم يدعو لتقسيم بلده ارضاء لجهة لاتملك آثارا ً في العراق ، ولاتستطيع أن تثبت بالأدلة أن طروحاتها وادعاءاتها موثقة تاريخياً، إن كانت ادعاءات طائفية بغيضة، أو شوفينية عنصرية تشهد كل متاحف الدنيا على شوفينتها وعنصريتها .
* هل هذا مبني على عدم دعوتك لمهرجانات شعرية في العراق ؟
لست معنياً بهذا ، ولا يمكن أن احضر مهرجاناً في العراق ،غاياته ليست شعرية خالصة تماماً ، ما عنيته بسلبيات المكان اللاإرادي هو ، الشعور بالغربة والحنين ، والعيش وسط لغة مختلفة تماماً ، ان تتلفّت ، فلا مكتبات باللغة التي تكتب فيها ، ولا رنين مناداة الباعة ، والجمل التي تطرق مسامعك بعفوية نتيجة الازدحام في السوق ، لست مما تعودت عليه مسامعك ، التكيف مع المكان الجديد ، والذي قد يأخذ من عمرك سنيناً مثلما أخذت الحروب والأنظمة الرعناء في بلدك ، وكأن المنفى يقول لك : أين حقي ؟ .
* من يتكلم داخل نصوصك الشعرية ؟
صوتي الخاص ، الذي هو نتيجة موهبتي وقراءاتي وتجاربي وتأملي، وبحثي الدائم لصقله وتشذيبه ، هو أناي العليا.
* ما هي آليات تحديث نصك الشعري ؟
الموهبة والتجربة والقراءات ، والمحاولات الدؤوبة لخلق جملة جديدة ومتفردة ، لغة خاصة بي ، نابعة من تجاربي ورؤيتي للحياة وللشعر وللثقافة ، والتقليل من بذخ الجملة الشعرية العربية ، وانزالها قدر الامكان من برجها العاجيّ ، وتجاوز المألوف والعادي ، والتطلع لعملية خلق حقيقية .
* ماذا تعني عندك الحداثة ؟
الحداثة بحد ذاتها مشروع انساني راق ٍ جدا ً، انها أنساق مختلفة في الكتابة والوعي والسلوك والنظرة العامة للحياة ، الحداثة هي الثورة المتجددة ، والتي تثور على نفسها من آن لآن ، الحداثة هي العجلة الصحيحة في قاطرة التقدم الانساني ، من أجل غد ٍ أكثر اشراقة .
ألا ترى معي، أن الظلاميين ( دعاة المشاريع والافكارالشمولية قاطبة ً) لايحبذونها، بل يتهمون دعاتها بشتى التهم، بدأ من العمالة ، وليس انتهاءً بالالحاد، لأن الحداثة تفضح مشاريعهم المدمرة لانسانية الانسان ، بل للاوطان أيضا ً. الحداثة حالة متفوقة حتى على العلمانية ، العلمانية بمعناها الحقيقي ، لا الذي روّجه البعض جهلاً أو انتقاما ً، أي الموقف العلمي والعقلاني والواقعي من الوجود.
* هل الحداثة تحطيم الأنساق التقليدية للموروث الشعري ؟
في جزء كبير منها نعم ، والحداثة ضد تجهيل الشعر ، وتحويله الى ذلك الكلام الموزون المقفى ومن يحفظ الف بيت من الشعر ، صار شاعرا ً ، انها ثورة حقيقية ، وان أسيئ استخدامها من قبل الطفيليين ، ولكن ، أليس الموروث الشعري يحمل الافا ً مؤلفة من الطفيليين والادعياء ، وقصائد المديح التي قيلت بحق الحكام على مر الزمن ، أليست طفيليات تعتاش على جسد الثقافة ، ماعلاقتها بالابداع ، خذ اي منظومة مما نظم في المديح وترجمها لعشرين لغة ، وخذ قصيدة انشودة المطر او الاخضر بن يوسف او اي قصيدة لسركون بولص ، وترجمها لذات اللغات ، وسترى الفرق الشاسع ، فمن يقرأ الكلام الموزون المقفى الذي قيل في حق طاغية وتحويله الى ملاك رغم انه تفنن بقتل وتعذيب الناس بدون رحمة ، سوف لاتبقى في ذاكرته ولن يستسيغها ، لكن نصوص الحداثة المشار اليها اعلاه ، يتوقف عندها الناطق بالانكليزية مثلما الناطق بالفرنسية والاسبانية واليابانية والكورية والهولندية الخ ، الروح الانسانية العالية التي في القصائد الحداثوية ، تلتقي مع نظيراتها في كل مكان وزمان .
* ومن قال إن الموروث الشعري جهل ؟ هل تقصد أن القصيدة الحديثة هي التي تخرج عن أنساق الوزن والقافية لتكون قصيدة حداثوية ؟ ماذا تقول في المتنبي الذي يناقض حضوره ماتقول ؟
أنا لم اقل إن الموروث الشعري جهل ، بل عنيت الفكرة الساذجة التي تقول: إن من حفظ ألف بيت من الشعر صار شاعرا ً، فالشعر بالنسبة لي موهبة وتجربة ومعرفة وتأمل ، وهو غاية كبرى لا تدركها أية غاية أخرى ، وحين يتحول إلى وسيلة ، يفقد ماهيته ، مثلما يفقد ماهيته حين يتكون من جمل مكررة آلاف المرات ، أو تلك المعارضات ، وخصوصاً معارضات أحمد شوقي التي هي تضليل وتجهيل للمخيلة والذوق والإبداع والشعر عموما ً، معارضات قائمة على السرقة والاستنساخ ( استنساخ تركيب الجملة عند من سبقه ) ، أو أن تتحول يا غريب الدار إلى يا نائي الدار ، هكذا بكل بساطة . القصيدة الحديثة ، حديثة بجملها ولغتها وخطابها ، تبحث عن الشعر في داخل الشاعر ، وتنهل من معين تجربته ورؤيته ، وتتجاوز همّها .
أمّا ما أقول عن المتنبي فهو ثلاثة: الشاعر، والمثقف ، والنرجسي، وحضوره الطاغي هو في نرجسيته وبشكل أٌقلّ كثيراً في شعره ، أما المتنبي المثقف، فلا حضور له في الغالب الأعم ، أي أن حضوره كمثقف يكاد يكون معدوماً ، والدليل ، كل من قرأت لهم أو التقيتهم أو ناقشتهم أو سمعتهم ، يكادون أن يأخذوا من المتنبي نرجسيته المفرطة والتي لا أشك أن المخيال الشعبي والمخيال الزمني ( كل الشخصيات يلعب الزمن دورا كبيراً في أسطرتها حتى تتحول الى مقدس ) قد لعبا دورا كبيراً في وضع عدسات مكبرة عليها مع رتوش ، حتى أسطرتها ، ولكن مَن مِن هؤلاء يعرف المتنبي المثقف واستفاد منه ، المتنبي الذي أحاط بعلوم ومعارف عصره ، فهو المطلع على الفلسفة والفقه وعلم الكلام والتاريخ والمنطق ...الخ . المتنبي هو أحد كبار مثقفي عصره ، الذي يعدّ باتفاق الجميع تقريباً على انه ذروة الحضارة العربية الإسلامية ، اعني القرن الرابع الهجري – العاشر الميلادي ، فهل الذين يشكل المتنبي حضوراً في وعيهم ، ويفاخرون بنرجسيتهم ، ويحسبون أنفسهم أشعر الشعراء ، ويلغون الآخر ، حتى لو انهم لم يقدموا عُشر ما قدّم الآخر ، أقول هل هم يمتلكون ثقافة المتنبي والتي تعني في يومنا هذا موسوعية المعرفة وغزارة المعلومة ، وتنوعها ، واستنباط آراء وأفكار خاصة بهم ، ألا ترى معي ، إن غالبية قراءات شعرائنا لا تتعدى الشعر والرواية والقصة والمسرحية والنقد ، وان حدث فقليل من الفلسفة ، بينما المتنبي ، بل ومعظم إن لم يكن جميع كبار المبدعين في الأمم الأخرى يملكون ثقافة هائلة عن تاريخ بلدانهم ، أما نحن واعني مقلدي المتنبي في ما رُويَ عن نرجسيته والتي أشك ببعضها كثر أو قلّ هذا البعض ، فجهلة بكل ما في الكلمة من معنى ، حتى إن كتباً مهمة ً ومفصليةً في تاريخ العراق ككتاب " مشكلة الموصل " يجهله عبيد نرجسية المتنبي جهلا تاماً ، ويكاد معظمهم يجهلون من هو مؤلف أهم كتاب عن اليزيدية ، والذي كل ما كتبَ بعده عالة عليه ، أما عن المسيحيين ، وتنوعهم اللغوي واللهجوي ( لهجاتهم ) والمناطقي والمذهبي ، فلا يعرفون عنه سوى بضعة كلمات لا أكثر ، وكركوك التي أنجبت أهم جماعة أدبية في تاريخ الأدب الحديث المكتوب بالعربية ، هذه الجماعة التي هي الدليل القاطع على شوفينية القوميين في العراق بكل تنوعهم اللغوي ، لم يكلف أتباع المتنبي النرجسي وليس المتنبي الشاعر والمثقف ، أنفسهم ، بالبحث في تاريخ المدينة لمعرفة سبب إنجابها لهذه الجماعة ، ولهذا العدد الكبير من المبدعين الذين يكتبون بالعربية رغم أن المدينة عمرها لم تكن عربية خالصة بل ان العرب فيها لا يشكلون ثقلاً عددياً مهما ً، حيث منذ فجر التاريخ والمدينة بغالبية آشورية – آرامية ، مع تواجد يوناني وعربي وفارسي وارمني وبعض الجماعات الآرية التي كانت تجلب مواشيها في عز الشتاء فقط عند تخوم المدينة هرباً من الجبال وثلوجها ، ولكن ومنذ زمن المعتصم ، بدأ التواجد الوسط آسيوي ( الأقوام التركية بكل تنوعاتها ) يثبت له قدماً في المدينة ليزداد بعد الغزو المغولي ولتتحول إلى مدينة بصبغة تركمانية مع دولتي الخروف الأبيض والأسود ، وحتى وقت قريب جداً لا يتعدى سنوات ، رغم محاولات الانكليز ، إقصاء التركمان تماماً من العمل في شركة النفط ، بل ان معظم عمال شركة النفط ، جلبوا من الجبال المجاورة ومن إيران وتركيا ، وهم من غير التركمان والعرب والكلدوآشوريين السريان ( كما يحلو ان يسموا أنفسهم ) ، آسف للإطالة ، وأحب ان اختم السؤال بالقول ان المجتمعات الغربية وغيرها ، تعتبر فيها النرجسية ، سلوك معيب جداً ، كما اشكر المتنبي المثقف الذي تعلمت منه الكثير.
* هل تدعو إلى انفتاح الشعر نحو الأجناس الأدبية الأخرى والاستفادة من آلياتها باتجاه خلق نص شعري جديد ؟
هذا من بديهيات الحداثة ، بل إني أؤمن أن ينفتح الشاعر ويستفيد من كل المعارف والفنون والآداب ، لتصب كلها في نصه، الذي هو منتج ثقافي أولاً، ولهذا أحرص على تنوع قراءاتي وان كان التاريخ والفكر لهما القدح المعلى ، في مجال اهتماماتي القراءية ، وأستغرب ممن قراءته لاتتجاوز الابداع ، وتعرض عن الفلسفة والتاريخ والفكر عموما ً، فتنوع القراءات تمنح النص ، دفقا ً معرفيا ً وانسانيا ً.
* لاأقصد التثقيف الذاتي للشاعر، الذي أقصده ظهور نتائج تلاقح الاجناس الأدبية في النص الذي نجنّسه بالشعر؟
ظهور نتائج تلاقح الأجناس الأدبية في الشعر ، يحكمه وعينا ومتابعتنا وتثقيفنا لذائقتنا بالأجناس الأدبية والفنية أيضاً ، فكيف نستطيع الاستفادة من السرد في الشعر لو لم تكن لدينا قراءات واسعة للسرديات الأدبية ونقدها ونظرياتها ، وكذا الحال ينطبق على بقية الأجناس ، وهناك الكثير من الشعراء ، من تجد الفن التشكيلي أو السينما أو التصوير الفوتوغرافي أو بقية الفنون حاضرة في نصوصهم ، وقد أشار أكثر من ناقد إلى تأثير ، حرفتي وعملي كمصور فوتوغرافي على شعري .
* أرى أن النقد العربي يعمل على سحب النص إلى دائرة معقوليات الناقد وقياساته المعرفية ماذا ترى أنت ؟
أتفق معك تماما ً ، ولكن ، أليس الناقد قارئ قبل كل شيئ ، وكل قارئ يسحب النص الى دائرة معقولياته وقياساته المعرفية ، وذائقته الأدبية ، وهنا تقل الخسارة كثيرا ً، بل ربما نجد هامشا ً من الربح في العملية ، وهذا ما يجعل النص يقبل قراءات كثيرة ، وان كانت بعض هذه القراءات تسيئ له ، لقصورها عن التسامي مع النص ، وماحدث مع عنوان مجموعتي الثانية " خريف المآذن " وقصور البعض عن فهم مغزى العنوان ، مما جعلهم يسحبونه الى دائرة معقولياتهم وقياساتهم المعرفية ، فكتب احدهم كلاما ً غريبا ًجدا ً، عدا الرسائل التي استلمتها ، وبعضهم ناقشني معاتبا ً، كيف لي ان اضع عنوانا ً كهذا ، ألا أرى حسب تعبيرهم ملايين الناس تحج لبيوت الله والعتبات المقدسة ، وهذه الصحوة الدينية على حد قولهم ، بينما انا أراها نبوءة حقيقية لي ، فنحن فعلا نعيش خريف المآذن ، ونتلظى بربيع السواد ، وناتجهما هو دمنا المراق ، فضحايا خريف المآذن وربيع السواد هو هذه الملايين التي ضاقت بها الارض ، وهجرت من بيوتها ، حتى امتلأت كربلاء والنجف والحلة والديوانية والموصل والرمادي والفلوجة والناصرية بهم ، كما امتلأت الاردن وسوريا ومصر وغيرها ، إضافة لتفجيرات المراقد ابتداءاً من سامراء والتي لانعلم متى تنتهي ، والاعتداءات المتواصلة على دور العبادة وعلى كل من يخالفهم بالرأي ، وتكفير الاخر ،بل ان كل فرد أصبح هو الله يكفر من يشاء ويقتل من يشاء ويدخل النار من يشاء . عندما نتحدث عن النقد العربي وكثرة سلبياته ومآخذنا عليه ، علينا ان نعي انه لايختلف عن الشعر ، بمعنى مثلما في الشعر توجد نسبة ربما تزيد عن سبعين بالمئة ، هي منظومات لاعلاقة قوية للابداع والفن بها ، فكذلك النقد ، الذي ارى ان غالبية من الكتّاب جربوا حظهم فيه ، وهم لايمتلكون أدنى أولويات النقد ، كما اقرّها الناقد الكبير الدكتور علي جواد الطاهر والتي ملخصها ان الناقد يجب ان يكون ضليعا ً بكل لون معرفي ، من النقد الى الابداعات جميعها والفنون كلها ، والتاريخ والفلسفة والمعتقدات والاساطير والانثروبولوجيا وعلم الاجتماع والنفس .... الخ ، هؤلاء من أساءوا للنقد ، فنحن في العراق عندنا ،عدد النقاد الحقيقيين ، هو أقل من عشرة ممن يكتبون مقالات ويؤلفون الكتب تحت لافتة النقد.
* هل ترى ان هناك نقدا عربيا على وفق منهجيات عربية تأخذ بنظر الاعتبار مكونات القصيدة العربية وموروثها وبيئتها بمعنى آخر هل استطاع النقد العربي ان يؤسس مدرسة عربية في النقد أم مازال يتعكز على نظريات النقد الأوربي ؟
هنا وهناك بعض المحاولات ، ولكن التعكز على نظريات النقد الأوربي ، هي السائدة ، ولا أجد حرجا ً كبيرا ً في هذا ، فالعقل والنظام الاوربي هما المسيطران على حيواتنا ، فما المانع من الاستفادة مما توصلت اليه أحدث نظريات النقد الأوربي ، خصوصا ً وان الحضارة الاوربية أضحت عالمية ً ، وليست للاوربيين فقط ، ولايمكن القفز عليها بتاتا ً.
* تعودت ان تسجل احتجاجاتك في متون مدوناتك الشعرية على من تحتج في اختيارك لـ ( هيروشيما ) محلا لإقامتك ؟
عندما تحاول أن تتفرد بكل شيء، ابتداء بالكتابة ، وليس انتهاءً بالقراءة ، فحتما ً تكون سلوكياتك وأحلامك وفهمك للامور مختلفة ، واذا كان الغالبية العظمى من أدباء الشرق والعالم العربي خصوصا ً يحلمون بالهجرة الى اوربا وامريكا الشمالية وقسم كبير منهم حقق ما حلم به ، وبعضهم استراليا ، فأنا كانت هجرتي اولا ً لنيوزلندا ، لا أدعي اني كنت سعيدا ً حين قررت لي الاقدار ان أعيش في نيوزلندا ، وهذا واضح من خلال قصائدي التي كتبتها في السنوات الاولى من تواجدي فيها ، ولكنني سرعان ما أفقت من خيبتي المتوهمة ، ورحت أعي اني اوفر حظا ً من الاخرين ، وبدأت اسحب الامر لصالحي ، ولكن نتيجة لظروف عملي السيئة جداً وحفاظا ً على انسانيتي واعتزازي بنيوزلندا ، وفي اول فرصة سنحت لي هاجرت الى هيروشيما مدينة الانهار الستة ، المدينة الباذخة بجمالها ، وطيبة اهلها ، كم اتمنى ان نتعلم من اليابانيين تواضعهم الجم ، نعم هو احتجاج من نوع آخر ، ففي هذه المدينة يعطون درسا ً للبشرية ، في الحب والسلام ، انهم قابلوا قاتليهم بالزهور والمحبة ، حيث لا مكان للكراهية في نفوسهم ، وأقصى مايفعلونه في الذكرى السنوية لألقاء أول قنبلة ذرية عليهم ، وقتل اعداد تقارب ما قتله صلاح الدين الأيوبي ، للمسلمين المؤمنين بسلطة العقل ، أقول أقصى مايفعلونه هو اشعال الشموع ورميها في النهر ، ووضع الزهور على نصب الضحايا ، وفي الساعة الثامنة والربع من صباح السادس من آب ، من كل عام يطلقون الحمام من اقفاص اعدت لهذا الغرض ، انها رسالتهم للعالم ولقاتليهم على حد سواء ، انه احتجاج على اؤلئك الذين أقصوا التسامح ، والحب ،وعفا الله عما سلف ، والعفو عند المقدرة ، وأشاعوا لغة الانتقام والكراهية ، وضخموا الأخطاء ، والسلبيات ، لسواهم ، فاحتلت لغة التكفير والأقصاء والتهميش والعداوة في وعي ولاوعي الناس على حد سواء ، خصوصا ً وانه منذ عقود ، كان هناك من يحرث ويهيأ الأرضية بل ابذر البذور ، وها نحن اليوم جميعا ً نقطف ثمارها ، جحيما ً لاقرار له ، وكم كنت أتمنى على من أسدلوا الستار على من حرث وهيأ العقول والنفوس ، لمستنقع العنف والجريمة والابتزاز والثارات والكراهية والحقد على الانسان ، ان يسدلوا الستار على المستنقع ويطمروه وبذوره السيئة أيضا ً، لكي نقيم عليها عالما ً مبنيا ً فوق أسس سليمة ، ولايوجد أسلم من الحب والعفو عند المقدرة وطي صفحة الماضي ، انظر بتمعن لأئمة السلام ، الامام علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب وولده محمد الباقر وحفيده جعفر الصادق ، والامام الرابع هو الامام الاعظم ابوحنيفة النعمان ، سلامهم خلف لنا آلاف الفقهاء والعلماء والمفكرين ، واحدث جدلا وحراكا ً فكريا ً أدى لتطور وثراء الحضارة العربية الاسلامية عموما ً، عكس أئمة الثورة ، الذين أورثونا دماءاً غزيرة ، وتركة ثقيلة ، نتائجها ماثلة أمامنا ، اليوم في أبشع صورها . نعم هو احتجاج على اهمال سيرة أئمة السلام ، والتركيز على أئمة الثورة .
* لماذا تكرر تدوين احتجاجاتك في أكثر من مدونة ؟
لأنها تنمو وتنمو ، ففي خريف المآذن ، كانت لاتتعدى اصابع اليد الواحدة ، ولكنها في أنا ثانيةً
تضاعفت كثيرا ً، والسبب ، انه في خريف المآذن ، حين سألني الناشر " دار أزمنة " ان أكتب تعريفا ً او سيرة ذاتية في بداية المجموعة ، وكان الوقت يزاحمنا ، وليس أمامي الا القليل من الوقت ، لكي اسلمه للتنضيد ، فكتبت بسرعة ، بضعة احتجاجات ، خطرت ببالي ، ولكني هنا في هيروشيما ، كتبت البقية ، والاحتجاجات عاملتها كنص من ضمن النصوص ، ووضعته كأول نص ، ولكن الناشر جعله في النهاية بعد الفهرست وكتب فوقه باسم فرات فقط ، ولم يكتب احتجاجات ، مع شديد الاسف ، وانا بدوري لم اغيرها في النسخة الافتراضية ( الالكترونية ) ، كما اني أراها ميزة خاصة بي ، وهناك أدباء تناولوها في كتاباتهم .
* كيف تقرا المكان ؟
قصيدة تغرينا بتفردها ، اعني الأماكن المتفردة ، أنتشي بعبق عمارتها ، هندستها ، مقاهيها ، حدائقها ، شوارعها ، وسائط النقل ، تاريخ المكان ، أحب المدن خصوصا ً مراكزها ، لا اميل للاقضية والنواحي والقرى ، ارغب ان أعيش وسط المدينة ان امكن او داخل المدينة وليس في اطرافها البعيدة ، المكان بالنسبة لي هو حياة ، دليل وجود ، هو الزمن المحسوس ، الملموس
ذكريات نشأت أو سوف تنشأ ، ولدت وفي طور الولادة ، المكان يعبرنا ونعبره ، يعيش فينا ونعيش فيه ، ثقافة جديدة ربما تختلف كثيراً او قليلاً عما تعودناه ، لكنها حتماً تثري مخيلتنا.
* تغيير المكان هل يُغيّر من رؤيا الشاعر للأشياء ؟
لا أظن أن شاعرا ً حقيقيا ً، غيّر مكانه أكثر من مرة ولم تتغير رؤياه للأشياء ، فالاماكن الجديدة ، تعني ثقافات جديدة ، ومعتقدات مختلفة ربما ، ونظرة للحياة وللاشياء لاتتشابه مع المكان الاول ، ولكن في أحايين كثيرة ، تبقى تجربة المكان الجديد في طبقات اللاوعي ، لفترة طويلة ، ربما حتى يستطيع الشاعر إعادة انتاج المكان الجديد وثقافته ابداعياً ، لاخسارة في تغيير المكان ، من الناحية المعرفية ، ولملأ صندوق الذكريات ، هنا لست في معرض التحدث عن سلبيات تغيير المكان اللاإرادي.
* لكن من كل مانقرأه لشعراء هاجروا أو هُجّروا نجد ماضويتهم طاغية على انتاجهم الابداعي ، خذ مثلاً بالشاعر سعدي يوسف ، مازال يكتب عن سلة الخوص مفردات الجنوب ، كذلك مظفر النواب وغيرهم ؟
أولا ً كان حديثي هنا عن تجربتي الشعرية المتواضعة ، وثانياً ، إن لم يكن سعدي يوسف وسركون بولص وغيرهم ، قد تخلصوا تماماً من ماضويتهم ، فعلينا أن لا ننسى مئات القصائد التي كتبوها ، ذات أمكنة وأجواء غير عراقية ، فمن المعلوم إن المنافي تضم بين أجنحتها الصقيعية ، عدداً كبيراً من الشعراء ، وليس كلهم نلمس الحنين الجارف والمفردات العراقية والنكهة العراقية في نصوصهم ، رغم إن هذا ليس معيباً أو منقصة على الشاعر ، بل هو دليل على أن الشاعر العراقي ، شاعر حياة ، وهذه المفردات شخصياً ، أعدها طريقة احتجاج ، على وضعية شاذة وغريبة عما هو متعارف عليه عن العراق ، الذي كان منذ فجر التاريخ ، مركزاً جاذباً للجماعات والأفراد ، فكيف تحول إلى مركز طرد ان صح التعبير ، ولكن حتماً الإسراف ، وعدم التنويع ، يخلق عند المتلقي ، أسئلة ً ليست من صالح الشاعر ، اما التنوع ، ومزج المكان المعاش بالمكان الذاكرة ، والاستفادة من الماضي مثلما هو من الحاضر ، كلها تثري النص ، ولا يشعر القارئ بالملل ، وشخصياً أرى العديد من الشعراء فعلوا هذا وان كان لابد من ذكر الأسماء فسوف أذكر أسماء ثلاثة شعراء ، ومن ثلاثة أجيال مختلفة ، أراهم يمثلون وجهة نظري هذه ، وهم سعدي يوسف وأرجو أن تراجع نصوصه التي نشرها في موقع كيكا على الأقل ، وسركون بولص ونصيف الناصري ، ولا يعني هذا عدم وجود شعراء آخرين نهلوا من أمكنتهم الجديدة ، ومن أجوائه وثقافته .
* نجد الشاعر المغترب يظل مشدودا إلى ماضويته على الرغم من ان قوانين وشروط مكانه الجديد تقتضي تغيير في نمط الحياة والسلوك لماذا لا تنعكس على رؤيا الشاعر في استحداث أنموذج شعري مغاير لتلك الماضوية ؟
الصدمة الثقافية ، لها تأثيرها الكبير، واذا كنا نخشى هذا المصطلح ، ونكابر في رفضه ، فهو حقيقة ، والمجتمعات المتقدمة تتفهمه وتتحدث به بكل صراحة ، اي انه يعامل لديها كَردّ فعلٍ انساني طبيعي ، بينما نحن نرفضه ، وهذا مايحدث لنا جميعا ً ، بل ان تصرفاتنا تسيئ لمن حولنا ، خصوصا ً وان غالبية الشعراء تركوا العراق مرغمين ، بشكل وبآخر ، حتى من آثر الصمت وعدم المشاركة في الحراك الثقافي ، فالاحساس بالحرية ، دفع ان لم يكن اجبر الكثيرين على الهجرة ، والاجبار ، يقود الى المعاندة ، والتشبث بعكس ما أجبر عليه ، فالشاعر العراقي لم يخرج بطرا ً، بل خرج مرغما ً مجبراً في أغلب الأحيان ، خرج وعيونه على مكانه الاول ، وعلى ذكرياته في حسن عجمي واتحاد الادباء ومقاهي وحانات بغداد ، اضافة لمقاهي مدينته والاماكن التي شهدت بدايات تفتح موهبته وكتابة قصائده الاولى وقراءاته ، ونزق المراهقة الثقافية والابداعية ، مَن منا لم يحن لشارع المتنبي وسوق السراي مثلا ً، كل هذه العوامل وربما غيرها ، إضافة للصدمة الثقافية التي ذكرتها أعلاه ، تسببت في ان يبقى الشاعر مشدوداً ، لمكان ماضيه الذي أقتلع منه ، وبقينا نقرأ قصائد فيها الحنين للوطن وللطفولة ، او على الأقل قصائد لايمكن ان تستدل منها على ان كاتبها يعيش في مكان مختلف ، فيه وسائل راحة مترفة قياسا ً بالوضع العراقي ، ولكن لايمكن اغفال من انتبه ، لوضعه القائم ، وبعد ان تشربت ذكرياته بالمكان الحالي ، وتعمقت أواصر الألفة مع نمط حياته الحاضر ، راحت قصائده تتنسم هواء مختلفا ً، وان على استيحاء ، في باديء الامر ، ولكن بمرور الوقت اصبحت قصائده تشي باختلافها ، شخصيا ً حين وصولي لنيوزلندا شعرت بحنين جارف للعراق وللاردن على حد سواء ، ولكن بمرور الوقت بدأت أتآلف مع المكان الجديد ، وساعدني في ذلك حتماً نجاحاتي الشعرية الكثيرة في نيوزلندا ، فكثرة الأماسي واللقاءات والنشر والمقالات التي كتبت عني ، والحوارات العديدة في الاذاعة التي أجريت معي ، كلها ساهمت بتقليل أثر الغربة أو على الأقل بسرعة وعمق تآلفي مع المكان الجديد ، فكانت قصيدة " هنا حماقات هناك .. هناك تَبختر هنا " و" شيء ما عنك .. شيء ما عني " و " جبل تَرَناكي " بل حتى " أنا ثانية ً " مؤثرات المكان الجديد واضحة فيها . ولكن السؤال : كم شاعر عراقي حقق ماحققت في مكانه الجديد ؟ بكل تأكيد قلة قليلة جدا ً، وانا شخصياً لا ألومهم بل أتفهم تماماً سبب عزلتهم ، وعدم تفاعلهم مع المكان الجديد وتحقيقهم لما حققت ، المنفى في جوهره هزة كبرى في حياة الانسان ، وسلاحٌ ذو حدين ، ولا أريد أن أقلل من منجزي المتواضع في المنفى ، ولكن صدقا ً الغربة غول يفترسنا.
* الغربة تفتح آفاقاً جديدة أمام الشاعر ماذا تعني عندك الغربة وماذا أضافت لك من معارفها ؟
الغربة نوعان ، روحية ، ومادية ، أي مكانية ، شخصيا ً أعاني من الغربتين معا ً ، وبما انك تعني الغربة المادية – المكانية ، فانا اعتقد انه لمجرد حنينك وان في فترات متقطة لمكانك الاول ، اذن انت في غربة ، وفي نيوزلندا كنت ارى اصرار الكثيرين على الوصول لها ، والحاحهم على اهاليهم ، ولكن بعد وصولهم ، يبدأ الحنين ، والشعور بالغربة والصدمة الثقافية وانعكاساتها ، فالغربة ، تخلق ازدواجية من نوع خاص ، فلكي تتكيف في البلد الجديد تحتاج الى سنوات عديدة ، وبعدها ، تبدأ في مرحلة عمرية ، مناقضة ربما تعيدك للمربع الاول ، الا وهي مرحلة البحث عن الجذور ، التي تصيب الانسان في الكبر ، وغالبية الأدباء تقوقعوا مع الأسف ، وأحسب نفسي اني من قلة نجت من التقوقع والانكفاء ، فاختلطت بجاليات كثيرة تعيش متآخية في نيوزلندا ( أخبرتنا مدرسة اللغة الأنكليزية ان بحثاً أجري في العاصمة النيوزلندية " ولنغتن " على عدد اللغات التي يتحدثها أهل العاصمة ، فكانت 68 لغة ) فاصبحت اجد متعة حين أمشي في الشارع ، وأسمع لغات كثيرة ً، وكونت صداقاتٍ رائعة ً مع أدباء وفنانين ومثقفين من جنسيات وخلفيات مختلفة ، وكانت هذه العلاقات والصداقات ، عاملاُ مساعداً مع قراءاتي الموسوعية لتاريخ العراق ، للتوصل الى نتيجة طالما رددتها ومفادها اننا نحن العراقيين ، خليط من جميع الأقوم والشعوب التي استوطنت عراقنا على مر الزمان ، هذا البلد الذي يكاد يكون من البلدان القليلة التي احتفظت بأغلب مساحاتها التاريخية ، حسبما ذكرها ودونها المؤرخون ، وعروبتنا ثقافية وليست عرقية ، وان العروبة في جوهرها مثل الشعب العراقي ، نتاج تلاقح اللغات والحضارات والثقافات عموما ً. نعم ان الغربة فتحت آفاقاً ، وأرتني محاسن ومساوئ ثقافتي ، مثلما أرتني إيجابيات وسلبيات الثقافات الاخرى ، وكيف ان لبعض الثقافات التي ربما لاتخطر على بالنا ، او لانعيرها أهمية ، لأننا نجهلها تماماً او لأن الصورة التي في مخيلتنا عنها ، سلبية ، أقول كيف لهذه الثقافات ، اشعاعات حضارية ، أشعرتني بالخجل ، لأن مجتمعي العراقي ، لم يصل إليها ، كما ان من هذه الآفاق ، انها علمتني ان أكفّ عن جعل نفسي وثقافتي مركز الكون ، وعليها أفصّل وأقيس الصح والخطأ ، وأن اتعايش مع جميع الامور مهما تناقضت مع تربيتي ، وثقافتي ومعتقدي ، ولأني جزء من كل.
* تحاول تسجيل أسماء الأمكنة التي مررت بها منفيا عن مكان طفولتك وصباك ماذا أردت ان تقول من خلالها مع انها لم تشكل رمزا ذا دلالة معرفية تشكل بؤرة لاستنطاق النص ؟
الشعر هو ديوان حياتي ، ومثلما سمعت مرارا ً من قرّاء محترفين ، أنهم عرفوا الكثير عني من خلال شعري ، وهذا في حقيقته يمنح النص خصوصيته ، وهو عكس التجريد الذي يغرف عادة من تجارب أخرى ، أو يكون فاقداً لحرارة التجربة وصدقها (أعني المبالغة في التجريد)، فأنا شاعر حياة، وأكتب بدون مسطرة وقلم، أي لا أبالي بما قاله فلان وسجلته الناقدة فلانة في كتابها الشهير، الشعر بالنسبة لي خارج النظريات والمسطرة، ومن الصعب تعريفه، الأمكنة التي ذكرتها في نصوصي لي معها ألفة، ولي فيها ذكريات ، قد تكون مريرة وقد تكون العكس ، والذين كتبوا عن تجربتي المتواضعة أختلفوا في قراءاتهم ، بهذا الخصوص ، وبكل تأكيد أن الأختلاف هو لصالحي، ولايهمني أن أصَنّف تحت أي لافتة ما، مكانية أو زمانية أو غير ذلك، أكرر ما قلت : أنا شاعر حياة والشعر ديوان حياتي، وما أراه اليوم قد تستجد أمورا ً وقراءات ٍ ويختلف وعيي ، فأرى العكس.
* المعرفة بشكلها العام تفتح فضاءات أمام المثقف ماذا تفتح أمام الشاعر ؟
المعرفة ، هي أحد مرتكزات الإبداع الثلاثة، أي الموهبة والتجربة، إضافة للمعرفة وما تضيفه حتما ً الكثير، فالشاعر منتج ثقافة، ولايمكن لمُنتَج ثقافي أن يكون نوعيا ً بدون الاستفادة من المعرفة ، وسؤالك هذا طالما أرّقني ، منذ بدأت أخطّ أولى قصائدي، وأقرأ وأتابع وأنا حينها في مرحلة الدراسة المتوسطة، وإن كان بصيغة أخرى، أي لماذا تنتهي فترة الإبداع عندنا مبكرا ً، حتى توصلت الى نتيجة مفادها، أن غالبية شعرائنا تقل قراءاتهم رويدا رويدا ً، ويعتمدون على التجربة والتي هي في جوهرها لاتعدو أن تكون جلسة خمر في حانة يسبقها جلوس في حسن عجمي أو أي مقهى اخر، ويتلوها جلسة خمر في اتحاد الأدباء والكتاب، بينما الشعر معرفة وتأمل، ويحتاج الى قراءات واسعة ويومية، والقراءات لا أعني بها الصفحات الأدبية في جرائدنا ومجلاتنا، فهي جد طبيعية، بل أعني المعرفة الثرة التي لاتتأتى الاّ نتيجة قراءات عميقة ، تجعل الشاعر على احتكاك بتجارب شعرية متنوعة وكثيرة جداً ، عربية ومترجمة ، كما ان النقد والدراسات لاتقل أهميتهما عن قراءة الشعر ، والفلسفة والتاريخ والمعتقدات والعلوم كالاجتماع والمجتمعات والاناسة والنفس ...الخ ، كلها ضرورية للشاعر ، مثلما هي ارتياد المعارض التشكيلية ، والمسارح ، وغيرها .
الشعر يحتاج الى دربة ودراية وتأمل ، وليس كما يظن البعض أن القراءات العميقة تفسد الشاعر، بينما العكس صحيح، أو قل إن مايفسد الشاعر، شيئان هما فقدان الشاعر لاندهاشاته ، وندرة قراءاته.
حاوره / بلاسم الضاحي
الشعر لعبة ...
تتسع باتساع الرؤيا نعبر من خلالها نحو فتح أبواب المجاهيل
المؤدية إلى فضاءات غير مأهولة في ذواتنا المعتصمة بأماكنها .
الشعر لعبة ...
تحتاج إلى إتقان قوانينها بمهارة صياد صابر ينتظر متى يطلق
احتجاجاته لإعادة صياغة شفراته الحياتية ، يغيير ألوان زمانه
ومكانه ، محتجا من بغداد الى عمّان إلى نيوزلندا إلى هيروشيما إلى .....
لغته الشفيفة احتفظت بقاموس من المفردات والتراكيب والاستعارات
الفريدة ، ساهمت في انتاج نص شعري يسعى دائما إلى أن يخرج نحو
اكتمال ـ القصيدة ـ القصيدة ـ المنحازة بتوازن إلى الجماليات والصور
الباحثة عن الدهشة ، المحتفظة بخصوصية التفرد بين مجايليها ...
يحاول أن يدفع الداخل / الأليف / المعذب / الثابت نحو التعميم / المتحول
خارج ستر الجسد باختصار شعري يمازج بين الصورة ومعناها مرة
بالمباشرة المحببة وأخرى بدعوة التشفير الواعي لحداثته .
حاورناه من ( هيروشيما ) حيث يقيم جسده هنالك ـ عبر الانترنيت ـ من
هنا من بغداد حيث تقيم روحه أسوة بأرواحنا المعذبة بأزيز رصاص الاحتراب
الذي يظهر انه استوطن ارحامنا التي لم تلد سوى أجنة مشوهة !!!
* هل أنت شاعر ؟
أطمح لأن أكونه ، وكل ما أفعله هو محاولات ، لا أدري مدى نجاحها ، ولكني أعلم ان لاطريق اخر لي سوى الشعر ، فهو المنتهى والمرتقى ، والحلم الذي نقضى العمر في سبيل الوصول اليه ، هل أنا شاعر ؟ هذا ما يحدده الآخرون ، ولكني على يقين ٍ، بأني تلميذ نجيب في مدرسته العظمى ، أواظب على التلقي والبحث والتأمل والمعرفة والتجربة وكل ما يتطلبه فهمي للشعر ، وهضمه لتوليد قصيدة ، تنتمي للشعر الخالص ، وفيها مميزات القصيدة وليس الشعر فقط ، فهناك من يكتبون شعرا ولكنهم لايكتبون قصيدة ولم ينوجد الشاعر الذي يكتب القصيدة في كل مرة ، بل غالبية الشعراء يكتبون شعراً ، ونادرا ً مايكتبون قصيدة .
* إذن كيف نميّز بين القصيدة والشعر ، أو كيف تُنَظّرُ للقصيدة خارج الشعر ؟
لستُ منظراً ، وانما أنا كاتب نص ، أطمح لأن أكون شاعراً ، وان يرقى نصي ليصل الى مستويات القصيدة – القصيدة ، فلو عرفنا أن نميز جيداً ونضع القوانين الرياضية للقصيدة ، لخرجنا من فضاء الشعر كعمل إبداعي يعتمد الموهبة والخلق والحدس والذائقة ، إلى ماهو غير شعري ، ولكني لن أجافي الحقيقة لو قلت لك ، إن الشعر يكتبه غالبية الشعراء ، بينما القصيدة لم يتمكن شاعر ما من كتابتها باستمرار، الشعر هو جمل شعرية متنوعة ، والنجاح في إحدى صوره ، هو كيفية استخدام هذه الجمل ، والتعاطي معها . الشعر موجود في أجناس أدبية كثيرة ، ولكن القصيدة ، حصرية ، أي لا نجدها في الأجناس الأدبية الأخرى، وفي غالبية ما يكتب تحت لافتة الشعر ، وجودها شبه نادر ، قد يقضي الشاعر نصفَ قرن في كتابة الشعر ، ولكنه حتماً سوف يكون محظوظاً ، بل وجدّ مهم في الشعرية لو كتب ثلاثين قصيدة صافية ، والتي ادعوها بالقصيدة – القصيدة .
كثيرون هم الشعراء الذين يقعون في هذا المطب ، فيخلطون بين الجُملِ الشعرية المتنوعة في ذات القطعة الشعرية التي نطلق عليها جزافاً قصيدة ، كما ويسيئون استخدام اللغة الشعرية ، وتكون بداية قطعتهم الشعرية وخاتمتها باهتة ، لا روح فيها ، ولا دهشة .
* كيف اهتديت إلى الشعر أو من دَلّكَ عليه ؟
الفطرة ، فلقد ولدت وانا اعشق الشعر ، والا لماذا حفرت قراءات جدتي للقرآن وكتب الادعية ، عميقا ً في روحي ، بينما لم يلامس هذه الروح عشرات الامور التي كانت تحدث امامي ، ولهذا أرى ان الموهبة تولد مع الانسان ، ربما تلهيه بيئته عن ان يتلمسها ، ولكن حتما ً سوف يقع عليها ، وان كانت احيانا ً الكتابة وخصوصا الشعر ، نزوة ، فكلنا يعرف مئات الشعراء يتركون الشعر قبل ان يتخطوا الثلاثين ، وعشرات يتواصلوا بعد الثلاثين لسبب اجتماعي ، وليس لرغبة عميقة في ذواتهم ، ولكن حتما الشاعر الحقيقي هو من يستمر ، ولن يتنازل عن مشروعه الذي نذر حياته له ، علماً اني بدأت كتابة الشعر وانا في الابتدائية .
* ماذا تريد من الشعر ؟
أن يعيد التوازن لروحي ، انه عزائي الأبهى، لا أريد تغيير العالم بالمفهوم المراهقي الذي تعلمناه ، فلقد اثبتت لي الايام اني أعجز من أن أقف بوجه دهاء السياسي وتجار الحروب والمشاعر والوطنية والحقوق المغتصبة ، يكفيني ان اقف ضد المد الجارف للظلام والخراب ، اعزل الا من كلماتي ، لااغني للموت والحروب ، ولا امدح الطغاة بحجج واهية كما فعل غيري ، لا أبيع وطني وكلماتي من اجل حفنة اوراق نقدية ، او منصب ما في مجلة او جريدة او اية مؤسسة ثقافية ، او دعوات لمهازل تسمى مهرجانات وهي في حقيقتها تريد تصدير فكر شوفيني ، تحت مسميات شتى ، بل راح بعضهم يدعو لتقسيم بلده ارضاء لجهة لاتملك آثارا ً في العراق ، ولاتستطيع أن تثبت بالأدلة أن طروحاتها وادعاءاتها موثقة تاريخياً، إن كانت ادعاءات طائفية بغيضة، أو شوفينية عنصرية تشهد كل متاحف الدنيا على شوفينتها وعنصريتها .
* هل هذا مبني على عدم دعوتك لمهرجانات شعرية في العراق ؟
لست معنياً بهذا ، ولا يمكن أن احضر مهرجاناً في العراق ،غاياته ليست شعرية خالصة تماماً ، ما عنيته بسلبيات المكان اللاإرادي هو ، الشعور بالغربة والحنين ، والعيش وسط لغة مختلفة تماماً ، ان تتلفّت ، فلا مكتبات باللغة التي تكتب فيها ، ولا رنين مناداة الباعة ، والجمل التي تطرق مسامعك بعفوية نتيجة الازدحام في السوق ، لست مما تعودت عليه مسامعك ، التكيف مع المكان الجديد ، والذي قد يأخذ من عمرك سنيناً مثلما أخذت الحروب والأنظمة الرعناء في بلدك ، وكأن المنفى يقول لك : أين حقي ؟ .
* من يتكلم داخل نصوصك الشعرية ؟
صوتي الخاص ، الذي هو نتيجة موهبتي وقراءاتي وتجاربي وتأملي، وبحثي الدائم لصقله وتشذيبه ، هو أناي العليا.
* ما هي آليات تحديث نصك الشعري ؟
الموهبة والتجربة والقراءات ، والمحاولات الدؤوبة لخلق جملة جديدة ومتفردة ، لغة خاصة بي ، نابعة من تجاربي ورؤيتي للحياة وللشعر وللثقافة ، والتقليل من بذخ الجملة الشعرية العربية ، وانزالها قدر الامكان من برجها العاجيّ ، وتجاوز المألوف والعادي ، والتطلع لعملية خلق حقيقية .
* ماذا تعني عندك الحداثة ؟
الحداثة بحد ذاتها مشروع انساني راق ٍ جدا ً، انها أنساق مختلفة في الكتابة والوعي والسلوك والنظرة العامة للحياة ، الحداثة هي الثورة المتجددة ، والتي تثور على نفسها من آن لآن ، الحداثة هي العجلة الصحيحة في قاطرة التقدم الانساني ، من أجل غد ٍ أكثر اشراقة .
ألا ترى معي، أن الظلاميين ( دعاة المشاريع والافكارالشمولية قاطبة ً) لايحبذونها، بل يتهمون دعاتها بشتى التهم، بدأ من العمالة ، وليس انتهاءً بالالحاد، لأن الحداثة تفضح مشاريعهم المدمرة لانسانية الانسان ، بل للاوطان أيضا ً. الحداثة حالة متفوقة حتى على العلمانية ، العلمانية بمعناها الحقيقي ، لا الذي روّجه البعض جهلاً أو انتقاما ً، أي الموقف العلمي والعقلاني والواقعي من الوجود.
* هل الحداثة تحطيم الأنساق التقليدية للموروث الشعري ؟
في جزء كبير منها نعم ، والحداثة ضد تجهيل الشعر ، وتحويله الى ذلك الكلام الموزون المقفى ومن يحفظ الف بيت من الشعر ، صار شاعرا ً ، انها ثورة حقيقية ، وان أسيئ استخدامها من قبل الطفيليين ، ولكن ، أليس الموروث الشعري يحمل الافا ً مؤلفة من الطفيليين والادعياء ، وقصائد المديح التي قيلت بحق الحكام على مر الزمن ، أليست طفيليات تعتاش على جسد الثقافة ، ماعلاقتها بالابداع ، خذ اي منظومة مما نظم في المديح وترجمها لعشرين لغة ، وخذ قصيدة انشودة المطر او الاخضر بن يوسف او اي قصيدة لسركون بولص ، وترجمها لذات اللغات ، وسترى الفرق الشاسع ، فمن يقرأ الكلام الموزون المقفى الذي قيل في حق طاغية وتحويله الى ملاك رغم انه تفنن بقتل وتعذيب الناس بدون رحمة ، سوف لاتبقى في ذاكرته ولن يستسيغها ، لكن نصوص الحداثة المشار اليها اعلاه ، يتوقف عندها الناطق بالانكليزية مثلما الناطق بالفرنسية والاسبانية واليابانية والكورية والهولندية الخ ، الروح الانسانية العالية التي في القصائد الحداثوية ، تلتقي مع نظيراتها في كل مكان وزمان .
* ومن قال إن الموروث الشعري جهل ؟ هل تقصد أن القصيدة الحديثة هي التي تخرج عن أنساق الوزن والقافية لتكون قصيدة حداثوية ؟ ماذا تقول في المتنبي الذي يناقض حضوره ماتقول ؟
أنا لم اقل إن الموروث الشعري جهل ، بل عنيت الفكرة الساذجة التي تقول: إن من حفظ ألف بيت من الشعر صار شاعرا ً، فالشعر بالنسبة لي موهبة وتجربة ومعرفة وتأمل ، وهو غاية كبرى لا تدركها أية غاية أخرى ، وحين يتحول إلى وسيلة ، يفقد ماهيته ، مثلما يفقد ماهيته حين يتكون من جمل مكررة آلاف المرات ، أو تلك المعارضات ، وخصوصاً معارضات أحمد شوقي التي هي تضليل وتجهيل للمخيلة والذوق والإبداع والشعر عموما ً، معارضات قائمة على السرقة والاستنساخ ( استنساخ تركيب الجملة عند من سبقه ) ، أو أن تتحول يا غريب الدار إلى يا نائي الدار ، هكذا بكل بساطة . القصيدة الحديثة ، حديثة بجملها ولغتها وخطابها ، تبحث عن الشعر في داخل الشاعر ، وتنهل من معين تجربته ورؤيته ، وتتجاوز همّها .
أمّا ما أقول عن المتنبي فهو ثلاثة: الشاعر، والمثقف ، والنرجسي، وحضوره الطاغي هو في نرجسيته وبشكل أٌقلّ كثيراً في شعره ، أما المتنبي المثقف، فلا حضور له في الغالب الأعم ، أي أن حضوره كمثقف يكاد يكون معدوماً ، والدليل ، كل من قرأت لهم أو التقيتهم أو ناقشتهم أو سمعتهم ، يكادون أن يأخذوا من المتنبي نرجسيته المفرطة والتي لا أشك أن المخيال الشعبي والمخيال الزمني ( كل الشخصيات يلعب الزمن دورا كبيراً في أسطرتها حتى تتحول الى مقدس ) قد لعبا دورا كبيراً في وضع عدسات مكبرة عليها مع رتوش ، حتى أسطرتها ، ولكن مَن مِن هؤلاء يعرف المتنبي المثقف واستفاد منه ، المتنبي الذي أحاط بعلوم ومعارف عصره ، فهو المطلع على الفلسفة والفقه وعلم الكلام والتاريخ والمنطق ...الخ . المتنبي هو أحد كبار مثقفي عصره ، الذي يعدّ باتفاق الجميع تقريباً على انه ذروة الحضارة العربية الإسلامية ، اعني القرن الرابع الهجري – العاشر الميلادي ، فهل الذين يشكل المتنبي حضوراً في وعيهم ، ويفاخرون بنرجسيتهم ، ويحسبون أنفسهم أشعر الشعراء ، ويلغون الآخر ، حتى لو انهم لم يقدموا عُشر ما قدّم الآخر ، أقول هل هم يمتلكون ثقافة المتنبي والتي تعني في يومنا هذا موسوعية المعرفة وغزارة المعلومة ، وتنوعها ، واستنباط آراء وأفكار خاصة بهم ، ألا ترى معي ، إن غالبية قراءات شعرائنا لا تتعدى الشعر والرواية والقصة والمسرحية والنقد ، وان حدث فقليل من الفلسفة ، بينما المتنبي ، بل ومعظم إن لم يكن جميع كبار المبدعين في الأمم الأخرى يملكون ثقافة هائلة عن تاريخ بلدانهم ، أما نحن واعني مقلدي المتنبي في ما رُويَ عن نرجسيته والتي أشك ببعضها كثر أو قلّ هذا البعض ، فجهلة بكل ما في الكلمة من معنى ، حتى إن كتباً مهمة ً ومفصليةً في تاريخ العراق ككتاب " مشكلة الموصل " يجهله عبيد نرجسية المتنبي جهلا تاماً ، ويكاد معظمهم يجهلون من هو مؤلف أهم كتاب عن اليزيدية ، والذي كل ما كتبَ بعده عالة عليه ، أما عن المسيحيين ، وتنوعهم اللغوي واللهجوي ( لهجاتهم ) والمناطقي والمذهبي ، فلا يعرفون عنه سوى بضعة كلمات لا أكثر ، وكركوك التي أنجبت أهم جماعة أدبية في تاريخ الأدب الحديث المكتوب بالعربية ، هذه الجماعة التي هي الدليل القاطع على شوفينية القوميين في العراق بكل تنوعهم اللغوي ، لم يكلف أتباع المتنبي النرجسي وليس المتنبي الشاعر والمثقف ، أنفسهم ، بالبحث في تاريخ المدينة لمعرفة سبب إنجابها لهذه الجماعة ، ولهذا العدد الكبير من المبدعين الذين يكتبون بالعربية رغم أن المدينة عمرها لم تكن عربية خالصة بل ان العرب فيها لا يشكلون ثقلاً عددياً مهما ً، حيث منذ فجر التاريخ والمدينة بغالبية آشورية – آرامية ، مع تواجد يوناني وعربي وفارسي وارمني وبعض الجماعات الآرية التي كانت تجلب مواشيها في عز الشتاء فقط عند تخوم المدينة هرباً من الجبال وثلوجها ، ولكن ومنذ زمن المعتصم ، بدأ التواجد الوسط آسيوي ( الأقوام التركية بكل تنوعاتها ) يثبت له قدماً في المدينة ليزداد بعد الغزو المغولي ولتتحول إلى مدينة بصبغة تركمانية مع دولتي الخروف الأبيض والأسود ، وحتى وقت قريب جداً لا يتعدى سنوات ، رغم محاولات الانكليز ، إقصاء التركمان تماماً من العمل في شركة النفط ، بل ان معظم عمال شركة النفط ، جلبوا من الجبال المجاورة ومن إيران وتركيا ، وهم من غير التركمان والعرب والكلدوآشوريين السريان ( كما يحلو ان يسموا أنفسهم ) ، آسف للإطالة ، وأحب ان اختم السؤال بالقول ان المجتمعات الغربية وغيرها ، تعتبر فيها النرجسية ، سلوك معيب جداً ، كما اشكر المتنبي المثقف الذي تعلمت منه الكثير.
* هل تدعو إلى انفتاح الشعر نحو الأجناس الأدبية الأخرى والاستفادة من آلياتها باتجاه خلق نص شعري جديد ؟
هذا من بديهيات الحداثة ، بل إني أؤمن أن ينفتح الشاعر ويستفيد من كل المعارف والفنون والآداب ، لتصب كلها في نصه، الذي هو منتج ثقافي أولاً، ولهذا أحرص على تنوع قراءاتي وان كان التاريخ والفكر لهما القدح المعلى ، في مجال اهتماماتي القراءية ، وأستغرب ممن قراءته لاتتجاوز الابداع ، وتعرض عن الفلسفة والتاريخ والفكر عموما ً، فتنوع القراءات تمنح النص ، دفقا ً معرفيا ً وانسانيا ً.
* لاأقصد التثقيف الذاتي للشاعر، الذي أقصده ظهور نتائج تلاقح الاجناس الأدبية في النص الذي نجنّسه بالشعر؟
ظهور نتائج تلاقح الأجناس الأدبية في الشعر ، يحكمه وعينا ومتابعتنا وتثقيفنا لذائقتنا بالأجناس الأدبية والفنية أيضاً ، فكيف نستطيع الاستفادة من السرد في الشعر لو لم تكن لدينا قراءات واسعة للسرديات الأدبية ونقدها ونظرياتها ، وكذا الحال ينطبق على بقية الأجناس ، وهناك الكثير من الشعراء ، من تجد الفن التشكيلي أو السينما أو التصوير الفوتوغرافي أو بقية الفنون حاضرة في نصوصهم ، وقد أشار أكثر من ناقد إلى تأثير ، حرفتي وعملي كمصور فوتوغرافي على شعري .
* أرى أن النقد العربي يعمل على سحب النص إلى دائرة معقوليات الناقد وقياساته المعرفية ماذا ترى أنت ؟
أتفق معك تماما ً ، ولكن ، أليس الناقد قارئ قبل كل شيئ ، وكل قارئ يسحب النص الى دائرة معقولياته وقياساته المعرفية ، وذائقته الأدبية ، وهنا تقل الخسارة كثيرا ً، بل ربما نجد هامشا ً من الربح في العملية ، وهذا ما يجعل النص يقبل قراءات كثيرة ، وان كانت بعض هذه القراءات تسيئ له ، لقصورها عن التسامي مع النص ، وماحدث مع عنوان مجموعتي الثانية " خريف المآذن " وقصور البعض عن فهم مغزى العنوان ، مما جعلهم يسحبونه الى دائرة معقولياتهم وقياساتهم المعرفية ، فكتب احدهم كلاما ً غريبا ًجدا ً، عدا الرسائل التي استلمتها ، وبعضهم ناقشني معاتبا ً، كيف لي ان اضع عنوانا ً كهذا ، ألا أرى حسب تعبيرهم ملايين الناس تحج لبيوت الله والعتبات المقدسة ، وهذه الصحوة الدينية على حد قولهم ، بينما انا أراها نبوءة حقيقية لي ، فنحن فعلا نعيش خريف المآذن ، ونتلظى بربيع السواد ، وناتجهما هو دمنا المراق ، فضحايا خريف المآذن وربيع السواد هو هذه الملايين التي ضاقت بها الارض ، وهجرت من بيوتها ، حتى امتلأت كربلاء والنجف والحلة والديوانية والموصل والرمادي والفلوجة والناصرية بهم ، كما امتلأت الاردن وسوريا ومصر وغيرها ، إضافة لتفجيرات المراقد ابتداءاً من سامراء والتي لانعلم متى تنتهي ، والاعتداءات المتواصلة على دور العبادة وعلى كل من يخالفهم بالرأي ، وتكفير الاخر ،بل ان كل فرد أصبح هو الله يكفر من يشاء ويقتل من يشاء ويدخل النار من يشاء . عندما نتحدث عن النقد العربي وكثرة سلبياته ومآخذنا عليه ، علينا ان نعي انه لايختلف عن الشعر ، بمعنى مثلما في الشعر توجد نسبة ربما تزيد عن سبعين بالمئة ، هي منظومات لاعلاقة قوية للابداع والفن بها ، فكذلك النقد ، الذي ارى ان غالبية من الكتّاب جربوا حظهم فيه ، وهم لايمتلكون أدنى أولويات النقد ، كما اقرّها الناقد الكبير الدكتور علي جواد الطاهر والتي ملخصها ان الناقد يجب ان يكون ضليعا ً بكل لون معرفي ، من النقد الى الابداعات جميعها والفنون كلها ، والتاريخ والفلسفة والمعتقدات والاساطير والانثروبولوجيا وعلم الاجتماع والنفس .... الخ ، هؤلاء من أساءوا للنقد ، فنحن في العراق عندنا ،عدد النقاد الحقيقيين ، هو أقل من عشرة ممن يكتبون مقالات ويؤلفون الكتب تحت لافتة النقد.
* هل ترى ان هناك نقدا عربيا على وفق منهجيات عربية تأخذ بنظر الاعتبار مكونات القصيدة العربية وموروثها وبيئتها بمعنى آخر هل استطاع النقد العربي ان يؤسس مدرسة عربية في النقد أم مازال يتعكز على نظريات النقد الأوربي ؟
هنا وهناك بعض المحاولات ، ولكن التعكز على نظريات النقد الأوربي ، هي السائدة ، ولا أجد حرجا ً كبيرا ً في هذا ، فالعقل والنظام الاوربي هما المسيطران على حيواتنا ، فما المانع من الاستفادة مما توصلت اليه أحدث نظريات النقد الأوربي ، خصوصا ً وان الحضارة الاوربية أضحت عالمية ً ، وليست للاوربيين فقط ، ولايمكن القفز عليها بتاتا ً.
* تعودت ان تسجل احتجاجاتك في متون مدوناتك الشعرية على من تحتج في اختيارك لـ ( هيروشيما ) محلا لإقامتك ؟
عندما تحاول أن تتفرد بكل شيء، ابتداء بالكتابة ، وليس انتهاءً بالقراءة ، فحتما ً تكون سلوكياتك وأحلامك وفهمك للامور مختلفة ، واذا كان الغالبية العظمى من أدباء الشرق والعالم العربي خصوصا ً يحلمون بالهجرة الى اوربا وامريكا الشمالية وقسم كبير منهم حقق ما حلم به ، وبعضهم استراليا ، فأنا كانت هجرتي اولا ً لنيوزلندا ، لا أدعي اني كنت سعيدا ً حين قررت لي الاقدار ان أعيش في نيوزلندا ، وهذا واضح من خلال قصائدي التي كتبتها في السنوات الاولى من تواجدي فيها ، ولكنني سرعان ما أفقت من خيبتي المتوهمة ، ورحت أعي اني اوفر حظا ً من الاخرين ، وبدأت اسحب الامر لصالحي ، ولكن نتيجة لظروف عملي السيئة جداً وحفاظا ً على انسانيتي واعتزازي بنيوزلندا ، وفي اول فرصة سنحت لي هاجرت الى هيروشيما مدينة الانهار الستة ، المدينة الباذخة بجمالها ، وطيبة اهلها ، كم اتمنى ان نتعلم من اليابانيين تواضعهم الجم ، نعم هو احتجاج من نوع آخر ، ففي هذه المدينة يعطون درسا ً للبشرية ، في الحب والسلام ، انهم قابلوا قاتليهم بالزهور والمحبة ، حيث لا مكان للكراهية في نفوسهم ، وأقصى مايفعلونه في الذكرى السنوية لألقاء أول قنبلة ذرية عليهم ، وقتل اعداد تقارب ما قتله صلاح الدين الأيوبي ، للمسلمين المؤمنين بسلطة العقل ، أقول أقصى مايفعلونه هو اشعال الشموع ورميها في النهر ، ووضع الزهور على نصب الضحايا ، وفي الساعة الثامنة والربع من صباح السادس من آب ، من كل عام يطلقون الحمام من اقفاص اعدت لهذا الغرض ، انها رسالتهم للعالم ولقاتليهم على حد سواء ، انه احتجاج على اؤلئك الذين أقصوا التسامح ، والحب ،وعفا الله عما سلف ، والعفو عند المقدرة ، وأشاعوا لغة الانتقام والكراهية ، وضخموا الأخطاء ، والسلبيات ، لسواهم ، فاحتلت لغة التكفير والأقصاء والتهميش والعداوة في وعي ولاوعي الناس على حد سواء ، خصوصا ً وانه منذ عقود ، كان هناك من يحرث ويهيأ الأرضية بل ابذر البذور ، وها نحن اليوم جميعا ً نقطف ثمارها ، جحيما ً لاقرار له ، وكم كنت أتمنى على من أسدلوا الستار على من حرث وهيأ العقول والنفوس ، لمستنقع العنف والجريمة والابتزاز والثارات والكراهية والحقد على الانسان ، ان يسدلوا الستار على المستنقع ويطمروه وبذوره السيئة أيضا ً، لكي نقيم عليها عالما ً مبنيا ً فوق أسس سليمة ، ولايوجد أسلم من الحب والعفو عند المقدرة وطي صفحة الماضي ، انظر بتمعن لأئمة السلام ، الامام علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب وولده محمد الباقر وحفيده جعفر الصادق ، والامام الرابع هو الامام الاعظم ابوحنيفة النعمان ، سلامهم خلف لنا آلاف الفقهاء والعلماء والمفكرين ، واحدث جدلا وحراكا ً فكريا ً أدى لتطور وثراء الحضارة العربية الاسلامية عموما ً، عكس أئمة الثورة ، الذين أورثونا دماءاً غزيرة ، وتركة ثقيلة ، نتائجها ماثلة أمامنا ، اليوم في أبشع صورها . نعم هو احتجاج على اهمال سيرة أئمة السلام ، والتركيز على أئمة الثورة .
* لماذا تكرر تدوين احتجاجاتك في أكثر من مدونة ؟
لأنها تنمو وتنمو ، ففي خريف المآذن ، كانت لاتتعدى اصابع اليد الواحدة ، ولكنها في أنا ثانيةً
تضاعفت كثيرا ً، والسبب ، انه في خريف المآذن ، حين سألني الناشر " دار أزمنة " ان أكتب تعريفا ً او سيرة ذاتية في بداية المجموعة ، وكان الوقت يزاحمنا ، وليس أمامي الا القليل من الوقت ، لكي اسلمه للتنضيد ، فكتبت بسرعة ، بضعة احتجاجات ، خطرت ببالي ، ولكني هنا في هيروشيما ، كتبت البقية ، والاحتجاجات عاملتها كنص من ضمن النصوص ، ووضعته كأول نص ، ولكن الناشر جعله في النهاية بعد الفهرست وكتب فوقه باسم فرات فقط ، ولم يكتب احتجاجات ، مع شديد الاسف ، وانا بدوري لم اغيرها في النسخة الافتراضية ( الالكترونية ) ، كما اني أراها ميزة خاصة بي ، وهناك أدباء تناولوها في كتاباتهم .
* كيف تقرا المكان ؟
قصيدة تغرينا بتفردها ، اعني الأماكن المتفردة ، أنتشي بعبق عمارتها ، هندستها ، مقاهيها ، حدائقها ، شوارعها ، وسائط النقل ، تاريخ المكان ، أحب المدن خصوصا ً مراكزها ، لا اميل للاقضية والنواحي والقرى ، ارغب ان أعيش وسط المدينة ان امكن او داخل المدينة وليس في اطرافها البعيدة ، المكان بالنسبة لي هو حياة ، دليل وجود ، هو الزمن المحسوس ، الملموس
ذكريات نشأت أو سوف تنشأ ، ولدت وفي طور الولادة ، المكان يعبرنا ونعبره ، يعيش فينا ونعيش فيه ، ثقافة جديدة ربما تختلف كثيراً او قليلاً عما تعودناه ، لكنها حتماً تثري مخيلتنا.
* تغيير المكان هل يُغيّر من رؤيا الشاعر للأشياء ؟
لا أظن أن شاعرا ً حقيقيا ً، غيّر مكانه أكثر من مرة ولم تتغير رؤياه للأشياء ، فالاماكن الجديدة ، تعني ثقافات جديدة ، ومعتقدات مختلفة ربما ، ونظرة للحياة وللاشياء لاتتشابه مع المكان الاول ، ولكن في أحايين كثيرة ، تبقى تجربة المكان الجديد في طبقات اللاوعي ، لفترة طويلة ، ربما حتى يستطيع الشاعر إعادة انتاج المكان الجديد وثقافته ابداعياً ، لاخسارة في تغيير المكان ، من الناحية المعرفية ، ولملأ صندوق الذكريات ، هنا لست في معرض التحدث عن سلبيات تغيير المكان اللاإرادي.
* لكن من كل مانقرأه لشعراء هاجروا أو هُجّروا نجد ماضويتهم طاغية على انتاجهم الابداعي ، خذ مثلاً بالشاعر سعدي يوسف ، مازال يكتب عن سلة الخوص مفردات الجنوب ، كذلك مظفر النواب وغيرهم ؟
أولا ً كان حديثي هنا عن تجربتي الشعرية المتواضعة ، وثانياً ، إن لم يكن سعدي يوسف وسركون بولص وغيرهم ، قد تخلصوا تماماً من ماضويتهم ، فعلينا أن لا ننسى مئات القصائد التي كتبوها ، ذات أمكنة وأجواء غير عراقية ، فمن المعلوم إن المنافي تضم بين أجنحتها الصقيعية ، عدداً كبيراً من الشعراء ، وليس كلهم نلمس الحنين الجارف والمفردات العراقية والنكهة العراقية في نصوصهم ، رغم إن هذا ليس معيباً أو منقصة على الشاعر ، بل هو دليل على أن الشاعر العراقي ، شاعر حياة ، وهذه المفردات شخصياً ، أعدها طريقة احتجاج ، على وضعية شاذة وغريبة عما هو متعارف عليه عن العراق ، الذي كان منذ فجر التاريخ ، مركزاً جاذباً للجماعات والأفراد ، فكيف تحول إلى مركز طرد ان صح التعبير ، ولكن حتماً الإسراف ، وعدم التنويع ، يخلق عند المتلقي ، أسئلة ً ليست من صالح الشاعر ، اما التنوع ، ومزج المكان المعاش بالمكان الذاكرة ، والاستفادة من الماضي مثلما هو من الحاضر ، كلها تثري النص ، ولا يشعر القارئ بالملل ، وشخصياً أرى العديد من الشعراء فعلوا هذا وان كان لابد من ذكر الأسماء فسوف أذكر أسماء ثلاثة شعراء ، ومن ثلاثة أجيال مختلفة ، أراهم يمثلون وجهة نظري هذه ، وهم سعدي يوسف وأرجو أن تراجع نصوصه التي نشرها في موقع كيكا على الأقل ، وسركون بولص ونصيف الناصري ، ولا يعني هذا عدم وجود شعراء آخرين نهلوا من أمكنتهم الجديدة ، ومن أجوائه وثقافته .
* نجد الشاعر المغترب يظل مشدودا إلى ماضويته على الرغم من ان قوانين وشروط مكانه الجديد تقتضي تغيير في نمط الحياة والسلوك لماذا لا تنعكس على رؤيا الشاعر في استحداث أنموذج شعري مغاير لتلك الماضوية ؟
الصدمة الثقافية ، لها تأثيرها الكبير، واذا كنا نخشى هذا المصطلح ، ونكابر في رفضه ، فهو حقيقة ، والمجتمعات المتقدمة تتفهمه وتتحدث به بكل صراحة ، اي انه يعامل لديها كَردّ فعلٍ انساني طبيعي ، بينما نحن نرفضه ، وهذا مايحدث لنا جميعا ً ، بل ان تصرفاتنا تسيئ لمن حولنا ، خصوصا ً وان غالبية الشعراء تركوا العراق مرغمين ، بشكل وبآخر ، حتى من آثر الصمت وعدم المشاركة في الحراك الثقافي ، فالاحساس بالحرية ، دفع ان لم يكن اجبر الكثيرين على الهجرة ، والاجبار ، يقود الى المعاندة ، والتشبث بعكس ما أجبر عليه ، فالشاعر العراقي لم يخرج بطرا ً، بل خرج مرغما ً مجبراً في أغلب الأحيان ، خرج وعيونه على مكانه الاول ، وعلى ذكرياته في حسن عجمي واتحاد الادباء ومقاهي وحانات بغداد ، اضافة لمقاهي مدينته والاماكن التي شهدت بدايات تفتح موهبته وكتابة قصائده الاولى وقراءاته ، ونزق المراهقة الثقافية والابداعية ، مَن منا لم يحن لشارع المتنبي وسوق السراي مثلا ً، كل هذه العوامل وربما غيرها ، إضافة للصدمة الثقافية التي ذكرتها أعلاه ، تسببت في ان يبقى الشاعر مشدوداً ، لمكان ماضيه الذي أقتلع منه ، وبقينا نقرأ قصائد فيها الحنين للوطن وللطفولة ، او على الأقل قصائد لايمكن ان تستدل منها على ان كاتبها يعيش في مكان مختلف ، فيه وسائل راحة مترفة قياسا ً بالوضع العراقي ، ولكن لايمكن اغفال من انتبه ، لوضعه القائم ، وبعد ان تشربت ذكرياته بالمكان الحالي ، وتعمقت أواصر الألفة مع نمط حياته الحاضر ، راحت قصائده تتنسم هواء مختلفا ً، وان على استيحاء ، في باديء الامر ، ولكن بمرور الوقت اصبحت قصائده تشي باختلافها ، شخصيا ً حين وصولي لنيوزلندا شعرت بحنين جارف للعراق وللاردن على حد سواء ، ولكن بمرور الوقت بدأت أتآلف مع المكان الجديد ، وساعدني في ذلك حتماً نجاحاتي الشعرية الكثيرة في نيوزلندا ، فكثرة الأماسي واللقاءات والنشر والمقالات التي كتبت عني ، والحوارات العديدة في الاذاعة التي أجريت معي ، كلها ساهمت بتقليل أثر الغربة أو على الأقل بسرعة وعمق تآلفي مع المكان الجديد ، فكانت قصيدة " هنا حماقات هناك .. هناك تَبختر هنا " و" شيء ما عنك .. شيء ما عني " و " جبل تَرَناكي " بل حتى " أنا ثانية ً " مؤثرات المكان الجديد واضحة فيها . ولكن السؤال : كم شاعر عراقي حقق ماحققت في مكانه الجديد ؟ بكل تأكيد قلة قليلة جدا ً، وانا شخصياً لا ألومهم بل أتفهم تماماً سبب عزلتهم ، وعدم تفاعلهم مع المكان الجديد وتحقيقهم لما حققت ، المنفى في جوهره هزة كبرى في حياة الانسان ، وسلاحٌ ذو حدين ، ولا أريد أن أقلل من منجزي المتواضع في المنفى ، ولكن صدقا ً الغربة غول يفترسنا.
* الغربة تفتح آفاقاً جديدة أمام الشاعر ماذا تعني عندك الغربة وماذا أضافت لك من معارفها ؟
الغربة نوعان ، روحية ، ومادية ، أي مكانية ، شخصيا ً أعاني من الغربتين معا ً ، وبما انك تعني الغربة المادية – المكانية ، فانا اعتقد انه لمجرد حنينك وان في فترات متقطة لمكانك الاول ، اذن انت في غربة ، وفي نيوزلندا كنت ارى اصرار الكثيرين على الوصول لها ، والحاحهم على اهاليهم ، ولكن بعد وصولهم ، يبدأ الحنين ، والشعور بالغربة والصدمة الثقافية وانعكاساتها ، فالغربة ، تخلق ازدواجية من نوع خاص ، فلكي تتكيف في البلد الجديد تحتاج الى سنوات عديدة ، وبعدها ، تبدأ في مرحلة عمرية ، مناقضة ربما تعيدك للمربع الاول ، الا وهي مرحلة البحث عن الجذور ، التي تصيب الانسان في الكبر ، وغالبية الأدباء تقوقعوا مع الأسف ، وأحسب نفسي اني من قلة نجت من التقوقع والانكفاء ، فاختلطت بجاليات كثيرة تعيش متآخية في نيوزلندا ( أخبرتنا مدرسة اللغة الأنكليزية ان بحثاً أجري في العاصمة النيوزلندية " ولنغتن " على عدد اللغات التي يتحدثها أهل العاصمة ، فكانت 68 لغة ) فاصبحت اجد متعة حين أمشي في الشارع ، وأسمع لغات كثيرة ً، وكونت صداقاتٍ رائعة ً مع أدباء وفنانين ومثقفين من جنسيات وخلفيات مختلفة ، وكانت هذه العلاقات والصداقات ، عاملاُ مساعداً مع قراءاتي الموسوعية لتاريخ العراق ، للتوصل الى نتيجة طالما رددتها ومفادها اننا نحن العراقيين ، خليط من جميع الأقوم والشعوب التي استوطنت عراقنا على مر الزمان ، هذا البلد الذي يكاد يكون من البلدان القليلة التي احتفظت بأغلب مساحاتها التاريخية ، حسبما ذكرها ودونها المؤرخون ، وعروبتنا ثقافية وليست عرقية ، وان العروبة في جوهرها مثل الشعب العراقي ، نتاج تلاقح اللغات والحضارات والثقافات عموما ً. نعم ان الغربة فتحت آفاقاً ، وأرتني محاسن ومساوئ ثقافتي ، مثلما أرتني إيجابيات وسلبيات الثقافات الاخرى ، وكيف ان لبعض الثقافات التي ربما لاتخطر على بالنا ، او لانعيرها أهمية ، لأننا نجهلها تماماً او لأن الصورة التي في مخيلتنا عنها ، سلبية ، أقول كيف لهذه الثقافات ، اشعاعات حضارية ، أشعرتني بالخجل ، لأن مجتمعي العراقي ، لم يصل إليها ، كما ان من هذه الآفاق ، انها علمتني ان أكفّ عن جعل نفسي وثقافتي مركز الكون ، وعليها أفصّل وأقيس الصح والخطأ ، وأن اتعايش مع جميع الامور مهما تناقضت مع تربيتي ، وثقافتي ومعتقدي ، ولأني جزء من كل.
* تحاول تسجيل أسماء الأمكنة التي مررت بها منفيا عن مكان طفولتك وصباك ماذا أردت ان تقول من خلالها مع انها لم تشكل رمزا ذا دلالة معرفية تشكل بؤرة لاستنطاق النص ؟
الشعر هو ديوان حياتي ، ومثلما سمعت مرارا ً من قرّاء محترفين ، أنهم عرفوا الكثير عني من خلال شعري ، وهذا في حقيقته يمنح النص خصوصيته ، وهو عكس التجريد الذي يغرف عادة من تجارب أخرى ، أو يكون فاقداً لحرارة التجربة وصدقها (أعني المبالغة في التجريد)، فأنا شاعر حياة، وأكتب بدون مسطرة وقلم، أي لا أبالي بما قاله فلان وسجلته الناقدة فلانة في كتابها الشهير، الشعر بالنسبة لي خارج النظريات والمسطرة، ومن الصعب تعريفه، الأمكنة التي ذكرتها في نصوصي لي معها ألفة، ولي فيها ذكريات ، قد تكون مريرة وقد تكون العكس ، والذين كتبوا عن تجربتي المتواضعة أختلفوا في قراءاتهم ، بهذا الخصوص ، وبكل تأكيد أن الأختلاف هو لصالحي، ولايهمني أن أصَنّف تحت أي لافتة ما، مكانية أو زمانية أو غير ذلك، أكرر ما قلت : أنا شاعر حياة والشعر ديوان حياتي، وما أراه اليوم قد تستجد أمورا ً وقراءات ٍ ويختلف وعيي ، فأرى العكس.
* المعرفة بشكلها العام تفتح فضاءات أمام المثقف ماذا تفتح أمام الشاعر ؟
المعرفة ، هي أحد مرتكزات الإبداع الثلاثة، أي الموهبة والتجربة، إضافة للمعرفة وما تضيفه حتما ً الكثير، فالشاعر منتج ثقافة، ولايمكن لمُنتَج ثقافي أن يكون نوعيا ً بدون الاستفادة من المعرفة ، وسؤالك هذا طالما أرّقني ، منذ بدأت أخطّ أولى قصائدي، وأقرأ وأتابع وأنا حينها في مرحلة الدراسة المتوسطة، وإن كان بصيغة أخرى، أي لماذا تنتهي فترة الإبداع عندنا مبكرا ً، حتى توصلت الى نتيجة مفادها، أن غالبية شعرائنا تقل قراءاتهم رويدا رويدا ً، ويعتمدون على التجربة والتي هي في جوهرها لاتعدو أن تكون جلسة خمر في حانة يسبقها جلوس في حسن عجمي أو أي مقهى اخر، ويتلوها جلسة خمر في اتحاد الأدباء والكتاب، بينما الشعر معرفة وتأمل، ويحتاج الى قراءات واسعة ويومية، والقراءات لا أعني بها الصفحات الأدبية في جرائدنا ومجلاتنا، فهي جد طبيعية، بل أعني المعرفة الثرة التي لاتتأتى الاّ نتيجة قراءات عميقة ، تجعل الشاعر على احتكاك بتجارب شعرية متنوعة وكثيرة جداً ، عربية ومترجمة ، كما ان النقد والدراسات لاتقل أهميتهما عن قراءة الشعر ، والفلسفة والتاريخ والمعتقدات والعلوم كالاجتماع والمجتمعات والاناسة والنفس ...الخ ، كلها ضرورية للشاعر ، مثلما هي ارتياد المعارض التشكيلية ، والمسارح ، وغيرها .
الشعر يحتاج الى دربة ودراية وتأمل ، وليس كما يظن البعض أن القراءات العميقة تفسد الشاعر، بينما العكس صحيح، أو قل إن مايفسد الشاعر، شيئان هما فقدان الشاعر لاندهاشاته ، وندرة قراءاته.