قصيدة حرة.. لا قصيدة نثر
57 – دعوتك المثيرة لكتابة القصيدة – القصيدة والتفريق بينها وبين الشعر تعيد إلى فحوى المضمون الذي احتواه بيان (الجنس الرابع) الذي أصدره عدد من الشعراء العراقيين عام 2009 إذ إن واضعي البيان وصفوا قصيدة النثر بالجنس الإبداعي المستقل عن باقي الأجناس الأخرى الثلاثة: الشعر والسرد والدراما، بحيث شكلت قصيدة النثر (الجنس الرابع) كيف تجد هذا البيان والتوصيف الاستقلالي لقصيدة النثر؟ وهل ثمة مقتربات أو تقاطعات بين هذا البيان ودعوتك المار ذكرها؟
* قرأت البيان ولا أتفق مع ما طرح مع احترام تام للموقعين على البيان، فقصيدة النثر العربية والتي أفضل أن أدعوها القصيدة الحرة، هي ليست جنسًا رابعًا حين نؤمن أن الشعر ليس كلامًا موزوناً، وإذا كان هناك مَن يرى أن إطلاق قصيدة النثر على القصيدة الحرة، هو ما خلق بلبلة في تناقض المصطلح على الأذن العربية التي تربت على مدى عشرات الأجيال على أن النثر نقيض الشعر، فراح يُنظّر لفضّ الاشتباك بين المصطلحين، حيث يرى أن إشاعة مصطلح القصيدة الحرة سوف يعيد الأمور إلى نصابها الصحيح ولن تكون هناك حاجة لطرد القصيدة الحرة من دائرة الشعر، فإن هناك رأيًا يتبلور فى سؤال: "ما المانع من أن تكون القصيدة الحرة هي قصيدة النثر العربية الخاصة بالثقافة العربية"، وإن كنتُ أميل إلى إطلاق تسمية القصيدة الحرة كمصطلح أكثر دقة. القصيدة التي تحدثت عنها هي الدليل على أن فلانًا من الشعراء شاعرٌ كبيرٌ أم لا، فكل ما يكتبه الشعراء هو شعر ولكن نادرًا ما يتمكن شاعرٌ من كتابة قصيدة، والقول الذي يرى أن أعظم الشعراء مَن لديه عشر قصائد هو قول صائب، فليس كل نص هو قصيدة، والشاعر قد يقضي عمره دون كتابة قصيدة، فالمتنبي لم يكن شاعر قصيدة بالمعنى الدقيق لهذا المصطلح، على الأقل في معظم ما كتبه، وهيمنة المتنبي هي هيمنة لغوية فخمة تطرب لها الأذن العربية نتيجة لثقافة الإشاعة التي حولت الناطقين بالعربية من سكان حواضر ومدن ونتاج تزاوج أعراق وأجناس وحضارات إلى بدو اكتسبوا شموخ وإباء البدوي التي تصلح له ولصحرائه ولكن لا تصلح للمدنية وتعقيداتها، مما تسبب في إعطاب نمو المجتمع، وأنا أتحدث عن سبب واحد من أسباب كثيرة تسببت في هذا العطب. وأخيرا، يبقى الحكم الحقيقي للمستقبل، أي بعد عدة أجيال على وفاة الشاعر.
58 – في ديوانك (أنا ثانية) لم أجد إشارة للمكان أو لزمان كتابة القصيدة في هوامش القصائد وهذا ما يدفع للقول إن القصائد مفتوحة للعمومية وأخشى أن أسميها بالنصوص اللاتاريخية ومن غير الممكن إسقاطها على مرحلة بعينها وأن إشاراتها ووقائعها لم تجد الحاضنة الزمنية والتأطير المكاني اللازمين لتوصيفها بالشاهد التاريخي الذي يوصل للحقب اللاحقة مستمسكات ما جرى.. هل جاء هذا التجهيل أو التعويم المكاني والزماني بشكل مقصود؟ أم أنك لا تعي أن وجود الإشارات الزمنية والمكانية هي من موجهات القراءة الخارجية؟
* كان من المفروض أن أضع إشارة توضح الفترة الزمنية التي كتبت فيها هذه القصائد والأمكنة كما فعلت في ديواني "خريف المآذن" وهو تقصير مني، لأني أومن أن هذه الطريقة فعلا تساعد على مراقبة تطور مراحل الشاعر، ولكني لست أرى ضرورة قصوى في تدوين تاريخ ومكان كتابة كل قصيدة وبشكل مستمر، رغم أن عدم التدوين يوقع أحيانًا في مأزق. تنتفي الحاجة للإشارات الزمنية والمكانية حين ننشر نصوصنا أولاً بأول، ومن ثم ما إن تجهز مجموعة حتى تجد طريقها للنشر بشكل انسيابي، وهذا يساعد موجهات القراءة الخارجية، ولكن في وضع يتكاسل الشاعر في نشر نصه لفترة تصل إلى أشهر طويلة أو حتى الى عدة سنوات كما حصل معي أكثر من مرة، أو صعوبة إيجاد ناشر لنشر المجموعة، فهنا يُفضّل أن يتم تدوين تاريخ ومكان القصيدة، لتسهيل الأمر على النقاد والقراء على السواء لمتابعة تطور الشاعر ومراحله، وثانيًا لحفظ حقه من عبث العابثين وأوهام المدعين.
59 – وجدت نازك الملائكة في عبارة برنارد شو التي تقول (اللاقاعدة هي القاعدة الذهبية) وجدتها خير متكأ لانطلاق ثورتها الشعرية ضد سكون الشعر العربي لأكثر من ألف عام ففجرت مرحلة جديدة للشعر العربي. هنا بوِّدي أن أسالك إن كان ثمة قواعد محددة وضعتها أمام عينيك مثالاً وهاديًا في رحلة العمر والشعر بوصفها الظهير الساند لك فكريًّا وأدبيًّا؟ أم أنك انجذبت لعبارة برنارد شو أسوة بالملائكة؟
* هناك قواعد ومحددات مختلفة، منها الإصرار والتحدِّي مع النفس والإيمان أن تجاوز الذات هو الطريق الأمثل لتجاوز السائد والمألوف، وأن طريق الشعر ليس نزهة أو مرحلة معينة بل هو كالشعاع له بداية وليس له نهاية، بحيث إن الشعر - وليس شيئًا آخر - هو ما يستحق أن نكرّس له حياتنا. اللاقاعدة هي القاعدة الذهبية تتفق مع ما آمنتُ به من أن لا حداثة ولا إبداع حقيقي إن لم نؤمن أن القاعدة هي ثقافة السائد.. هل أقول القطيع؟، ثقافة الإشاعة، الطرب لسماع الجمل المستهلكة تلك التي أدمنتها الأذن، الوقوف في منتصف الطريق بينما اللاقاعدة المضي قدمًا دون تلفّت، رفض التلفيقية، وهو أن أكون حداثيًّا بالكتابة الشعرية ولكن تقليديًّا حد النخاع في فهمي لبقية الأمور الثقافية (بمفهوم الثقافة الواسع)، فالإيمان بالحداثة يعني إيمانًا بكل المناحي الثقافية بل والحياتية.
لا أكتب وفق محددات وقواعد فرضها فلان وعلان، قديمًا أو حديثًا وإنما أتبع منهج أستاذي وشيخي باسم فرات وأتمرد عليه أحيانًا حين أراه راح يتقولب.
تخلصنا من الدكتاتورية الشعرية
60 – هناك سؤال تأخرت كثيرًا في طرحه ضمن هذه الحوارية المتسلسلة وأعني به اختيارك لقصيدة النثر كمنهج رئيس في التعبير الشعري متنكرًا للقصيدة العربية الأم؟ (أعني القصيدة العمودية) أرجو أولاً أن تصحح المعلومة هنا إن كنت كتبت قصائد عمودية في استهلال التجربة وثانيًا ألم تؤثر فيك العواصف الاعتراضية التي أطلقها شعراء ونقاد ضد هذه القصيدة ومتبنيها مثلاً قول نازك الملائكة (إن قصيدة النثر مجرد ركام فارغ لا معنى له) وقول نزار قباني (إن قصيدة النثر خسرت الرهان مع الأذن العربية) كما أن للعقاد مواقف صارمة وناكرة أن تكون هذه القصيدة ضمن الشعر وكان يحيل النصوص التفعيلية إلى أنواع السرد النثري، كما أن هناك المئات من هذه المقولات والمواقف ترفض الاعتراف بانتساب هذه القصيدة إلى الشعر.. كيف إذن اعتنقت قصيدة النثر مذهبًا شعريًّا وحيداً؟ ولم كانت خيارك رغم حجم الاعتراضات والإنكار الذي يقرب من التندر والتسقيط؟ وما تقوله عنها الآن بعد نصف قرن على ظهورها؟
* كانت بدايتي منفتحة على الحداثة بقدر ما هي تراثية، أقرأ كتب التراث وأتابع مجلات الأقلام والطليعة الأدبية وسواهما، معظم ما صدر من مجاميع شعرية في الثمانينات اقتنيتها، وكتابتي للعمود كانت موازية للتفعيلة، وأعتقد أن تعلم الوزن وكتابة العمود مهمة للشاعر في بدايته، وقد انتبه الناقد الدكتور صالح هويدي لبقايا مؤثرات التراث في نصوصي.
الميل للحداثة هو ميل فطري أحسه في أعماقي، وآراء الكبيرة نازك الملائكة وسواها لا تعني أن تتوقف عجلة الحداثة، واستسهال المئات لكتابة النص الحديث، القصيدة الحرة وقصيدة النثر وهم جهلة بأبسط قواعد الكتابة أو بالتراث، لا يعني أنها مجرد ركام فارغ لا معنى له، فحضورها لا يستطيع أن ينكره أحد، ومنجزها واضح، بل بفضلها تخلصنا من الدكتاتورية الشعرية، فلم يعد هناك شاعر هو الأهم والمهيمن على جيله، انتهت أسطورة أو قل أكذوبة الشاعر النجم، مثلما تخلصنا من الأدلجة التي سيطرت على العمود والتفعيلة، وهو مما كان أحد أسباب تحول الشعر من فن جماهيري إلى نخبوي بامتياز.
61 – لم أع كُنْه القصد في جواب سابق حول التراث حين تطرقت إلى المتنبي (إن المتنبي لم يكن شاغل الناس ومسهرهم لدرجة الاختصام بينما هو نائم ملء جفونه عن شواردها وإنما مات وهو شاعر عادي الشهرة لدرجة لم توصله للبلاط البغدادي...) أترى أن جوابك هذا كان مثالاً أم استطرادًا عابراً؟ وهل تخلط الجد بالهزل أم هو كشف لحقيقة تعد خافية على مؤرخي وقراء الشعر العربي؟ ثم هل بالإمكان توضيح صلتك بالمتنبي وهل أفدت منه؟
* لا أؤمن بوجود شخصية تاريخية - مهما كانت - إن لم تزدهر الخرافات والأساطير والمعجزات على جوانبها كما ينمو الفطر والأعشاب حول شجرة سامقة، وحول شجيرة صغيرة على حد سواء، ما ذكرته كان مثالاً واستطرادًا في الوقت ذاته، فقد علمتني القراءة الجادة، وتفحص مرجعيات الأدباء، أن الغالبية العظمى من الهالة التي تحيط بشخص ما تكونت بعد وفاته، ولو كان المتنبي مالئ الدنيا وشاغل الناس في حياته، لأتخمت كتب الأدب والمختارات التي أُنجزت في حياته، عن عبقريته وتفرده وشاعريته الفذة، وليس في كلامي ما يقلل من أهمية المتنبي، وإن كنت أرفض أفعال التفضيل والتي أراها إلغاء للآخرين، فالمتنبي أحد أهم شعراء العربية، ولكنه حتمًا ليس أفضلهم، وتكاد تكون تجربتَيْ أبي نؤاس وأبي العلاء المعري متفوقتين على تجربة المتنبي، والثلاثة من كبار مثقفي عصرهم، وإذا كان أبو نؤاس قد لحقه الظلم من خلال تسليط الضوء على سلوكه المشوب بأسطورية واضحة، مما جعل غشاوة على منجزه وأهميته في الشعرية العربية، فهو شاعر مديني وصانع حداثة تليق بالنهوض الذي سرى في مفاصل العقل المكتوب بالعربية، فإن أبا العلاء المعري ظلمه التركيز على المتنبي والذي شارك فيه هو، وكلاهما ظُلِمَ نتيجة عدم التفريق بين الشعر والقصيدة، فهما كُتّاب قصيدة بامتياز، بينما المتنبي شاعر شعر كبير، تعلو أهميته في العقل البدوي وتهبط في العقل المديني، والعكس تمامًا ينطبق على أبي نؤاس والمعريّ. وربّ سائل يسأل: وكيف والمعريّ ألّفَ كتابًا عن المتنبي أسماه معجز أحمد، وهذا صحيح لأن ما خطه المتنبي هو معجز باللغة وما كتبه أبو نؤاس والمعريّ هو معجز بالشعر والحياة، لأنهما كتبا قصائد وليس شعراً، ولا أعني أن كل ما كتباه كان قصائد بل عنيت أن نسبة القصائد في شعرهما أكثر منها في معجز أحمد. المتنبي كتب معجزًا لا يُسْتَغنى عنه لمن يرى الشعر فخامة لغة وتعابير هي أقرب للنص المقدس وتداعب مخيالاً قوميًّا، شاءت إرادة مدوّني لغتنا الادعاء أننا صحراويون رغم أنوفنا التي تشهد بتنوع تضاريس دمائنا وبنيتنا الجسدية والفكرية، وأبو نؤاس كتب شعر حياة، أما المعريّ فقد كتب شعرًا يتأمل الحياة وبحواسه كلها بما في ذلك عماه الذي تفوق في رؤيته ونظرته للحياة على كثير من شعراء هذه اللغة.
سؤال طالما أرقني ولم أجد إجابة شافية عند من تناول المتنبي، ألا وهو: كيف لشاعر قال في إمام الشيعة الأول:
وتركتُ مدحي للوصيّ تعمداً
إذ كان نـورًا مستطيـلاً شامـلا
وإذا استطال الشيء قام بنفسِهِ
فصفات ضوء الشمس تذهب باطلا
وعاش في كنف الشيعي سيف الدولة الحمداني وأمطره مدحاً، وأندى صفحات تاريخ الأمير البويهي في إيران، ولكنه لم يقترب من البويهي الآمر والناهي في بغداد والجميع ينتمون لذات المذهب، أي أنه مدح أمراء درجة ثانية ولم يمدح الأمير الأول والخليفة في بغداد (هل أقول لم يتمكن)؟
تعلمت من المتنبي الكثير حتماً، وأذهلتني ثقافته التي نادرًا ما يضاهيه فيها شاعر، ولن أغفل ثقافَتَي الحسن بن هانئ وراهب المعرة، فهؤلاء الثلاثة لهم فضل كبير عليّ. فقد قادتني غوايته لدرجة الذهول أمام شعره، ولكن هذه الغواية بدأت تتراجع عن دورها القيادي، أمام انهماكي بالحداثة وتحديد فهمي لمصطلحي الشعر والقصيدة.
62- أعجبني تعبير الراحل سركون بولص في حديثه معك حين فرق بين "شعر حياة وليس شعر لغة" وكان يعني أن الشعر الفرنسي شعر لغة بينما الأنغلوسكسوني شعر حياة..هذا التعبير الدقيق يغريني لأن أسالك إن كنت في شعرك قد توصلت إلى هذا التفريق وفي أي مرحلة؟ ثم من الذي جذبك أولاً: اللغة أم الحياة؟ وهل انقدت في بواكيرك إلى فيوضات اللغة أم أن الحياة قد أغوتك لشعابها في مرحلة النضج؟
* توصلت إلى هذا التفريق رويدًا رويدًا، أي بدأت أعي أهميته كلما ازددت تجربة، وأعترف أني وقعت ضحية إغواءات اللغة وفيضها، وهذا تلمسه بشكل وبآخر في خريف المآذن، ولكني بدأت أتدارك نصوصي من الوقوع في شرك اللغة، أي جعل اللغة اللاعب الأساسي في النص، ورحتُ أغرف من أتون الحياة ووهجها لتشع نصوصي بحرارة المعاش واليومي والإنساني، وهذا يتجلى بنصوص التجربة الآسيوية. وقبل هذا وذاك أغرف من معين الإنسانية ومنجزها وتجاربي الشخصية والحياتية وقراءاتي، وهو ما يجعلني ابنًا بارًّا للشعر العربي بمفهومه الذي أتبناه، وأعني به مفهوم العروبة التي هي نتاج ثقافي لتزاوج الأعراق والشعوب والأمم وثقافاتها معًا لتصب في دورق يسمى اللغة العربية، لا فضل فيها لفئة على بقية الفئات، بل هي كالمفهوم البوذي، الكل خالق ومخلوق في آن واحد، كذلك لا أنكر استفادتي من تجارب الشعر العالمية.
أنا شاعر حياة وتجربة. وأما القراءة فهي النور الذي تتعانق تحته التجربة والتلقائية لتشكيل نصي الذي أسعى جاهدًا أن يكون قصيدة.
التأويل من حق القارئ
63 – في مفتتح المختارات الشعرية (والتي يضمها هذا الكتاب) توقفت مليًّا عند القصيدة الأولى ((عن الغريبِ الذي صارَ واحدًا منهم)) وحدستها مشهدًا مصورًا بمجسات لغوية مكتنزة فكأنها لوحة مختزلة من سرد طويل، لكنني فوجئت بضربة الختام والتي جاءت وفق تقنية الديالوج وبقليل من التأويل أحسبها فورًا على تقنية المونولوج: أي محض تداع داخلي من (الغريب) الذي يلبسه رؤى الرائين الخارجيين فهم لم ينطقوا ديالوج (حوار خارجي) ولكنه هو من أسبغ عليهم مونولوجه (الحوار الداخلي) كيف تجد هذه الرؤية وإن كانت مصيبة أكان (الغريب) يتطلع لأن يصبح واحدًا منهم؟ وهل أصبح فعلاً؟!.
* لا أجيد الحديث عن نصوصي، فتلك موهبة لا أقربها ولا تقربني، وأرى أن على الشاعر أن يلقي كلامه ولا يلتفت، وأما التأويل فهو من حق القارئ.
وهذا لا يمنع من الحديث عن الخلفية التي أوجدت هذه النصوص. هذا النص هو نتاج استرخاء وغبطة في مديات العزلة والتفاعل في ذات الوقت مع المحيط الجديد، انفتاح على الثقافة الجديدة، توَغّل الحياة البوذية بزهدها في اللاوَعْي. شعوري بالانتماء للجميع، وهو شعور يتزايد كلما انتقلت من بلد إلى آخر، وتآلفت مع ثقافة جديدة، ذكرياتي النابضة بالحياة في المجتمع الجديد، متعة التسوق في سوق شعبي لا تعرف لغة الباعة ويجهلون لغتك، ومع ذلك تجد فيهم حميمية نادرا ما تجدها في البلدان الصناعية وبلدان اللجوء. سوف أضرب مثلاً حدث معي بعد يوم أو يومين من انتهاء رأس السنة اللاوية (في شهر نيسان)، حيث ذهبت إلى سوق بحثًا عن بعض أنواع الخضروات، وإذا بأربع سيدات جالسات في السوق وهن ممن يملكن محلاًّ صغيرًا بل يمكن القول عارضة للفواكه أو الخضروات، أو "بسطة" كما نسميها باللهجة العراقية، نادينني وأجبرنني بكرمهن ودماثة أخلاقهن على مجالستهن ومشاركتهن الشراب، وكأننا أصدقاء عمر، وقد ترجم لنا شخص باكستاني من مواليد لاوس، يجيد الإنكليزية، إضافة إلى اللغة اللاوية، وقضيت أكثر من ساعة معهن ونحن نمزح ونرفل بالضحك والسعادة، هذه اللقطة من الحياة لا يمكن أن تجدها في بلدان اللجوء. هذه اللقطة هي واحدة من لقطات كثيرة ساهمت في تكوين خلفية النصوص الآسيوية. وهذا لا ينفي أن تأويلك يستحق الاهتمام والاحترام، فهو تأويل لقارئ محترف، وهذه القراءة أو التأويل تسعدني بكل تأكيد.
"الغريب الذي صار واحدًا منهم" ربما هو فهم لثقافة البلد واحترامها، ابتهاج بالمنفى لكسر طوق الحنين القاسي، تنامي الشعور بالانتماء لكل الثقافات، وربما أيضًا هو البحث عن "وطن جديد" بعدما لم يعد العراق فردوسًا مفقودًا وإنما هو وطن بعيد مع خوف خفيّ أن يستمر بالنأي. خصوصًا وأن نصي "وطن جديد" قد كان آخر ما كتبت، وذلك في آيار 2009 بينما "عن الغريب الذي صار واحدًا منهم" كتبته في 27 شباط 2010، ولم أكتب بينهما أي نص.
64 – مع أنك من دعاة الحداثة ولا تفتر تؤكد على أهميتها في الشعر والفن عمومًا كونها همك الأول إلاّ أن المفارقة تأتي من أن مجتمعك الأول (العراق) يغرق في حالات تخلف متكالبة تبعده كثيرًا عن مرحلة الحداثة الحقيقية ربما بسنوات ضوئية، بمعنى أن الشعر يرتقي مرحلة الحداثة بينما الحياة في المجتمع القائم ترتع أو تنحدر في طبقات الرجعية والتخلف والجهل والخرافة.. ألا تشعر بمفارقة قدرية هنا وكيف يتأتى للشعر أن يكون متفوقًا وحداثيًّا في الوقت الذي تنهار فيه قيم الحياة ويسود فيه أعداء الإنسان؟ وهل للشعر مرحلة وتكوين وتنامٍ وربما ازدهار بشكل يتقاطع أو يتجاهل تهجدات الحياة وفواجع الإنسان، بمعنى هل حصل لديك ربط بين حداثة الشعر والمرحلة الراهنة؟
* ليس في الأمر أية مفارقة، لأن الشعر يستند على قاعدة من المنجز الشعري والثقافي عمومًا عمرها عشرات الأجيال، وأما المجتمع فقد حدثت فيه انقطاعات واضحة ومعروفة للمطلعين على تاريخ العراق، هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية أن الشعر يستوعب الحداثة بسرعة كبرى قياسًا للمجتمع، لأنه لا يحتاج إلى أنساق متكاملة ومراحل كما يحتاجها المجتمع، فعملية تحديث المجتمع لا تعني بناء عمارات عملاقة واستيراد أحدث المنتجات العالمية، وإنما هي آلية تفكير وفهم الأسباب الكامنة وراء هذه الصناعات والتقنيات التي نستخدمها، بحيث يتم القبول بالمنظومة كاملة التي أوجدت هذه الصناعات والتقنيات، وربّ قائل يتبجح باليابان كمثال على البلد الذي حافظ على ثقافته ويعد من أكثر البلدان الصناعية تطوراً، متجاهلاً أن اليابان قبل المنظومة كاملة، ورمى قشور ثقافته بعيداً، بل غَيّر الكثير من المفاهيم التي كانت راسخة في المجتمع الياباني، وساعدت المجتمع الياباني معتقداته التي لا تجد غضاضة في اعتناق أكثر من دين في آن واحد، لقد نجح اليابانيون الذين تزامنت نهضتهم مع النهضة العربية وقد نجحوا فيما فشل فيه العرب، في المزج بين الشرق والغرب، بين الثقافة اليابانية والغربية، بين الأنساق المعرفية التي توارثوها وبين الأنساق المعرفية التي استوردوها من الغرب، ضحوا بقشور ثقافتهم مثلما ضحوا بالقبول - وإن على مضض - بالكثير من المفاهيم الغربية التي تختلف مع مفاهيمهم، بل واحدة من أسباب المعجزة اليابانية هي في هذا التزاوج بين ثقافتين وفي تحوير النسق المعرفي الغربي لكي يمتلك شرطه الياباني، وهو عين ما فعله العرب ولكن ليس في العصر الحديث بل في العصر العباسي الأول خصوصاً. لو قُدرَ للنهضة العربية أن تنجح لكنا كاليابان اليوم، بدل أن يتدخل رجل الدين في السياسة وفي كل تفاصيل حياتنا بما في ذلك خصوصياتنا، يشاركنا الحياة ويصبح جزءًا منها وليس على هامشها، يحضر الحفلات وينتقد ما شاء له أن ينتقد ولكن كرأي شخصي لا يحمل صفة إلهية بل صفة مواطن يُعبر عن رأيه، يستمع له مَن يستمع ويستنكره مَن يستنكر، ولم نسمع الكلام المبالغ فيه عن الغزو الثقافي بينما نحن بين نارين، نار الفقه الظلامي الذي يزرع كراهية الحياة والبهجة والسعادة والفرح والاختلاف والتنوع الديني والمذهبي واللغوي والثقافي فينا، ونار ردة الفعل الساذجة التي ترى أن استخدام المفردات الأجنبية وزَبَدَ الغرب هو المَدَنيّة بعينها، وهؤلاء يسقطون في أول اختبار حين يرى الواحد منهم شقيقته مع حبيبها، فيقتلها غسلاً للعار على الظن.
الحداثة الأدبية العراقية خصوصًا والعربية عمومًا قطعت أشواطًا كبيرة مُخلِّفةً وراءها حداثة المجتمع، التي كانت تحبو يومًا ما، وإذا بها تعود القهقرى مستمدة من الماضي أسوأ ما أنتج، ومستنكرة أو متاجهلة الإشعاعات التي يرفل بها ماضينا.
هذه أوهام القوميين
65 – وجدت لك رأيًا جريئًا في كتاب (باسم فرات في المرايا) توضح فيه صفة القومية بالقول: جميع القوميين ينهلون من مستنقع شوفيني عنصري أحادي عدائي واحد، عربًا كانوا أم غير عرب... أتراك بهذه التوصيفات القارصة تقصد فكرة القومية بصورة عامة أم أنك تشير صراحة إلى سلوك قوميين بعينهم؟ وما هو مآل مشروع الدول القومية التي ظهر منها أكثر من نسخة عربية في النصف الثاني من القرن العشرين؟ وهل لنا أن نتوقع ظهور مشاريع قومية ناجحة راهنًا وقادماً؟
* عنيتُ فكرة القومية في العراق بالذات، ورأيي يشمل جميع القوميين عربًا وغير عرب، لأنهم بنوا أوهامهم على إلغاء وإقصاء وتهميش الآخرين، فلا وجود في أدبياتهم للعيش المشترك والاعتراف بتنوع وتزاوج سكان المنطقة وثقافتها، وإن وجد الاعتراف فهو مبنيّ على شروط من الإذعان لأوهام القوميين الأكثر عددًا وسيطرة. القوميون العرب أرادوا العراق البقرة الحلوب لأوهامهم بالوحدة العربية والوطن العربي الكبير وأكذوبة الشعب العربي الواحد الذي يعود بجذوره إلى عدنان وقحطان، وبقية القوميين لا يختلفون عن العروبيين، فلهم أيضًا إمبراطورياتهم التي حتمًا تمتد من بحر إلى بحر، وتطفو على بحيرات من النفط والخامات والثروات المعدنية والأنهار والينابيع ومساحات زراعية هائلة، فوجود بضعة أشخاص من القومية ذاتها يعيشون في منطقة مليئة بالخيرات. إذًا هذه جزء من الإمبراطورية – الوهم، وحين تكون مليئة بالنفط، فتحريف حقائق التاريخ والجغرافيا لا يوجد أسهل منها مازال هناك جهل يستشري بين النخب الثقافية عموماً، ولا يهم أن بعض هذه الفئات (القوميات) قد شاركوا بإبادة سكان الأرض الأقدم والأكثر منجزًا حضاريًّا ومدنيًّا، ولا يهم أيضًا أن يكون المحتل البريطاني قد جلب آلافًا مؤلفة منهم للعمل في حقول النفط، لما يتمتع به الرعويون من قدرات عضلية تجعلهم الأنسب والأصلح لسدّ الحاجات للعمالة غير الفنية، التي كثر الطلب عليها نتيجة اكتشاف النفط والمواقع الأثرية وتنامي الصناعات ومؤسسات الدولة، وخصوصًا القوات المسلحة التي يحتاجها هذا النمو للحفاظ على السلم الأهلي واستتباب الأمن لتتمكن الدولة وبالتعاون مع الاحتلال البريطاني في جني ثمرات هذا النمو المطرد الذي يعود بفوائده أولاً على خزائن لندن.
المنطقة هي إقليم – أمة، منذ قرون سحيقة وهو متنوع اللغة والديـن، مما منحـه دورًا ثقافيًّا كبيراً، وهذا التعايش الفسيفسائي سوف يكون ضحية لمشاريع كهذه، قومية كانت أم دينية – مذهبية، ومع تقدم المواصلات والاتصالات وتحول العالم إلى قرية، فإن ظهور مشاريع كهذه هو قتل للتعايش والتنوع، أي قتل للثراء، وخلق قنابل موقوتة جديدة، ما إن تجد فرصتها حتى تنفجر ناشرة الخراب فوق الخراب.
66 – العراق هو الوطن أو المنتج الأول للدكتاتوريات: صناعة وتأليهاً، ولكنني في حواري مع الأديب علي حسين عبيد وجدته يقول (الدكتاتوريات لم تكن لتبقى لو توفر أدباء أفذاذ...) هنا أود أن أعرف إن كنت انتبهت إلى هذه العلاقة، وجود وتنامي ظاهرة الدكتاتوريات في العراق مع ندرة الأدباء الأفذاذ حسب تعبير علي حسين عبيد الذي قال حرفيًّا (حتى عباقرتنا من الأدباء والمثقفين عموماً، عندما يناهضون السياسي المتخلف فإنهم سرعان ما يرمون بأنفسهم في أحضان الطرف المعارض حتى لو كان دكتاتورًا بدوره!!).. وهل تتفق حقًّا على أن نشوء وتسلط الدكتاتوريات في العراق ومنذ أقدم الحقب متأتِّ من حالة كمون أو ضعف وربما تواطؤ الأدباء الكبار أو الرواد أو (الأفذاذ) في هذا البلد؟
* نعم أتفق تمامًا مع الأديب علي حسين عبيد، وأضيف أن الجهل بتاريخ العراق ساهم مساهمة بالغة في هذا الأمر، ولإعطاء مثال حيّ مازلنا نلمسه، هو العداء المفرط بين اليسار العراقي الذي وقف ضد الحركة القومية العربية والوحدة العربية بكل قوة ولكنه استمات وهو يُطَبّل لحركة قومية لا تقل عنفًا وعنصرية وشوفينية عن الأولى، بل إن للقومية العربية تاريخًا ثقافيًّا عريقًا، ويكاد يكون المنجز الثقافي العراقي في أكثر من تسعين بالمئة منه كتب بالعربية (أعني تاريخ العراق لغاية نهاية القرن التاسع عشر بل والحرب العالمية الأولى) وفي المقابل نجد القومي الآخر كبر أو صغر عدده أو منجزه الثقافي ومساهمته في تاريخ البلد الذي يعدّ من أعرق البلدان في العالم، نجده ينهل من ذات الرؤية ويبني خطابه المستمد من بنية ثقافية ومنظومة معرفية واحدة، لا تقبل بالآخر كشريك فعّال بل تريده كشريك تابع مهمته تنحصر في إبداء رأيه الموالي والدفاع عن مصلحتها وخطابها الإقصائي والمفتت للوطن. القومي العروبي يقلب كل حقائق التاريخ وأدلته على وحدة التراب العراقي وعراقة إقليم العراق، رابطًا إياه بإمبراطورية كبيرة كَبُستانٍ للأغراب والإخوة، والقومي الآخر يفعل ذات الفعل ولكن من خلال إصراره على أن العراق وطن اصطنعه الإنكليز، ويجترح تاريخًا مزورًا مليئًا بالبطولات والأمجاد ويُضَخّم دوره في حضارة المنطقة المكتوبة بالعربية وسواها، مقزمًا دور الناطقين بالعربية خصوصاً، كردّ فعلٍ أهوج على سلوكيات الأنظمة وماعانته هذه الفئات التي لونتْ عراقنا بألوان زاهية، على يد القومية الكبرى وتعسف زعاماته خصوصًا، في العقود القليلة الماضية.
كم من أديب ادعى وقوفه مع الإنسان وانحيازه للمضطهدين ولكنه مشارك مزمن على مهرجانات السلطة ومؤتمراتها، وسبب هذه الانتهازية أو الازدواجية هو عدم وضوح المعايير بيننا، وأكرر ما دعوت له سابقاً، وهو اعتبار كل رئيس حزب على رئاسة حزبه 16 عامًا دكتاتوراً، ومن يتجاوز الربع قرن فهو حتمًا طاغية وبامتياز، ومعارضة كل حزب لا يتضمن نظامه الداخلي الإيمان بـ: وحدة التراب العراقي، وبتاريخه وتراثه، وتنوع لغاته وأديانه دليل ثراء للبلد، دولة المواطنة هي الحل الأسلم والأفضل لنا، منع الأحزاب ذات الصبغة القومية والدينية، رفض الأقاليم على أساس قومي أو ديني أو مذهبي، رفض كل ما يمت بِصِلة لهذه الأحزاب ولهذه الأقاليم. وسواها من الأمور التي يمكنها أن تشكل خارطة طريق للمثقف وللأديب كي لا يلهث خلف طغاة صغار بعد أن تباهى بمعارضته للطاغية الأكبر، ناسيًا أنهم جميعًا تلاميذه. الأديب العراقي (وكلامي عن نسبة لا بأس بها) أدمن الرضوخ للطغاة وتسرب إلى لا وعيه أخبار بلاطات الشرق وخصوصًا بغداد العباسية، المليئة بالأدباء وهم يحيطون بالخليفة أو الأمير، ويرمي لهم بالدنانير والدراهم، ومثلما لعب وعاظ السلاطين حسب تسمية العلامة علي الوردي، دورًا قبيحًا في التماس الأعذار وإيجاد تخريجات فقهية لعنف السلطان وعبثه بالمال العام، وجد أدباء اليوم ضالتهم في كتابة المقالات والدراسات والقصائد عن عبقرية القائد وفلسفته وإدارته السياسية الفذة. لا يهم أن يكون القائد الجديد في أي عمر، ولا يهم إن كان يملك شهادات وله ممارسات في السياسة والحياة العامة وأنه تدرج من أدنى رتبة إلى أعلى رتبه حسب الاستحقاق، أم أنه لا يملك شيئًا من هذا، فقط لأنه ابن زعيم الحزب فيجب أن يكون هو الحاكم الفعلي للحزب، فالقيادة وراثة وليست مَلَكَة تقويها وتشذبها الخبرة والدراسة والمتابعة والقراءة، حسب دعاة "الولد على سرّ أبيه". مأساتنا فعلاً تكمن في انتهازية أدبائنا.
بحثًا عن ينابيع الشعر الصافية
67 – اتصالاً بالسؤال السابق هل لي أن أعرف منك إن كان ثمة دور باق أو وظيفة حقيقية ملموسة للأدب في عصرنا الراهن المكتظ بفخاخ العولمة والاتصالات وعربدة العسكرتاريا وضياع الأوطان وهيمنة الدكتاتوريات؟ بمعنى آخر: هل ينتابك شعور من أن لك دورًا ما ينتظرك أو تسعى إليه في هذا العالم؟
* لا دور لي، فإن كان هناك من يرى في والدي بطلاً لتضحيته بحياته من أجل إنقاذ جارتنا من اعتداء آثم، فلستُ بطلاً، لأن البطولة لا توَرّث، مثلها مثل الزعامة والإمامة والعبقرية. وإن كان لي من دور فهو في أن أعصم نفسي من أن تدنس نفسي حسب قول الشاعر، وإن كان لي من ردّ على هذا الخراب، فهو التمسك بالجمال والجوهري والإصرار والمواصلة بحثًا عن ينابيع الشعر الصافية، ومحاسبة الذات على تقصيرها، التفرغ التام وتكريس حياتي للشعر، تنمية أحلامي وتشذيبها خشية التحول إلى أوهام، فكم من موهوم حسب أوهامه أحلامًا فدَمّرَ نفسه وجفف ينابيع موهبته.
68 – الكثير من المبدعين اشتكوا من هيمنة وقساوة الرقيب على أفكارهم وبوحهم ومخيلاتهم لأنه يتخذ أكثر من صورة منها الخارجية (وجود حقيقي ووظيفي في المؤسسات) أو حضور داخلي في الضمير والعقل، وتتضافر الصورتان لتكونا معا كتلة ضاغطة على التعبير ومحجمة للمتون، فهل يمكن القول إنك عانيت من الصورة المزدوجة للرقيب ولا سيما أنك عشت أولاً في بيئة محافظة تسورها الموانع والمقدسات من كل جانب؟ وهل أسهمت هجرتك المبكرة في كسر حاجز أو وجود الرقيب بشكليه؟ وهل تحس شخصيًّا أن في الغربة وجودًا ما أو شكلاً ما للرقيب والرقابة؟
* الرقابة لابد منها وأعني رقابة الكاتب لما يكتب، من أجل إنتاج ثقافي يستحق النشر ويضيف للقارئ المتعة والمعرفة، أما المثلث الحرام (الدين، الجنس، السياسة) فهذا ما لا يحق لأحد أن يتدخل فيه ويراقب الكاتب كيف وماذا يكتب، مازال الكاتب يرفض التنازل عن الشروط الفنية في كتابته. الهجرة المبكرة نسبيًّا منحتني حرية في الكتابة مع الاعتزاز بشروط الحرية. نما في اللاوْعي عندي رقيب إنسانيّ عالي الحساسية تجاه اللغة والعلاقات الثقافية بين الشعوب. أحاسب نفسي ليس على ما أكتب فقط، بل وما يكتب عني، فكل مقالة تتناول تجربتي الشعرية المتواضعة تجعلني أكون أكثر صرامة مع نفسي وكتاباتي. هذا على المستوى الشخصي أما على المستوى العام فهناك مَن استفاد من حجم الحرية التي تتمتع بها بلدان اللجوء وكتب بإبداع دون خشية من رقيب أو أحد، وهناك مَن لم يتخلص من الرقيب ربما نتيجة الهجرة المتأخرة، وفريق آخر ترجم الحرية بشكل ساذج وصار يكتب ليس فقط دون رقيب المثلث الحرام (الدين، الجنس، السياسة) بل دون رقيب الوازع الأخلاقي والإبداعي على حد سواء، فأصبح مَن تمتع بنشر كتبه في العراق، مناضلاً عانى الأمرين من النظام والرقيب على حد سواء، وراح يتحدث عن بطولات وهمية ويضرب على وتر لغوي أو ديني أو مذهبي وفي أحيان نادرة وطني – إنساني، كل ذلك ليكسب تعاطف الغربيين ويحصل على جوائزهم ومهرجاناتهم.
69 – لم نسمع أو نقرأ حتى اليوم عن قيام أحد الأدباء المغتربين بمبادرة (كبيرة أو صغيرة) لكسر حاجز العتمة والصمت القائم والفاصل بين أدباء الداخل (داخل القفص) وبين من نفذوا للخارج وأصبحوا بمنأى عن الأقفاص والأسوار، بحيث لم تظهر مبادرة لتخفيف العزلة وإسعاف المتطلبات والحاجات الثقافية أو توفير فرص لطباعة الكتب والمشاريع المتراكمة في الداخل، أو إشراك أدباء الداخل في دورات أو ملتقيات تقام يوميًّا في أصقاع العالم أو سوى ذلك من حراك ثقافي يدور هناك خارج الأسوار، في ظل حرمان دائم يقاسيه الداخليّون (أو المرابطون حسب تعبير الدكتور حسين سرمك) أين المشكلة في هذا الجانب ولماذا تنعدم مبادرات كهذه؟ ومع توالي العقود وازدياد قوافل الهجرة والاغتراب وكثرة المنظمات والهيئات التي تدعي أنها تعمل وتنشط لصالح الثقافة العراقية – بدأت الفجوة تتسع وآمال التواصل تنفد، وليس في المنظور والسماع إلاّ كلمات خجلى تنهمر من هناك وتربط بدواليب الانتظار هنا؟ أم يا ترى أن الموضوع بمجمله لا يخرج عن مسعى لخلاص فردي لا غير وإذ تحقق المسعى انتهى الكلام وفعله؟!
* أنت تعلم أنني خارج كل ما قلت أعلاه، فعزلتي حصنتني من سلبيات تَلَبّسَتْ كثيرين، ولا علم لي بكل نشاطاتهم إلا ما أقرأه في الإعلام هنا وهناك، ولكن لا بدّ من ذكر ما قام به الشاعر علي الشلاه مشكوراً، فقد نشر لعدد لا بأس به من المجاميع لشعراء عراقيين دون مقابل، وهذا عمل يستحق عليه الشكر. ليس كل مَن هاجر وجد مسعاه. نسبة كبيرة بل هم الغالبية العظمى لا حول ولا قوة لهم، أقول هذا من واقع تجربتي الشخصية، وهنا لست مدافعًا عن أحد، وإنما عن الحقيقة، وتوضيح صورة مرتبكة ومشوشة عن الأوضاع في بلدان اللجوء. ما يعانيه اللاجئ الجديد من صدمة ثقافية قد تستغرق بضع سنوات من عمره لكي يستفيق منها، خصوصًا أنّ بلدان اللجوء اكتظت باللاجئين نتيجة الأوضاع المزرية التي يعيشها العالم تحت سيطرة القطب الأوحد على مقاليد الأمور، فلم يعد المنفى جَنّة المأوى، بل هناك من اللاجئين من تطلب الأمر منهم سني عمرهم كله حتى ماتوا ولم يعيدوا ترتيب أوضاعهم، فبقوا معلقين بين أمل العودة وذكريات الوطن الذي كان جحيمًا بالأمس القريب أي حين كانوا فيه وأول تقديمهم لطلبات اللجوء، وإذا بالمنفى يُشّذب الذكريات حتى يغدو الوطن فردوسًا مفقودًا وحلمًا طوباويًّا.
نعم هناك من اشتغل لنفسه وصار زائر مهرجانات ومؤتمرات وربما نجم فضائيات، ولكن هؤلاء قلة قليلة، لا يمكن مقارنتها بالغالبية العظمى التي تعاني الحنين للوطن أو التأقلم مع المجتمع الجديد، خصوصًا لمن لديهم أطفال ويشعرون بشرخ في الهوية. لا يمكن نكران وجود الانتهازيين والمتملقين ولكن كحديث عام ربما يمكن القول حسبما ختمت به أنت السؤال: "إنه لا يخرج عن مسعى لخلاص فردي لا غير".
70 - سؤالي الأخير أضعه كالتالي: كيف تنظر إلى الغد؟ وما هو رهانك الأخير؟.
* بكلّ تفاؤل، ولكنه تفاؤل مشوب بحزن، نتيجة ما جرى ويجري في العراق وفي العالم ككل، حتى أن موضوعًا قد يعتبر آخرون التفكير فيه حاليًا تَرَفًا وأعني به التغير المناخي، والذي أراه كارثة محدقة بالأجيال القادمة نحن سببها.
أما رهاني الأخير فهو الشعر الذي هو خلاصي الفردي. وفيما يخص الحداثة فإنها سوف تنتصر لأنها منطق العصر، وسوف يذعن الجميع لمنطقها حتى مَن يعترض عليها الآن.