انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

    الأديب ناظم السعود يحاور باسم فرات (حوار في كتاب)(1-5)

    avatar
    Admin
    Admin


    المساهمات : 533
    تاريخ التسجيل : 14/09/2010

    الأديب ناظم السعود يحاور باسم فرات (حوار في كتاب)(1-5) Empty الأديب ناظم السعود يحاور باسم فرات (حوار في كتاب)(1-5)

    مُساهمة  Admin الجمعة أكتوبر 29, 2010 12:19 am

    محاولات لكتابة قصيدة

    1- مع أنك مولود في كربلاء 1967 وعشت فيها ستا وعشرين سنة إلا أن ولادتك الشعرية تأخرت إلى مرحلة الغربة الجغرافية وارتكاب المنافي بحيث وجدت طريقك المتفرد في المشهد الشعري العراقي كما قال سعدي يوسف: ترى لم احتاجت الولادة الشعرية الناضجة إلى التماهي في المنافي لتنزف بريقها وبروقها؟ وهل المنفى الوطني لم يكن مستعرا كفاية لإنضاج تلك الولادة؟

    * بدأت القراءة وكتابة الشعر وأنا في الابتدائية، وأما مسألة النضج، فلم أقرأ لشاعر دون سنّ الثلاثين أشعرتني نصوصه بنضج تجربته، الغالبية العظمى من الشعراء تنضج تجاربهم بعد سنّ الثلاثين، وفي حالات قليلة بل نادرة بعد سن الخامسة والعشرين. ثمة من تنضج تجربته على نار هادئة فيكون نتاجه حاملاً لعبق السنين وتجارب ثقافية هضمها جيداً، وهذا هو المحظوظ، فالنضج البطيء يعني هناك الكثير مما يقدمه الشاعر، عكس من تنضج تجربته مبكراً، لأن هذا يعني أنها سوف تذبل سريعاً. تجربتي (إن حق لي أن أدعو ما كتبت تجربة) نضجت على نيران القراءات والتجارب العملية والذهنية. والأخيرة أعني بها تفاعلي مع ما قرأت وهضمي له، هذا إن كانت قد نضجت فعلاً، فأنا مازلت في أول الطريق وما كتبته هو محاولات لكتابة قصيدة، متمنيًا أن يتحقق حلمي وأكتبها، رغم يقيني أن الشعر يستحق أكثر من حياة حسب قول سركون بولص.
    المنفى سلاح ذو حدين، فإما أن يبتلعك وتنتهي كما حدث مع الكثير من الكٌتّاب ممن كنا نرى نشاطهم ونتابع كتابتهم وإذا بهم يصمتون، أو أن تتراجع لديهم الموهبة، فيجتروا كتاباتهم ومنجزهم، أو هو إثراء لك حين تهضم الثقافة الجديدة والمكان الجديد، فيضيف لتجربته وهجًا مختلفًا تجعله يعبر لمرحلة إبداعية جديدة.
    أرى أن ولادتي الشعرية مستمرة ولم تتوقف، أو هذا ما أرجوه، وكلي أمل أن يكون بريقها ووهجها في تصاعد، خصوصًا وأن ما كتبته في اليابان ولاوس كان أكثر تطورًا في مسيرتي المتواضعة حسب اعتقادي.

    امتعاض من العروبة

    2- في عام 1998 ((احتجاجًا على جهلنا التام بتاريخ العراق)) ألزمت نفسك بمشروع شامل لقراءة التاريخ العراقي: هل تراك أكملت هذا المشروع الجرىء؟ وهل ثمة حصيلة منظورة تكونت لديك بعد النفاذ إلى مشروع إشكالي اسمه التاريخ العراقي؟

    * قرأت تاريخ بلدي، برؤية شاعر يتأمل تاريخه، ولكنني لست مؤرخًا، وهذه القراءة تصب في نهر الشعر، والمشروع قائم ولا أظنه ينتهي. أما الحصيلة فلا تعدّ حقًّا لكثرتها وفوائدها وكلها مفاجآت، يكفي أنني اكتشفت ظلْمنا لأنفسنا نحن سكان الأرض الأصليين، نحن الناطقين بالعربية الذين أكثر من تسعين بالمئة من ميراث العراق ومنجزه الثقافي خطّ بلغتنا، نحن العراقيين مَن أوجد الكتابة العربية وغالبية خطوطها، بل إن الدراسات الحديثة تشير إلى الأصل الأكدي للغة العربية، وهو ما يدحض دعاة الأصل الصحراوي للغة العربية وفي ذات الوقت آراء القوميين السريان من أن اللغة العربية نهلت الكثير من لغتهم، فالسريانية والعربية فرعان من دوحة اللغة الأكدية، وهو ما جعلني أومن أننا جميعًا أبناء الثقافة الأكدية، ومعظم بدايات الحضارة العربية الإسلامية خطت بأيدٍ عراقية، وأن التراث المكتوب بالعربية هو أغنى وأثرى تراث في العالم، وأن للعراقيين الحصة الأهم في هذا التراث، وقد تصل هذه الحصة إلى ما يقارب تسعين بالمئة. قراءة تاريخ العراق حررتني من أن أكون ضمن ثقافة السائد، ثقافة الإشاعة، ثقافة الفرقة الناجية، فلم ألتفت لترهات ما يقال حتى لو كان من أفواه الضحايا أنفسهم، فالضحايا صورة أخرى من جلادها، أقل درجة ودرجات، وأحيانًا أبشع من جلادها، خصوصًا حين تنظر إلى القومية التي ينتمي لها الجلاد على أنها صورة مستنسخة من الجلاد، وحين تُزوّر هويةً لها قائمة على إلغاء الآخرين والحط من بقية الطيف العراقي.
    اكتشفت أن عددًا كبيرًا من المبدعين الذين أثروا الحضارة العربية الإسلامية لم يكونوا فُرسًا كما تعلمنا، بل كانوا سريانًا وأتراكاً، وأن دورًا كبيرًا لعبه السريان في تاريخنا الثقافي نُسبَ مع الأسف الشديد للفرس، وهذا لا يقلل من دور الفرس الكبير والمهم والمميز في الحضارة العربية الإسلامية. بل إنني قرأت لأحد القوميين ممن ينتمون لفئة غير الناطقين بالعربية والسريانية، أنه يحاسب المؤرخين لأنهم حين ذكروا أسماء المؤلفين بالسريانية في مدينة عراقية متخمة بالنفط، كيف لم يذكروا قومية هؤلاء أي أنه يريد تزوير التاريخ وتأكيد أوهامه من أن قومه يعيشون في هذه المدينة منذ قرون سحيقة، بينما الحقيقة التي يعرفها القاصي والداني أن هذه المدينة كانت حتى ماضٍ ليس بالبعيد شبه فارغة من قوم هذا الكاتب، وقد نزحوا إليها وإلى عشرات المدن والبلدات العراقية الكبيرة والمتوسطة والصغيرة مع تنامي صناعة النفط، وبقية الصناعات، وتنامي القوات المسلحة العراقية، وما تحتاجه هذه من أيدٍ عاملة غير فنية. هذا الكاتب أخطر من الذين يفجرون الكنائس، ويهددون الناطقين بالسريانية لترك البلد، لأنهم منبوذون من الناس جميعاً، بينما عملية الإقصاء والاستيلاء على تراث السريان ونسبته لنازحين جدد غالبيتهم العظمى لم يولد جده الأول في المدينة، لهي عملية أكثر بشاعة وخطورة.
    ساد في الثقافة العراقية امتعاض من العروبة وجحود ونكران لها، بسبب أربعين عامًا من سيادة القوميين العرب على مقدرات العراق، ومما يؤسف له أن الذين يُفترض فيهم أن يكونوا نخبة المجتمع والأمة، راحوا يلوكون كلامًا قد يُقبل من مواطن بسيط، وخصوصًا حين يكون من غير الناطقين بالعربية، ولكنه يُرفض تمامًا ممن يرى في نفسه مثقفاً، لأنه لا علاقة تربط العروبة بالقوميين العرب، وقد صدق المؤرخ سيار الجميل حين فصّل الأمر في مقال له، مبينًا أن العروبة ضحية القوميين العرب، وأنها بريئة مما ارتكبوه، لأن العروبة هوية ثقافية لا يمكن التخلص منها بشتمها والادعاء أننا سومريون أو أكديون أو بابليون أو آراميون... إلخ، ولقد ذكرت في الهامش رقم 12 من مقالي "منابع مأساة العراق وإشكالاته.. مراجعة نقدية" ما يوضح رأيي بما يلي: الانتماء العربي يمثل حضورًا عفويًّا مشروعًا في نفس كل عربي، شأنه شأن أي إحساس قومي عفوي، نشأ بفعل عوامل تاريخية ولا يتعدى حضوره الهوية الثقافية والوجود الذي يعتز به الإنسان. أما العقل العروبي فنقصد به التوظيف السياسي الذي سعى إلى نمذجة هويته لتعلو على سواها من الهويات الأخرى مستغلاًّ التاريخ والدين والثقافة، لتنتهي ممارساته إلى حالة من التعصب والتآمر والإفلاس غير المسبوق للعرب، لتؤدي إلى كفر الناس أنفسهم بها.
    وأعتقد أن قراءتي للتاريخ عصمتني من أن أردد ثقافة الإشاعة، بل إني تعرضت لاتهامات من قبل البعض ممن ناقشتهم بالأمر، وراحوا يرددون: اقرأ ما كتبه عباس العزاوي، العرب قبائل بدوية نزحت في العهد العثماني، هكذا وبكل سهولة يشطبون على تاريخ عريق عمره يزيد على ألفي عام من التواجد العربي في العراق قبل دخول العثمانيين، وكأن عشرات الآلاف من الكتب التي خطت باللغة العربية قبل الاحتلال المغولي، خطت جميعها بأيدٍ غير عربية وبلغة غير العربية، وثمة مَن راح يردد أنه باستثناء الأدباء، على أساس أنّ الأدب قوميّ، فلا وجود لعربي قط أبدع في غير مجال الأدب، وكأن الإمام مالك الحميري اليمني والإمام الشافعي القرشي والذي يلتقي نسبه بنبيّ الإسلام بعبد مناف، والإمام أحمد بن حنبل الشيباني العراقي البغدادي لا ينتمي إلى قبيلة تضرب جذورها عميقًا في أرض العراق، هذه القبيلة التي قادت التحالف العربي العراقي ضد الفرس في معركة ذي قار، والتي كانت كركوك مشتاها، هذه المعلومة التي تؤكد حقيقة كركوك المتنوعة والتي لا تنتمي إلا للعراق والعراقيين قاطبة، مثلها مثل جميع مدن وقصبات العراق التي تزهو بتنوعها. هذا الكلام لا يقلل من إيماننا بأن الدور الذي لعبه السريان والفرس والأتراك مجتمعين في الحضارة العربية الإسلامية لهو دور يضاهي دور العرب كثيراً، بل إن الثقافة العربية اصطبغت كثيرًا بمنجز هذه الفئات وغيرها.
    في أول سؤالكَ أعلاه ذكرت بداية الفقرة فقط وهو "احتجاجًا على جهلنا التام بتاريخ العراق" وهنا سوف أثبتها كاملة وهي "احتجاجًا على جهلنا التام بتاريخ العراق، بدأتُ مشروع قراءة تاريخ العراق شاملاً، فاكتشفتُ أن العقل السياسي العراقي واحد، ويستنسخ بعضه بعضاً، وأن الضحايا تتخذ من جلادها مثلاً أعلى لها" بل بعد هذه السنوات التي مرت على كتابتي لهذا الاحتجاج، توصلت إلى أن العقل السياسي العراقي عقل ديني بدوي، فالعقل الديني لا يقبل النقد لأن الدين فوق النقد، والعقل البدوي يستهين ويرفض بشدة كلمات ومصطلحات وجمل مثل "شكراً، آسف، عفواً، أعتذر، تسمح، تعلمت، خطأي، أنت سبقتني، أنت على حق، أنت مصيب، لم أكن مصيباً" وسواها من مفردات ومصطلحات وجمل المدنية، لأن البداوة ترى في الاعتذار والاعتراف بتقدم الآخر عارًا يثلم رجولتها وشموخها وكرامتها، فالقومية تحولت إلى دين والاختلاف معها لا يعني تعدد الآراء والاختلاف في زوايا النظر بل العداء للقومية نفسها والعنصرية والشوفينية، ومثل مقولة "دينان لا يجتمعان في جزيرة العرب"، أصبح لدينا "قوميتان لا تجتمعان في أرض واحدة"، أقول في أرض واحدة لأنه لا يختلف دعاة القومية غير العرب عن القوميين العرب في شيء مطلقاً، ولا يختلف الجميع عن الجميع من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ودليلنا أننا لا نملك تيارًا عراقيًّا له موطئ قدم في الشارع العراقي وفي التاريخ العراقي، ولديه مشروع وطني عراقي يناقض مشاريع اليمين واليسار، مشروع قائم على دولة المواطنة والاعتزاز بالهوية العراقية كهوية جامعة للعراقيين، ينبع ثراؤها من تنوعها واعتبار التنوع روافد تصب في نهر العراقية، مشروع يرفض مصطلح الأقليات مثلما يرفض مصطلحات أخرى كحق تقرير المصير سيّئ الذكر، والقومية على أساس عرقي، ويدعو لأن تخلو بطاقة الأحوال المدنية من ذكر الديانة والقومية، ويتبنى بشكل حقيقي مبادئ حقوق الإنسان.

    3- اتصالا بالسؤال السابق.. هل ألْقَتْ قراءتك للتاريخ ظلالا معينة على تجربتك الشعرية وهل كانت حافزًا لبلوغ محطات جديدة في تجربتك؟

    * الشاعر بحاجة ماسة للقراءة، منتج الثقافة يجب أن يكون أكثر الناس اطلاعًا عليها وهضمًا لها، لا إنجاز حقيقي بدون قراءة حقيقية، قراءة مبدعة وخلاقة، والتاريخ أحد روافد المعرفة المهمة، ولكني لستُ مؤهلاً للحديث عن استفادتي من التاريخ في نصوصي، فهذا حق القارئ والناقد، أما إن كانت حافزًا لبلوغ محطات جديدة في تجربتي المتواضعة، فاعتقد كل قراءة هي محفز وكل تجربة أيضاً، كما أنني أقرأ لأن القراءة بالنسبة لي غاية كما الشعر، وليست وسيلة للوصول لشيء ما، أي أن قراءتي ليست انتهازية، بل قراءة تأملية، ومثلما كتابتي للشعر حاجة روحية ماسة بالنسبة لي، كذلك القراءة.

    المسكوت عنه

    4- واتصالاً ثالثًا بالسؤال الأسبق هل تجد أن نزوعك لـ (ترك العراق) كان يمثل -بمعنى ما– شكلاً من أشكال التعرف على الذات أو كشفًا للمسكوت عنه من تاريخ العراق غير المُدون؟

    * هو بلا شك يمثل شكلاً من أشكال التعرف على الذات، أما كشف المسكوت عنه من تاريخ عراقنا فهو تحصيل قراءات واسعة وطرح أسئلة على بقية الطيف العراقي ومعايشتهم، إذ عشت في العاصمة النيوزلندية ولنغتن مع الطائفة المسيحية بآثورييها وكلدانها، ومنحتني هذه المعايشة الكثير من المعلومات غير المدونة واطلعت على كتب ليست متوفرة لأمثالي إمّا لقدمها أو لأنها طبعت طبعة واحدة أو أكثر ولكن مضى عليها أكثر من ربع قرن، وهناك الكثير من المسكوت عنه في تاريخنا، مثلاً: إن الغالبية العظمى من المسيحيين العراقيين هم من الشمال، وتركوا شمال العراق بعد تنامي الحس القومي الْمُغالي، وخصوصًا لدى أكبر فريقين في العراق، ونزحوا إلى بغداد والجنوب، ومنهم من استقر في الموصل نفسها، ولكنهم بدأوا بترك العراق منذ الستينات، ومما يؤسف له أن المشاع بين الناس هو اتهام فريق قومي واحد فقط، ولنسميه (سين)، بينما الحقيقة أن الفريق الآخر (جيم) مثلاً، لا يقل عنفًا وإقصاءً عن الفريق المتهم، رغم أن الاتهام يجب أن يُوجه بالتساوي لمن يُفترض فيه أن يكون الأخ الرؤوم والرحيم بإخوته الأقل عدداً، ومَن يريد أن يستولي على أكبر مساحة وينسبها لمشروعه القومي الإقصائي حتى لو لم يملك واحدًا بالمئة من آثارها وتراثها وميراثها، ونزوحه جد حديث لا يرقى إلى بضعة عقود على نشوب مجازر الهوس الأيديولوجي. الأرض مباحة للجميع أي من حق أي إنسان الانتقال من مكان إلى آخر، ولكن ليس من حقه أن ينسب الأرض له ويمنحها اسمًا عنصريًّا أو قوميًّا، إن لم يكن له فيها بنية ثقافية متكاملة ونسق معرفي تاريخيين، وهذا لن يتحقق إلا بعد تواجد كثيف وفعّال ومميز يمتد لقرون. هذا مثال مما هو مسكوت عنه في تاريخنا.

    ظلمتهم الجغرافيا

    5- وثمة هاجس يؤرقني (في هذا المحور) أطرحه أمامك بالشكل التالي: هل مشكلة المثقف العراقي تكمن في التاريخ الغابر أم الحاضر المصادر؟ بمنظور آخر: هل تجد أن تاريخنا كان مرآة عاكسة لموبقات وجرائر حاضرنا وأن الكشف عن دورات التاريخ هو الوجه الآخر لاستمكان ما يمور في الحاضر من فظائع وفضائح؟!.

    * تكمن بعدم اهتمامنا بتاريخ العراق، فنحن من أكثر الشعوب جهلاً بتاريخ بلدها رغم أن هذا من الممكن عده إحدى الخصال الحميدة في الشخصية العراقية، فهو دليل تسامح وقبول للآخر المختلف لغويًّا أو دينيًّا أو مذهبيًّا، ولكن مما يؤسف له هناك مَن لعب على هذا الوتر، وتحولت الكثير من الأكاذيب والتلفيقات إلى بديهيات مقدسة يجب عدم المساس بها، بل منها ما دخل مضمار الدين، ووجد صدى وهوى في نفوس الجميع مسلمين وغير مسلمين وعرب وغير عرب، وأخطر هذه الأكاذيب على سبيل المثال هي ما يسمى بالفتح العربي للعراق، وأن العرب عبارة عن قبائل رعوية تجوب البوادي والصحارى وتقتل بعضها بعضًا وإلخ، وصار مَن يدحض هذه الأمور يتلقى سلسلة طويلة من الاتهامات، حتى لو استشهد بنتائج بحوث لكبار الباحثين الذين لا يلتفتون لحدثني فلان عن أبيه، وإنما إلى معطيات علم الآثار واللسانيات وعلم الأنسنة. يذكر الملك الآشوري شلمانصر الثالث (858-842 ق. م) أن الملك العربي جنديبو/ جندب شارك في معركة قرقر مع جيش مؤلف من ألف رجل يركبون الجمال، وهو أول ذكر للعرب في المصادر التاريخية المعروفة. وبعد ذلك يورد تيغلات بلاصر الثالث الآشوري (745-727 ق. م) أسماء مجموعة من الملوك والملكات العرب مثل ظبية وشمس العرب. ويذكر اسرحدون (689-669 ق. م): في أخباره أنه عندما قهر ملوك العرب أقام عليهم ملكة منهم كانت ممن قد تربت في نينوى وتخلّقت بأخلاق الآشوريين، فحجر بهستون والماء الذي يحيط بنسبة 80% بما يسمى شبه الجزيرة العربية، وعشرات القصور وطرز العمارة والكتابة والنقوش التي وجدت في عشرات الأماكن، وتواجد العرب في الجيش العراقي (الآشوري) الذي غزا مصرَ، والنسبة الكبيرة من المقاتلين العرب في الجيش الكلداني الذي أطاح بمُلكِ الآشوريين للأبد، مما جعلهم يشكلون خطرًا على الدولة الكلدانية الحديثة، واضطرار الملك العراقي نبوخذ نصر لبناء حيرٍ (قلعة) لوضع زعمائهم وتجارهم وسادتهم فيه، ليكونوا تحت المراقبة، ثم لم يمض على سقوط بابل عام 539 ق.م، سوى فترة وجيزة حتى سميّ شمال العراق الغربي، أي المنطقة المحصورة بين دجلة والفرات وامتداداتها داخل العمق السوري والتركي اليوم، ببيت عربايا، أي بلاد العرب. بل إن المؤرخين القدامى قبل الإسلام وباحثي الحداثة اليوم يتفقون أن الجزيرة العربية هي المنطقة المحصورة بين دجلة والفرات من شمال بغداد وحتى العمق التركي، وللتدليل على تعاظم الحيرة أن البحرين كانت ولاية تابعة لها، وقصة مقتل الشاعر طرفة بن العبد غنية عن التعريف، كما أن النعمان بن المنذر مَلّكَ عمرو بن إطنابة الخزرجي على المدينة، ممّا يدلّ على سعة نفوذها، والأهم من هذا وذاك هو التزاوج الهائل بين العراقيين وهو ما يتضح من خلال اللهجة العراقية والعادات والتقاليد والتي نجد منابعها في الألواح وكتب الأقدمين وتشابه كثير من الأمور بين العراقيين أنفسهم بغض النظر عن لغاتهم وأديانهم، أو بينهم وبين أقوام البلدان المجاورة. لكن جهلنا بالتاريخ، سمح لأصحاب المصالح والأهواء أن يقودوا دفة الإشاعة لما فيه صالحهم، وتمزيق الوطن، وخلق الكراهية.
    كتب مرة المؤرخ الدكتور سيار الجميل مقالاً ظريفًا عن أصعب مهنة بالعراق، وهي مهنة المؤرخ، وإذ أتفق معه فأني أود القول إن أصعب أنواع القراءة في العراق هي قراءة تاريخ العراق نفسه، ويقول المؤرخ كمال مظهر أحمد: "المشكلة في كثير من إخواننا العرب أنهم ربما يعرفون تاريخ كل العالم لكنهم لا يعرفون تاريخ الكرد، لذلك فإنهم مازالوا يحملون الكثير من التصورات الخاطئة" وهو كلام صحيح فلو كان الناطقون بالعربية قد قرأوا الكثير ليس عن تاريخ الكرد فقط بل وتاريخ جميع الفئات اللغوية والدينية والمذهبية التي تعيش معهم لما حملوا الكثير من التصورات الخاطئة، إن كانت هذه التصورات ايجابية أو سلبية، فالمعرفة أفضل الوسائل الناجعة مع الحرية والاقتصاد الجيد، لمحو النظرة الخاطئة، وأكرر إن كانت تعاطفًا أو معارضة. والتاريخ العراقي متشابك وهو ما يتعذر معه معرفة تاريخ فئة ما مهما تبحرنا في قراءة كل ما كتب عنها، إن لم نقرأ بقية الطيف العراقي، نعم تعلمت الكثير عن الفئات العراقية ليس من خلال قراءة ما كتب عنها بل ومن خلال ما كتب عن الفئات الأخرى.
    لو كانت المعرفة منتشرة بين العراقيين (السياسيين والأدباء والإعلاميين خاصة) لما سمعنا جملاً تزويرية يرددها بعض ضحايا نظام صدام حسين الذين أثبتوا أنهم خير تلامذة له، مثل "العراق وطن اصطنعه الإنكليز" و"الغزو العربي للعراق" و"الفتح العربي الإسلامي غزو افتتح عهد تقسيم الأمة الكردية" بل هناك مَن جعل دولتي الخروف الأسود والأبيض كرديتيْن وراح ينسب للكُرد من مساوئ هاتين الدولتين ما هم براء منه، جاهلاً أن شمال العراق كان حينذاك مليئًا بالأقوام التركية والسريان والعرب، مثلما ادعى أحد السياسيين أن الأكراد لا حضارة لهم، هكذا، شاطبًا أي دور للكُرد في الحضارة العربية الإسلامية، وفي ذات الوقت مبينًا جهله التام وعدم تفريقه بين مصطلحي الحضارة والمدنية، أو مَن يردد أن "التركمان نزحوا مع الاحتلال العثماني للعراق" شاطبين على سبعة قرون من عمر التركمان في العراق، وفي ذات الوقت نافين عن فئة عراقية مهمة عراقيتهم حتى لو افترضنا أنهم نزحوا مع الاحتلال العثماني، ألا تكفي 475 عامًا ليكونوا عراقيين، متى إذن يصبح المرء عراقيًّا، ما الفرق بين هؤلاء الذين يرددون هذا الكلام وبين نظام صدام حسين الذي هجّر الآلاف من العراقيين بحجة التبعية، الطاغية صدام حسين لم يعش في بلدان اللجوء والهجرة لسنوات طويلة لاجئًا ومنح جنسية البلد المضيف، ورأى بأم عينيه التنوع في مجتمعاتها، بل كان بدويًّا ذا نظرة ضيقة للأمور وفهم ساذج للتاريخ والدولة والقومية العربية التي تكمن أهميتها في كونها ثقافية وليست عرقية، وأنها بدون المساهمات الخلاّقة للسريان والفرس والأتراك والأقباط والأمازيغ والكرد والأرمن وبقية الطيف الذي أنتج لنا هذه الحضارة، تكون فقيرة ومجدبة وبائسة، بينما هؤلاء عاشوا ومازالوا في بلدان اللجوء، ومما يؤسف له أن عددًا كبيرًا منهم يضع كلمة دكتور قبل اسمه، ويكتب عن العراق بل يُعدّ باحثًا وأستاذاً، بينما جهلهم بتاريخ العراق مُرّوع.
    كيف يكون العراق صناعة إنكليزية وهذا البلداني أحمد بن رسته المتوفي عام 289 هجرية، وقبل أكثر من ألف عام على معاهدة سايكس بيكو ذكر: "أن حد السواد الذي تم مسحه في صدر الإسلام هو من لدن تخوم الموصل، مارًّا إلى ساحل البحر من بلاد عبادان، من شرقي دجلة طولاً، وعرضه منقطع الجبل (حمرين) من أرض حلوان (بعد خانقين) إلى منتهى طرف القادسية، مما يلي الغريب"، عُرف ذلك الامتداد بـ"عمل العراق"، بينما المؤرخ العراقي المسعودي (ت 345هـ) في مصنفه التنبيه والإشراف، قد كرر كلمة العراق، مراراً، منها حين تحدث عن الطقس قائلاً "يقع الوباء بالعراق إذا دامت الريح في أيام البوارح والشمال عندنا ببغداد تهب من أعالي دجلة مما يلي سر من رأى وتكريت وبلاد الموصل.... والبوارح بالعراق تهب في حزيران والجنوب ببغداد، تهب من أسفل دجلة مما يلي بلاد واسط والبصرة"، ثم حدده "السواد وهو العراق، فقالوا حده مما يلي المغرب وأعلى دجلة من ناحية آثور، وهي الموصل القريتان المعروفة إحداهما بالعلث من الجانب الشرقي من دجلة وهي من طسّوج بزر جسابور، والأخرى المعروفة بحربي وهي بإزائها في الجانب الغربي من طسوج مسكن، ومن جهة المشرق الجزيرة المتصلة بالبحر الفارسي المعروفة بميان روذان كم كورة بهمن أردشير وراء البصرة مما يلي البحر"، فيما ذكر المدائني (132-224هـ) فقالوا: حدّه حفر أبي موسى من نجد وما سَفُل (بفتح السين وضم الفاء) عن ذلك يقال له العراق. وقال قوم: العراق الطور والجزيرة والعبر والطور وما بين ساتيدما إلى دجلة والفرات. هنا لابد ان نفقه هذا التكوين الثنائي (الطور+ الجزيرة) وما بينهما العبر (العبور). فالجزيرة هي كل ما بين النهرين وملحقاتها حتى أقرب نقطة تضيق الأرض بين دجلة والفرات (عند بغداد) ومن ثم يأتي الطور لما بينهما حتى الالتقاء ومن ثم المصبّ.
    ويتكرر هذا الاتفاق عند الماوردي (ت 450هـ)، وفي خارطة ابن حوقل (977م)، واليعقوبي (ت 284هـ)، وابن خرداذبة (820-912م)، ويذكر أبو حنيفة أحمد بن داود الدينوري (ت282هـ) "وخص ولد شيت بأفضل الأرض وأسكنهم العراق". ثم يذكر عن زاب بن بودكان بن منوشهر انه "كرى بالعراق أنهارًا عظامًا سمّاها الزواّبي اشتق اسمها من اسمه وهي الزابي الأعلى والزوابي الأوسط والزابي الأسفل، وابتنى المدينة العتيقة وسماها طيسفون"، وهو دليل على أن الزوابي منذ قديم الزمان جزء لا يتجزأ من العراق. ولا يبتعد الجغرافي أبو سعيد المغربي (1286م)، وابن الجوزي في مناقب بغداد، وصفي الدين عبد المؤمن بن عبد الحق البغدادي (ت 739هـ)، وشهاب الدين الآلوسي في "طراز المذهب" وسواهم عما ذكره أحمد بن رسته والمسعودي، بل ويكاد يقترب مما حدده المؤرخ البريطاني الشهير كينير في كتابه الإمبراطورية الفارسية صفحة 89، المنشور عام 1811م، أي قبل معاهدة سايكس- بيكو بأكثر من قرن، حين قال: "يمتد العراق من أدنى شط العرب جنوبا حتى مدينة ماردين شمالاً ومن زرباطية شرقًا إلى الخابور غرباً".

    وأما التواجد التركماني في العراق فعمره أكثر من 1200 عام، فأول وجبة جيء بها كان عام 54 هـ- 673 م، وكان عددهم 2000 شخص، ومن ثم تزايد بمرور الزمن، حتى إذا تقلد المعتصم الخلافة امتلأت بغداد بهم، فاضطر لتحويل عاصمته شمالاً، وفي الوقت الذي يفخر البعض بوجود 700 شخص في الأطراف الشرقية القصية من كركوك، كان هناك 40000 أربعون ألفًا من التركمان مع عوائلهم، فتخيل العدد، ثم حين أطل القرن الحادي عشر الميلادي واستولى السلاجقة على العراق، انتشروا في شمال العراق بشكل كثيف جدًّا، واستمر التدفق بعد ذلك بقرون، ونتج عن ذلك 350 مفردة تركية باللهجة العراقية، وفي المقابل مئات إن لم تكن آلاف المفردات العربية في اللغة التركية، وتزاوج كبير بحيث نادرا ما يخلو عراقي من دماء تركية، كما أن بعض أساطين الشعر التركي عراقيون، فعماد الدين نسيمي بغدادي (1370 – 1414م وقيل 1433م) المولود في بغداد توفي قبل الاحتلال العثماني بأكثر من قرن، وهو أول شاعر ينظم بالتركمانية، وفضولي بغدادي (1494 – 1556م) ولد قبل الاحتلال العثماني بأربعة عقود، وهو من أهم شعراء اللغة التركية، ويلقب برئيس الشعراء، وله مكاتبات ومناظرات شعرية مع الشاه إسماعيل الصفوي الذي يعتبر في الوقت نفسه من أبرز شعراء الشعر الكلاسيكي التركي (أدب الديوان) حيث كان يكتب قصائده باسم (خطائي) وإليه أهدى الشاعر ديوانه (بنك وباده)، وفضلي بن فضولي، وشمسي (ت 1567م) وولده رضائي، وحسيني (ت1577م)، وعهدي (ت1593م)، وله كتاب "كلشن شعراء"، وابنه نظمي البغدادي (ت1663م)، وحفيده المؤرخ مرتضى مؤلف "كلشن خلفا" (ت1723م)، إضافة إلى عشرات الأدباء والشعراء، الذين أثروا التراث العراقي مثل إخوانهم الذين كتبوا بالعربية والسريانية والمندائية والفارسية والعبرية.
    وأما بالنسبة للمسيحيين الذين ظلمهم كإخوانهم التركمان وبقية الطيف العراقي قائد انقلاب الرابع عشر من تموز 1958م بقوله "العرب والأكراد شركاء في الوطن" بينما دولة المواطنة، الدولة العصرية جميع مواطنيها شركاء في الوطن، فسوف أذكر مقتطفات مما تعينني عليه الذاكرة لنرى مساهمتهم الكبيرة والمهمة والثرية في العراق الحديث: لعل أقدم مطبعة تأسست في العراق تلك المطبعة الحجرية التي جاء بها الآباء الدومنيكان من فرنسا إلى الموصل في حدود سنة 1856-1857م. ومنها خرج أول كتاب في نحو اللغة العربية يطبع في العراق هو "خلاصة في أصول النحو" للخوري يوسف داوود عام 1859م. كما ألفَ كتابًا في علم الجغرافيا عام 1863م، وهو صاحب أول كتاب علمي ومنهجي يطبع في العراق أيضاً، عنوانه "تعلة الرغاب في علم الحساب" عام 1865م. كما أن أول كتاب طبي يطبع في العراق، عنوانه "لمحة اختبارية في الحمة التيفوئيدية" عام 1914م، تأليف حنا خياط الذي كان أول وزير صحة عراقي. وفي عام 1860م: تم استبدال المطبعة الحجرية بمطبعة حديثة جلبوها من فرنسا، علمًا أن المسيحيين أسسوا في الموصل مطبعتين قبل تأسيس مطبعة الولاية في بغداد بنحو عشرة أعوام. وقد لعب المسيحيون العراقيون دورًا كبيرًا وهامًّا في تأسيس المطابع في العراق، بل من الممكن القول إن لهم الريادة في هذا المجال. وأما في تأسيس وإصدار المجلات والصحف فريادتهم واضحة ففي عام 1902م: مجلة "إكليل الورود" أول مجلة تصدر في العراق، أسسها الآباء الدومنيكان في الموصل، وفي عام 1905م: مجلة "زهيرة بغداد" يصدرها الآباء الكرمليون وأبرز المساهمين فيها الأب أنستاس الكرملي، الذي أصدر عام 1911م مجلته الشهيرة "لغة العرب"، بينما في عام 1913م: يصدر داؤد صليوا، مجلة "الغرائب" وهي مجلة أدبية انتقادية، ويصدر رزوق عيسى خردلة العلوم، وهي أول مجلة علمية في العراق، بينما يشترك داؤد صليوة ويوسف غنيمة في إصدار صحيفة "صدى بابل" عام 1909م وهي من أوائل الصحف، وكانت تعنى بالجوانب الأدبية والثقافية ونشر النتاج الحديث، وفي عام 1920م أصدر رزوق غنام، جريدته "العراق"، وبعد ثلاثة أعوام، رفائيل بطي وعبد الجليل أوفى يصدران جريدتهما "الحرية"، وربما تكون أول مجلة نسوية في العراق هي مجلة "ليلى" التي أصدرتها عام 1927م بولينا حسّون، ولا ننسى الصحفية البارزة مريم نرمة التي عملت في الصحافة أكثر من ربع قرن حتى وفاتها في خمسينات القرن العشرين.
    إن جذور المسرح العراقي تمتد إلى المدارس المسيحية التي أسسها الآباء الدومنيكان في الموصل منذ منتصف القرن التاسع عشر، ومن كُتّاب المسرح نذكر سليم حسون وحنا رسام وجرجيس قندلا، ويعتبر نعوم فتح الله سحّار صاحب أول نص مسرحي يطبع في العراق "لطيف وخوشابا" عام 1893م. وفي النصف الأول من القرن العشرين، يذكر المطران سليمان الصائغ كقلم بارز في ميدان التأليف التاريخي والروائي والمسرحي ويعدّ رائدًا في كتابة الرواية التاريخية والمسرحيات التاريخية.
    ويعتبر هرمز رسّام (ت1910م) أول عالم آثار عراقي، وقد عمل منذ أربعينات القرن التاسع عشر مع الآثاري الإنكليزي هنري لايارد، وأصدر أربعة كتب باللغة الإنكليزية في حقل الآثار في بريطانيا والولايات المتحدة، صدر أولها عام 1879م في لندن بعنوان "الاكتشافات الأثرية في بلاد آشور". وأما في مجال الرحلات فيكفي ذكر أن أول عراقي وشرقي ربما وصل لأمريكا هو الخوري إلياس بن قس حنا الموصلي وذلك في النصف الثاني من القرن السابع عشر ودون رحلته بدقة إلى أوربا ومن ثم أمريكا التي بدأت عام 1668 وانتهت عام 1683م والتي عثر عليها الأب أنطون ربّاط اليسوعي وحققها ونشرها في مجلة المشرق البيروتية في مجلد عام 1905م وبسبعة أعداد متتالية ربطها بعنوان "رحلة أول سائح شرقي إلى أميركا"، ثم نشر المحقق المخطوطة في كتاب مستقل في 91 صفحة عام 1906م في المطبعة اليسوعية في بيروت.
    أما الحديث عن دور يهود العراق وما لعبوه في الحداثة العراقية بمجالاتها المختلفة فهو من السعة بحيث لا يكفيه كتاب مستقل لو أردنا أن نتتبَّع كل شاردة وواردة، فهؤلاء القوم خسرهم العراق لما كانوا يتمتعون به من إمكانات ومميزات، قد لا أبالغ إن قلت هي أكبر من حجمهم السكاني خصوصًا إذا ما قيس بفئات عراقية أخرى.
    ومن الحديث عن التركمان والمسيحيين الناطقين بالعربية والسريانية واليهود إلى الفرس الذين أدخلوا للغة العربية واللهجة العراقية مئات المفردات الفارسية، غير غافلين في الوقت نفسه أن عشرة آلاف كلمة عربية أثرت كلام الناطقين بالفارسية، واختصارًا أكتفي بتذكير صراع الأصولية والشيخية في القرن التاسع عشر ومن ثم ظهور البابية فالبهائية والأعجوبة قرة العين وهذا دليل على لعب هذه الفئة العراقية (وإن اختلطت بعناصر عربية وتركية) دورًا رياديًّا وحيويًّا، كما دور بقية الطيف العراقي والذي بدون الجميع لا يمكن للنزاهة والأخلاقية أن تكون محايدة ومنصفة. دور العراقيين قاطبة لا يمكن إغفاله، وعليه فالعراق ليس للعرب والأكراد بل للعراقيين قاطبة.
    ولابدّ من التأكيد على مساهمة الأكراد بالحضارة العربية الإسلامية عمومًا وبالثقافة العراقية خصوصاً، وما قدموه من أسماء لعبت دورها الثقافي في النهضة العراقية، ودورهم الوطني الرائع في تثبيت الحق التاريخي والواقعي لعائدية ولاية الموصل للعراق، والإشارة لما تعرض له الأكراد الذين خذلتهم وظلمتهم الجغرافيا وليس التاريخ على حد تعبير المؤرخين القديرين كمال مظهر وسيّار الجميل، فهم ضحايا لمحب ساذج وغبي أساء لهم بحبه المفرط مثلما أساء لغيرهم من الفئات التي تشاطرهم العيش في نفس المنطقة والبلدان، لأنه حين تحب فئة على حساب الفئات الأخرى تسيء لكل الفئات معاً، وضحية كاره تافه أساء لهم، أي هم ضحية لمحب ساذج وغبي وكاره تافه، أو هم هلكوا بين محب مبالغ حد الكفر بالآخرين وباغض نزع عنه إنسانيته. ويبقى الأكراد بين هذا وذاك فئة عراقية جميلة لها خصوصيتها المميزة مثلما لها دورها الثقافي في العراق، نكرانها إساءة كبيرة وعميقة للعراق أولاً ولها ثانياً، وتمجيدها على حساب الطيف الذي يشكل العراق عمومًا وشماله خصوصاً، إساءة لها أولاً وللعراق وبقية طيفه ثانياً.
    بعد هذه السياحة السريعة في تاريخ العراق ودور تنوعه الجميل، ألا يحق لي القول إن أصعب أنواع القراءة هي قراءة تاريخ العراق، والمعضلة ليست في التاريخ العراقي، الذي أشاع الكسالى أنه تاريخ مُعقد ومُزور وإشكالي وإلخ المفردات، بل في هؤلاء الكسالى، وفي مثقفي الإشاعة، مما ثَبّتَ أكاذيب وإشاعات سرعان ما تهزمها القراءة الواعية والجادة، ولكن حين يبدأ نشر المعلومة الصحيحة، يبدأ مثقفو الإشاعة بإلصاق شتى التهم بالقارئ الجاد، لأنه يرفض أن يكون مثقفًا جمعيًا ويصر على أن يكون مثقفًا فرديًّا، لإيمانه أن الثقافة الجمعية اتباعية بينما الفردية إبداعية خلاقة، نافرة لا تُروضها عقيدة أو منظومة ما.
    مشكلة المثقف العراقي أنه أخلى السبيل للسياسي الجاهل أن يصادر تاريخ البلد، من خلال التلاعب به والتقاط جمل وحوادث مقطوعة من سياقها ليبرهن على خرابه.

      الوقت/التاريخ الآن هو الأحد سبتمبر 29, 2024 12:33 am