25- ذكر أحد نقادنا المغتربين (لعله محمد الجزائري) أن الأديب العراقي المغترب يفتقد (الجمرة) التي ينضج فوقها موهبته وتتقد فيها تجاربه حين يفد إلى عالم الاغتراب ليصبح في مواجهة محيط بارد لا ينمي ولا يساعد في بلورة مشاريعه.. كيف ترى هذا التحليل قياسًا إلى تجربتك الذاتية؟.
* كلامه ينطبق على الغالبية العظمى، بل هو قاعدة عامة للأسف، ولكنه يتناقض مع تجارب البعض، وربما تجربتي المتواضعة، وليس العيب في ما قاله، ولكن تجارب البعض وربما تجربتي تكاد أن تكون شذوذًا عن القاعدة، فمقابل مئات الأسماء التي سكتت أو هي أقرب للسكوت والصمت منها للإنجاز، هناك مئات أخرى كأن برودة المنافي وغزارة أمطارها وثلوجها أطفأت جمرة الإبداع لديهم، ولم يقاوم ويصِب نجاحًا ويحقق الاستمرارية إلا عشرات وأكاد أزعم أني أحدهم، من حيث الاستمرارية والنشر والتواصل- وليس من حيث جمرة الابداع واتقادها وتوهجها فهذا متروك لحكم الآخر-، ولكن ليس من حقي أن أقرر أنّ مشروعي على تواضعه قد تبلور وحقق شيئًا ذا بال، فأنا أعمل عليه وهو مشروع العمر أنضجه بالموهبة والتجربة والقراءات والتأمل ومحاسبة النفس والتخطيط والاعتناء، ومتى يعطي نتائج؟ لا أدري. وهل النتائج سوف تكون مثمرة وطيبة؟ أجهل ذلك.
26- أرى أن هناك محنة رئيسة هي بمثابة المحرض الأول لمساحة واسعة من تجاربك الشعرية والحياتية وأعني بذلك محنة الموات أو بصورة أدق (التقتيل البشري) ذاك الفعل المباشر للإقصاء والذي أناب نفسه محل الرب للقيام بأدوار القتل بأنواعه وإن كان هناك اختلاف واضح يبرز في أن الأول (أي الرب) يهب الحياة والثاني (البشري) يقطعها، وتظهر مستندات هذه الأزمة في أن أحد أسلافك قد قتل وأرسل رأسه إلى الأستانة ثم أن أباك مات مقتولا في حادثة عائلية غامضة، وربما هناك نماذج أخر من هذا (القتل المتسلسل) في العائلة ينضاف إلى فجائع القتل العام التي هيمنت على تاريخ بلدنا القديم والحديث.. هنا أسألك إن كانت هذه المحنة هي السبب في شرنقة شعرك بخيوط الفقد والتيه واليتم المبكر؟ ثم أليست هي وراء إظهار شعرك منقوعا بالدم؟!.
* مرة وعبر الماسنجر تحدثت مع أديب عربي ممن يرون في صدام حسين رسولاً وملهمًا وبطلاً وكل ما تضخّه المُخيّلة الشرقية من صفات أسطورية على الطغاة والقتلة، مازال الطغاة لم يقتربوا منهم وآلتهم الجهنمية لم تحصد أهلهم، فقلت له إن صدام حسين قتل أهلي وناسي، فما كان منه إلاّ أن اتهمني بالأنانية و"المصلحية" وإلخ قائمة الاتهامات، لأنه انطلق من تفكير أناني بدوي شرقي، ولا يمكن لنماذج كهذه أن تفهم ما نعانيه وأن أهلي هم جميع الضحايا والمهمشين والمضطهدين. نعم أفتقد لكلمة أبي، والموت قتلاً وإعدامًا وتذويبًا بالأسيد أو سواه كان من حصة أهلي وأقاربي بالمفهوم العام، ولكن العامل الإنساني والوطني هو ما يرفع ضحايا العنف ومفهوم الفرقة الناجية، وإطاعة أولي الأمر وكل ضحايا الأيديولوجيات إلى مصاف أبي وأبناء عمومتي، ضحايا الفرقة الناجية هم أهلي وأنا أنتمي لكل مطرود من جنة الفرقة الناجية.
يُخيّل إليّ أن محنتي هي محنة الوطن نفسه، لأن محن الناس هي مجموع محنة الوطن، وما مررت به مرّ به ملايين العراقيين، فكل عراقي محنته هي ذاتها محنة الوطن، ولا تَنْسَ أنني ولدت وآبائي في مدينة كربلاء حتى تركت العراق وأنا في السادسة والعشرين من العمر، وبحكم موقع بيتنا في وسط مركز المدينة وموقع عملي، كنتُ على اطلاع مباشر على آلاف الجنائز التي تصل المدينة في طريقها لمستقرها الأخير في وادي السلام في النجف، وهو مما شكلَ وعيي وحفر عميقًا في ذاكرتي بل وفي عقلي الباطن، خصوصًا وأن الكثير من هذه التوابيت ليس خلفها سوى رجل عجوز وامرأة أو عدة أشخاص مما يعني أن الجدث المسجى في التابوت من المغضوب عليهم من قبل النظام، أي معدوماً، ولأني مدمن قراءة لتاريخ العراق فقد هَيمنت هذه المحمولات على شعري زمنًا طويلاً، وشرنقته بخيوط الفقد والتيه واليتم المبكر والحرمان الذي لن تقضي عليه كل سعادات العالم، ومن ثم كانت وراء إظهاره منقوعًا بالدم ومثقلاً بالأسى بل هو شعر فجائعي، وحديثي عما بين دفتي ديواني "إلى لغة الضوء"، لأنَّ ما بعده يختلف قليلاً أو كثيراً.
وأد للبلاد وللعباد
27- السؤال السابق أعاد إليّ سؤالا قديما يتعلق بأسباب هبوط مؤشر التعداد السكاني للعراق وكيف أنه في عهد العباسيين بلغ أكثر من أربعين مليونا ولكنه تراجع إلى أقل من أربعة ملايين في أوائل القرن العشرين.. كقارئ للتاريخ إلى ماذا تعزو هذا التناقص المخيف في عدد سكان العراق عبر مراحل التاريخ؟ وهل ترى أن قوى خارجية أم داخلية كانت كامنة خلف هذا الوأد التاريخي لسكان العراق؟
* قبل الإجابة على سؤالك أود أن أشير إلى أن نفوس العراق قد بلغت نهاية القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر المليون أو أكثر قليلا.
أرى أن القوى الخارجية لعبت دورًا تدميرياً، لأن هذه القوى وإن سيطرت على العراق وحكمته فهي في كثير من الأحيان بقيت غريبة عنه ولم تندمج فيه وتنصهر في ثقافته بعد، وحين تنصهر تكون قوى خارجية أخرى قد نزحت وأبلت بلاء موجعًا في القتل والتدمير.
والقتل والتدمير أنواع عديدة، فعدم الاعتناء بالأنهار والمجاري والسواقي والحقول والنظافة وتأمين الطرق وفرض القانون واستتباب الأمن، أو بكلمة أخرى، عدم قيام الدولة بواجباتها، ينتج عنه وأد للبلاد وللعباد كما يقال. أما القوى الداخلية فهي وإن كانت في جوهرها خارجية لأنها حديثة العهد في استيطانها ولكنها مازالت تعيش على هامش مدنيته، وهذه لعبت دورًا أيضًا في الدمار، ثم كانت الأوبئة وانتشار الأمية، مما يعني زيادة مهولة بالوفيات أمام الولادات.
مَن يقرأ تاريخ العراق وهو يجهل تواريخ الدول والأمم الأخرى سوف يظن جهلاً أن تاريخه دمويّ، ولكن الحقيقة أن الأمم كلها عانت مما عاناه العراق، ومنها مازال يئن تحت وابل عقلية القرون الوسطى والبداوة كما العراق للأسف الشديد، ومنها مَن تخلصَ وراح يغذ الخطى نحو دولة المواطنة التي تفرغ غضبها وبداوتها ومراهقتها البشرية بل وحيوانيتها تحت قبة مجلس النواب وعلى مكاتب الإعلام وليس بكاتم الصوت والمتفجرات والعنف مهما كان بسيطاً.
28- لكثير من أدباء وشعراء العالم مدنهم الأسطورية أو التي أسطروها عبر كتبهم ونصوصهم فتخلدت من بعدهم كما تخلدوا كخالقين أو مؤسسيين لها. ومن أقرب الأمثلة:
السياب (في جيكور وبويب) والطيب صالح (في دومة ود حامد) وماركيز (في ماكاندو) وسوى ذلك كثير مما لا تسعفني به الذاكرة الآن.. أود أن تكشف لي إن كنت نجحت حتى الآن في تأسيس مدينة أو أثر أسطوري موسوم باسمك؟ أم تراك اكتفيت بأسطرة مدن قائمة مثل كربلاء؟ وهل تخطط لتأسيس خطط أسطورية أو يوتوبية فاضلة تكون خلاصًا من كل هذا الدنس؟.
* ما يهمني هو الشعر في كل ما أكتب، ولكني لم أتعامل قط مع المدن والأمكنة والشخصيات تعاملاً واقعيًّا، حتمًا يكون التعامل شعريًّا مؤسطراً، ولأني كما ذكرت مرارًا لا ضغينة لي مع كل المدن التي عشت فيها وزرتها، فتعاملي هو تصالحي جمالي.
كان السيّاب ذكيًّا جدًّا بل عبقريًّا حين لم يكتب عن دجلة والفرات، وإنما كتب عن نهير صغير أو جدول بسيط في قريته له معه وشائج قربى ليخلق أسطورته الخاصة، فمهما كتب عن دجلة والفرات فلن يفهما حقهما ويتطلب منه ذلك موسوعية هائلة بتاريخ العراق، وخطاب شعري لم يسبقه إليه أحد، بينما "بويب" موضوعة بكر لم يطرقها أحد، وكثيرًا ما قلت مع نفسي مخاطبًا السياب: لا شك أن عبقريتك قادتك إلى خلق أسطورة بويبك هذا، وهو أقرب إليك من دجلة والفرات لأنه ملعب الطفولة وموقد البراءة وكاتم أسرار أحلامها، ولكني ترعرعت في مدينة هي أشهر من نار على علم، مدينة حُبّرَت آلاف الصفحات عنها وعن نهرها الذي هو قناة وتسميتها بالنهر مجازية، مئات الملايين من البشر يعرفون مدينتي وشيئًا مهمًّا عن تاريخها، ولكن في المقابل تكاد تكون جيكورك وبُوَيْبك مجهولين عند عامة الشعراء والأدباء إن لم يكن عامة الناس أيضاً، أنت كتبت يا مُعلم عن شيء مجهول وجديد وبكر، فكنت عبقريًّا لأنك حولت قريتك ونهيرها إلى أسطورتين تاه عشاق شعرك في جنائنها وغرقوا في بويبها، فما الذي سأكتبه أنا وما الذي سأضيفه.
أمام كل ما ذكرته أعلاه، فأني أرى أن أفضل طريقة للخلاص من هذا الدنس والخراب هو بأسطرة النص ذاته، واعتبار الإبداع هو الطريق إلى المدينة الفاضلة والتي هي بالنسبة لي القصيدة لا غير.
أساس المأساة العراقية
29- لم أع تماما قولك إن ضعف الشخصية العراقية هو نتاج وقوع العراقي بين بداوتين جبلية وسهلية مما استولد عنفا جبلت عليه هذه الشخصية. ألا ترى أن هذه المقولة بحاجة إلى إضاءة أكثر؟ وهل تراك بقولك هذا ترجّح الرأي الشائع من أن أساس المأساة العراقية يعود لأسباب جغرافية محض؟
* ضعف الشخصية العراقية واضح تمامًا بالنسبة لي، فليس من القوة أن تتخلَّى عن لهجتك وتذوب سريعًا في المجتمع الجديد، مازال هذا المجتمع خارج وطنك، ولكنك تتمسك بشكل متطرف بجذورك حين تنتقل من مدينة إلى أخرى أو من الريف إلى المدينة، الصراع المزمن بين بداوتي السهل والجبل، ووقوع المراكز الحضرية بينهما أدى إلى توتر وارتباك نزق في الشخصية العراقية، فهي شخصية موتورة ضعفها واضح من خلال استخدام العنف كردّ فعلٍ وحيد، واعتبار امتصاص رأي الآخرين وخصوصًا الناقد والمختلف والمعارض دليل ضعف ورخاوة في الشخصية، تَرى في التهذيب عيبًا، بل ليس من الرجولة، أو هو دليل على عدم قوة الشخصية، وإذا انتقلنا للوسط الأدبي، فسوف نلاحظ ذلك واضحًا من خلال أقوال عمومية عصابية تردد مثل "إن الشعر لعراقيّ" ولكن في ذات الوقت تم تهميش مجموعة من الشعراء يتقدمهم أحد أهم شعراء العربية، ونفس الشيء تكرر مراراً، في كتب المختارات وسواها. يقف الشاعر العراقي متباهيا ومتبخترًا بأحقية الشعر العراقي أن يكون في طليعة الشعرية العربية، ولكنه حين يأتي للتفاصيل لا يذكر سوى اسمه وربما بضعة أسماء أخرى، لاغيًا هذا العدد الهائل من الشعراء.
أخبرتني أديبة عربية تعمل في مجال الإعلام في الخليج، قائلة: حين كثرت أعداد الأدباء والإعلاميين العراقيين في البلد الذي تعمل فيه، اندهش الجميع بإمكانياتهم، وتبوأوا مراكز مهمة، ولكنهم بدأوا يحفرون لبعضهم بعضاً، ويستخفّ بعضهم ببعض حد التهميش أمام الخليجيين، مما اضطر الخليجيين إلى التخلص منهم راحة للبال من هذا المشهد غير المفهوم والغريب عليهم، وجلب إعلاميين من بلد عربي آخر معروف بالتعاضد رغم أنهم كانوا أقل من مستوى العراقيين على حد قول الإعلامية العربية، ولكن الخليجيين اشتروا راحة بالهم. هذه القصة لها مغزى كبير وهي تدلل على ضعف بالشخصية، الشخصية القوية تعشق المنافسة وتثني على الآخرين، وتبرزهم لأن إبراز الآخرين والثناء عليهم هو ثناء على النفس وإبرازها، فكيف وصلت هذه الشخصية وحققت حضورًا وسط كل هذا العدد من المبدعين لو لم تكن مبدعة خلاقة؟ هكذا سوف يتساءل المستمعون للشخصية القوية وهي تشيد بالآخرين.
مأساة العراق تكمن في أشياء عديدة وليس في أمر واحد، نحن تنقصنا مراكز دراسات عملاقة لطرح العديد من الأسئلة والتي منها هذا السؤال: لماذا حدث الذي حدث، وكيف نتجنب ما حدث وما يحدث، وما هي الوسائل الناجعة لعدم تكرار ما حدث ويحدث؟، العراق بحاجة لفترة زمنية كافية من السلم الأهلي، وترسيخ مفهوم المجتمع المدني، وبناء مفهوم الشراكة مفهومًا علميًّا إنسانيًّا، والاعتذار للشعب العراقي على مقولات كثيرة منها: العراق وطن اصطنعه الإنكليز، والعرب والأكراد شركاء في الوطن أو العراق يتكون من العرب والأكراد وبقية الأقليات، لأن من أبسط قواعد الدولة الحديثة أنها تؤمن بالمواطنة التامة، فكيف تكون مواطنة تامة ويتميز العرب فيها أو يتميز العرب والأكراد فيها، بينما القانون الأساسيّ (كلمة الدستور غير علمية) للدولة العراقية زمن العهد الملكي الذي يطلقون عليه بالمباد، كان النص واضحًا بإنسانيته عندما ذكر "العراق يتكون من العراقيين" وكذا الحال بالنسبة للثقافة بصورة عامة، فيجب الاعتذار للشعراء العراقيين الذين كتبوا بغير اللغة العربية، وتم إعداد الأنطلوجيات الشعرية الكثيرة خالية منهم، وما ينطبق على الشعراء ينطبق على الأدباء والفنانين والفنون والطبخ، أي بصريح العبارة يجب الاعتذار لكل فئة تم تهميشها ليس من قبل الحكومات فقط بل ومن قبل الكُتّاب أنفسهم، فالمطبخ العراقي يجب أن يشمل كل المدن والقرى والبلدات العراقية ولا يقتصر على المدن الكبرى والعراق الناطق بالعربية، وكذلك الفن العراقي والأزياء العراقية والموسيقى والتراث الشعبي.... إلخ.
أساس المأساة العراقية قائمة على الأحادية، وهي ضمن ثقافة الفرقة الناجية، وأمير الشعراء والشاعر الأوحد، فما قيمة أن تدعي الدفاع عن فئة عراقية ما وتتباهى بذلك ولكنك تصمت عن بقية الطيف العراقي، أليست هذه أحادية تسبب مأساة، وكيف نحارب فكرًا قوميًّا ما ونصمت بل وندافع عن حركة أو حركات قومية أخرى تستمد فكرها وبرنامجها السياسي من نفس الثقاقة والمنظومة المعرفية القائمة على تضخيم الهوية الذاتية وتقزيم بقية الهويات أو تحويلها إلى تابع يدور في فلكها، ونلعن حزبًا أو أحزابًا عابرة للوطنية وتستمد دعمها من أنظمة خارجية ونسكت عن أخرى تفعل أو فعلت ذات الشيء، هذه أحادية تطيل أمد المأساة، أحادية يجب محاربتها في كل المجالات، في الشعر مثلما في السياسة، في الأدب مثلما في الفن، في الدين مثلما في التراث، في الجنس مثلما في الحرية، أعني أننا ندعو إلى حرية المرأة وحقوقها ولكننا نصر على حجابها واعتبارها عورة وأنها ناقصة عقل ودين، فهذه أحادية أي بمعنى الانتصار للرجل وتقزيم المرأة والأنوثة واعتبارها تابعًا في فلك الذكورة.
30- صحيح تماما أن العراق أنجب أجيالا هائلة من الشعراء والأدباء والفنانين ولكنه صحيح أيضًا أصبح حضنا طاردًا لتلك الأجيال، بمعنى أن رحم هذه البلاد الولود يقوم بفعل مضاد للولادة، أي النبذ ودفع الشعراء والأدباء والفنانين صوب المنافي، حتى ليمكن القول استنادا إلى براهين أننا إزاء معادلة متوازنة: طرفها الأول ولود والثاني مقصي.. كيف تنظر أنت لهذا المشكل الراهن والتاريخي؟!.
* أنتَ قلتها، أصبحَ، أي أن العراق لم يكن هكذا، بل أؤكد لك أن العراق كان وعلى مدى آلاف الأعوام، بلدًا مستقطبًا وحاضنًا للأقوام، وهو ما نلمسه في سحنات أبنائه وفي المفردات التي تستحوذ على كل لغاته، من تشابك وتزاوج، بل الأمر يصل إلى تشابك في العقائد.
تاريخيًّا لم يكن العراق طارداً، ولكن راهنًا نعم، لأنه حين يخرج العسكر ذوو الخلفيات البدوية والريفية من ثكناتهم فماذا نتوقع غير نبذ الفنان والمبدع إن لم يتحول إلى بوق لأوهامهم المريضة.
لقد تم ترييف المجتمع العراقي وعسكرته وبدونته، وانتعشت منظومة الفرقة الناجية وثقافتها، وهو ما نلاحظه حتى عند الذين ادعوا مناهضتهم لنظام صدام حسين وهم في الحقيقة نازعوه السلطة، لأن مَن يعارض عليه أن يأتي بمشروع مختلف، قائم على الإيمان بحقوق الإنسان وقدسية الوطن والمواطن في ذات الآن، حيث إن منازعي صدام السلطة أوهمونا بأكذوبة حق تقرير المصير وعدم قدسية الأوطان، ولكنهم دعوا لأوطان شوفينية عنصرية إلغائية إقصائية، بل لم يكتفوا بهذا، واعتبروا أنفسهم أهل الثقافة والإبداع والوعي والحق وسواهم دون ذلك بكثير، ومما يؤسف له أن هذه الحالة تفاقمت في السنوات الأخيرة.
العراق فعلا الرحم الولود ولن يخلو يومًا من المبدعين والكفاءات، ولكي نوقف عجلة الهجرة وإعادة العراق إلى ما كان عليه على مدى القرون بأنه الحضن المستقبل والمستقطب، علينا معالجة العقلية والمنظومة التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه، فمما يؤسف له أن نسبة كبيرة ممن خرجوا مبكرًا ورغم سنوات النفي الطويلة والاحتكاك بمجتمعات مدنية لم يتعلموا أن جميع الفرق ناجية، وأن الأحادية قاتلة ونجاح المجتمعات في تنوعها الجميل وشراكتها العادلة، وهو ما يتطلب أن نؤمن بوحدة الوطن العراقي وتنوعه ونرفض تقزيم أي فئة فيه أو الانتصار لفئة دون أخرى.
لقد واجه الكثير منا نحن الذين خرجنا في التسعينات، عند مَن خرجوا قبلنا بسنوات تقارب العقد أو تزيد، غرورًا وعجرفة ونظرة استعلائية ووصاية على الثقافة والإبداع والوعي والجمال والوطنية لا تختلف عند النظام الذي تركنا وطننا ودفء العائلة وحضن أمهاتنا بسببه.
لديَّ أمل كبير أن العراق سوف يتعافى تمامًا وسوف يعود بلدًا مستقطبًا للكفاءات والأدمغة والمواهب، ولكن هذا يحتاج إلى وقت أولاً، وثانيًا وضع الخطط والدراسات والبحوث عن أسس مشاكلنا ونزواتنا ومنظومتنا المعرفية وأنساقنا الثقافية لنتخلص من الأحادية والفرقة الناجية وثقافة الإشاعة وروحية الإقصاء للآخر، وضعف شخصيتنا الذي ولّدَ عنفها.
وأخيرًا أختم جوابي بما ذكره المؤرخ البريطاني الشهير أرنولد توينبي في كتابه "البشرية والأرض الأم" (ص 128) لما فيه من مغزى: "بالرغم من الحروب والصراعات القديمة بين الممالك العراقية عندما تنتهى واحدتها وتبدأ حياة ثانيتها فإن العراقيين كانوا يعاملون بعضهم بعضًا بمنتهى الاحترام والكياسة باعتبارهم أصحاب وطن واحد هو موطن المدنية المشتركة".
31- كان جل همك -حسب جواب سابق- في هذا الكون على المستوى الشخصي هو كتابة قصيدة خالصة.. ترى ما طبيعة هذه القصيدة وما مواصفاتها؟ أتراك وضعتها ضمن حدود أم أطلقتها خارج المحددات؟ ثم هل تعني مفردة (خالصة) أن تكون موسومة بك ودالة على انشغالاتك؟
* هي خارج المواصفات، وإلا كتبتُها وانتهيت منها، قصيدة هي ضبابية في مخيلتي، وما أعرفه عنها أنها لا يمكن إزاحة مفردة واحدة أو إبدال حرف واحد فيها، قصيدة تحوي الدهشة والمتعة، ومفتوحة على تأويلات لا حصر لها، لا يملّ من قراءتها، حيث الجديد في كل قراءة، فيها نسبة الشعر مئة بالمئة، كل شاعر يقرؤها يتمنى أن يكون كاتبها، والناقد الذي يدرسها ويكتب عنها اليوم يجد فيها شيئًا جديدًا في القراءة القادمة. قصيدة أراها من بعيد وألهث خلفها وأسطرها على الورق ظنًّا مني أنها المبتغاة، ولكني بعد الكتابة بفترة وجيزة يخيب ظني وأكتشف عدم نَيلي لها فأعاود الكرّة مرة أخرى وهكذا دواليك.
32- اتصالا بالسؤال السابق هل أحصل منك على تخريجة واضحة تشي بالمتحقق الفعلي من ذلك الهم الشخصي (وهو إبداعي شعري في المآل النهائي)؟ بكلمة أخرى: كيف تجد ما تحقق شعريًّا بعد عقدين شعريين وأربع مجموعات منشورة في أكثر من لغة؟ وهل رضيت الأنا الشاعرة بالحصيلة قياسا بحلم القصيدة الخالصة؟
* مازلت أرى نفسي في بداية الطريق، لأن طريق الشعر طويلة بل وأطول مما نتصور، لا أظن أن عقدين كافيان لتحقيق شيء ما في الشعر، لأن الشعر لعظمته هو أصعب من أن يصنف ويُقَعّد، وكل مُصنف ومُقَعّد محدود بطبيعة الحال، فكيف بالشعر الذي يحتاج إلى تكريس تامٍ وعقود من العمل الدؤوب والانصراف الكلي، الشعر يشبه الرهبنة، والشاعر إن لم يكن راهبًا في ملكوت الشعر لا يستحق مباركة الشعر ذاته. أكاد أتفق مع الشاعر خزعل الماجدي حين صَنّفَ الشعر على أنه قائم بذاته، فهو ليس من الأدب وإنما هو شعر وكفى، وأقول الشاعر الماجدي وأبعد عنه كلمة الباحث، لأني أتفق معه على أن الشاعر يجب أن يكون قارئًا كبيراً، والقارئ الكبير ليس شرطًا أن يكون نهمًا بالقراءة، بل أن تكون قراءته احترافية ويكون منتجًا موازيًا لمؤلف المقروء، وأن يكون مثقفًا كبيراً، وأهم صفات المثقف سعة الاطلاع واحترافية القراءة، والخروج على المجموع.
الرضا عن الشيء هو قتلٌ له وإلغاء الأنا الشاعرة هو حين تَقنع بما حققتْ وصارت مسالمة للمنجز، لم أرض عما كتبت وأرى نفسي كثير التقصير.
لا أعرف شيئًا إلا كتابة الشعر
33- من المؤكد أنك قرأت وتابعت كثيرا من التجارب الشعرية التي وضعها شعراء سابقون أو مجايلون لك وكيف أنهم وسموا مرحلتهم ببصمات خاصة تدل عليهم وتستدل بهم: الراحل رعد عبد القادر ومشروع (الجملة الشعرية)، خزعل الماجدي و(قصيدة الصورة)، فاضل العزاوي و(القصيدة الكونكريتية)، حسب الشيخ جعفر و(القصيدة المدوّرة) ومشتاق عباس معن و(القصيدة الرقمية التفاعلية) وسوى ذلك من تجارب وأسماء لا تسعفني بها الذاكرة الآن.. هنا أسالك إن كانت ثمة تجربة نظيرة أسستها وأطلقتها في المنطقة الشعرية العراقية والعربية توصف بها وتوصف بك لها عنوان وخواص ذاتية يمكن عدها كمشروع خاص ولا يذكر إلا بك؟
* مازلت أعمل على مشروعي الخاص، ومحاولة إيجاد هويتي ومنطقتي الشعرية الخاصة، وما كتبه وحققه سواي أغبطهم عليه، ولكن يبقى لكل مشروع سماته وتأويلاته، فإن كان متعدد القراءات ليس بالنسبة للآخرين، وإنما هل هو متعدد القراءات لي أنا بالذات كقارئ، وهل أجد متعة في ما كتبه غيري حين العودة مرة ثانية وثالثة ورابعة وخامسة لنفس النص وذات التجربة. لابدّ من التأكيد على أنني لا أجيد التنظير وأجده مهمة الناقد لا مهمتي، لأني أكتب والقراءة تحدد ما إذا كان ما كتبته يعدّ شعرًا أو شعرًا يقترب من القصيدة بهذه الدرجة أو تلك، وكم كمية الشعر فيما أكتب، ومن ثم تحديد هل مجموع هذه الكتابة من الممكن عدها مشروعًا متفردًا أم لا. ويمكن أن أجمل لك الجواب بقولي: إنني لا أعرف شيئًا إلاّ كتابة الشعر وهو همّي الأكبر الذي شغلني حين كنت في الابتدائية حين كنتُ أبتاع جريدة طريق الشعب لصديق والدي الذي كنت أعمل عنده في حينها، وسمعتهم يتلون شيئًا هزني بل قل مسني، فرحتُ أحاول قراءة الجريدة حين أشتريها وأنا في طريق العودة للمحل الذي أعمل فيه، ومنها صار الشعر ديدني قراءة وكتابة وحلمًا ومشروع حياة.
34- لسارتر رؤية معروفة يقول فيها (إن المضمون الجديد يحتاج إلى شكل جديد) فهل وصلتك هذه الرؤية أو أثارت انتباهك لمغزاها؟ وهل تحمّست كرياتك التجديدية الكامنة في غريزتك الشعرية طوال رحلة الجلجلة؟.
* لولا إيماني بالتجديد وعدم الركون للمتحقق لظلت خطاي تجوب أزقة كربلاء، ومخيلتي مفعمة بما يتناوله صحبي، ولكن شعوري الحاد بضرورة التجديد وعدم الركون للمتحقق بما في ذلك منجزي على تواضعه، هو الذي جعلني أحاول أن اكتب في مواضيع مختلفة ويكون ديدني التجاوز، وأولهم تجاوز باسم فرات نفسه وعدم الوثوق بما يكتب وما أنجز.
فمن نصوص ذات نكهة كربلائية إلى نصوص ذات نكهة عراقية وحضور واضح لمفردات الفرات ودجلة وبغداد وبابل والسومري وأور وآشور إلى حضور الحنين والشعور الحاد بالغربة وكوابيس لا تفارقنا نتيجة رعب النظام الشمولي، إلى حضور العائلة بشكل كبير وخصوصًا في "أبي" "أنا" "أنا ثانيةً" وسواها، ثم تغلغل الأمكنة والثقافات الجديدة من خلال "جبل تَرَناكي" "شيء ما عنك.. شيءٌ ما عني" "هيروشيما ومدنٌ أخرى" "قلعة هيروشيما" "مدرسة الموت" "نهر ميكون" "تقريظ باشو" "متحف السلام في هيروشيما" "عن الغريب الذي صار واحدًا منهم" وسواها من النصوص.
35- ذكرت أثناء هذا الحوار أنه تم ترييف المجتمع العراقي وعسكرته وبدونته، وانتعشت منظومة الفرقة الناجية وثقافتها.. هل أستطيع انطلاقا من هذا التسويغ أن أفهم الآن لماذا شاعت النظرة الدونية التي يتعامل بها حكام العراق القدامى والجدد مع العلوم والثقافات وأساليب التحديث والحضارة حتى تحولت البلاد إلى صورة كهف دخيل على منظومة الألفية الثالثة؟!.
* منظومة الفرقة الناجية هي السبب الرئيسي فيما آلت إليه الأمور، فكل فئة (بدوية، ريفية، دينية، مذهبية، أيديولوجية) تَدخل البلد في نكبات وتسفك الدماء من أجل تحويل الشعب بتاريخه العتيد وتنوعه الجميل إلى فئتها دون الرضوخ إلى مفهوم الدولة الذي يعني أن السلطة حامية للوطن وللمواطن على حد سواء، وأنها فوق الميول والاتجاهات، هناك مَن يرى أن الجميع أهون من الفئة الدينية والمذهبية، لأنهما يخرجان الفئات الأخرى من الحياة وليس من الحكم والمشاركة الفاعلة في الوطن، ولكن ألم تخرجنا هيجانات القوميين واليساريين من الحياة أيضًا؟ وما ضحايا العنف منذ الرابع عشر من تموز 1958 ولغاية الآن إلا الدليل على أن الجميع سواء، لأنهم رضعوا مفهوم الفرقة الناجية.
ألم تزرع هذه المنظومة الكراهية في نفوس الغالبية العظمى، حتى صار كل واحد فينا هو العالم والفيلسوف والمفكر والضحية ويكثر من دموع المظلومية التي استخدمت من قبل الجميع بشكل مقزز وفتاك بالمجتمع وبناه كافة.
تخلصنا من الفرقة الناجية يجعلنا نؤمن أن الحقيقة كالكرة يراها الجميع كل من زاوية نظره، وبهذا يصبح ضروريًّا وفاعلاً وجود الاختلاف اللغوي والديني والمذهبي والعقائدي والسياسي بل والثقافي، لأن الاختلاف والنزاع السلمي هو ما ينمي المجتمع ويطوره ويوصله إلى مصاف المجتمعات المتطورة ودولة المواطنة التي يكون فيها الجميع أغلبية وترفض مفهوم الأقليات ونظامها سيئ الذكر، وتكون الدولة حامية للجميع ولا تنتصر إلا للحق، بحيث لا يتم جلب رئيس الدولة أو رئيس الورزاء فقط للمحكمة إن اقتضى الأمر، بل أكبر مرجعية روحية أيضًا لأن دولة المواطنة فيها القانون المبني حتمًا على ضوء حقوق الإنسان هو المرجع الأعلى.
نقد البنى الدينية (المقدس) والاجتماعية والأنسنية (أنثروبولوجي) هو أقصر الطرق للحداثة واللحاق بركب الأمم المَدَنية.
36- أعجبتني كثيرا قصيدتك الأخيرة التي نشرتها في صحيفة (الصباح) البغدادية تحت عنوان ملتبس هو (وطن جديد) وأول ما يلفت فيه هو هذه اللاتعريفية والتنكير المقصود وكأنك حشرت الوطن المكتوب عنه في السديم السحيق.. ما الحافز الذي لبد في لا شعورك وكان سببًا لانزياح القصيدة على الورق؟ وهل أستطيع كقارئ أن أصل القصيدة بالوطن الأوربي أم الآسيوي أم ذاك الناتئ في الذاكرة المفجوعة؟
* كنتُ أسير في شوارع العاصمة اللاوسية (فِيَنْجان) وبين حاراتها وقراها وفي أسواقها ودروبها غير المبلطة جيداً، وأقارن بين العراق وبينها، ورحت أتذكر ادعاءات الكثير من اللاجئين بخصوص المنافي وكيف نقلهم لصورة غير حقيقية تماماً، أوحى لكل واحد فينا أن بلدان اللجوء فيها من الطيبات ما لا يعد ولا يحصى أي أنها جنان بكل ما في الكلمة من معنى، وكأنها عبارة عن شلالات ومتنزهات وحدائق غناء مليئة بالحسان الشقراوات اللواتي ينتظرن اللاجئ عند المطار ليتشرفن بتحولهن إلى جوارٍ لديه، وأن لك مطلق الحرية في ما تقول وتفعل وكأنه لا ضوابط ولا وأعراف ولا وقوانين، وقد تذكرت رسائل ومكالمات البعض لنا ونحن في عمّان حيث أحاديثهم لا تخرج عن الجنس وكيف أنهم خصصوا ستة ليالٍ في الأسبوع كل يوم لشقراء مختلفة، وأما الليلة السابعة فهي لقضائها كل مرة مع امرأة مختلفة، وعن أولئك الذين حين يتصل بهم صديق من بلدان الشرق والفقر يخبرونه أن يعطيهم رقم الهاتف وسوف يتصلون به بعد دقائق، لأكتشف حين وصولي لنيوزلندا أنهم يذهبون إلى أقرب هاتف عمومي ويقومون بالاتصال منه بطريقة مناقضة للقانون أي سرقة تامة، وتذكرت الكثير مما سمعته حين كنت في العراق وفي الأردن، بل اكتشفت الهالة والأسطرة التي وضعها البعض لبلدان اللجوء وللمنافي عموماً، والتي لا ينكر ما لها من حسنات، بل وكيف أن الحنين يحتل كل شبر في نفوس هؤلاء حين ينفردون بأنفسهم، فكانت قصيدة "وطنٌ جديدٌ" التي وجدتني أرددها كاملة قبل الكتابة، بل بقيت لفترة أنساها حين أكون في البيت، وأجدني أرددها وأنا خارج المنزل، وبقيت فترة على هذا المنوال وسافرت إلى كمبوديا وسنغافورة وماليزيا وحين عدت دونت القصيدة.
قصيدة "وطن جديد"
37- القصيدة فيها مونولوج مؤثر وانثيال صور ومحطات وحفر في الفاقد لمقارنة (الهنا) بـ (الهناك) بشكل يفضح التصادم المستعر في داخلك بين عالم مرئي بهيج وآخر يستدعى من ذاكرة منقوعة بالفقد والموات.. أكنت تبعث رسالة ما وأنت تحرص على نشر هذه القصيدة تحديدا في صحافة بغداد مع كثرة آفاق النشر المتيسرة أمامك لنشرها بعيدا عنها؟.
* أحيانًا نتصرف بعفوية ونتيجة تصرفنا تكون رائعة وعميقة، ونشري لهذه القصيدة في صحيفة الصباح البغدادية، كان يهمني وإن جاء بعفوية في ذات الوقت، لأن الصديق الشاعر باقر صاحب دعاني أكثر من مرة للنشر في الصباح وأحرجني بكرمه ونبله ودماثة خلقه وأشعرني أنه فعلاً مخلص لعمله لأنه يحبه ولا يرجو منفعة منه، فقمت باختيار هذا النص عفويًّا، ولكن بعد أن أرسلته شعرت بمدى أهمية نشره في بغداد، لأنه يُبين حقيقة المنافي التي وصلتنا صورة مُرَتّشَة ومُلَمَّعَة بحيث أسقطت جميع الندوب والحفر والتجاعيد عنها، صورة المنافي أنها امرأة في الخمسين لم تشهد حروبًا في نصف قرنها الذي عاشتها، وفيها حيوية وأنوثة من لم تر آلام الطغاة وحماقاتهم وحروبهم، ولكن مَن نقل لنا الصورة رتشها لتكون فتاة لم تبلغ العشرين بعد، رسمها لنا كما اقتضت مخيلته واستمناءه، وليس كما تقتضي الحقيقة.
38- قال الشاعر العراقي عادل عبد الله - في حوار أخير منشور- ((إن النقد العراقي موغل في تخلفه، وطاعن في أيديولوجيته، ومسرف في مجاملاته))، وهناك أصوات أدبية كثيرة في العراق تردد مثل هذه الاتهامات ضد النقد العراقي حتى إن الراحل يوسف الصائغ ذكر لي أنه ليس هناك نقد ولا نقاد في العراق.. كيف تحدد أنت الموقف من النقد قياسًا إلى تجربتك الشخصية وكيف تقّيم مستوى التلقّي النقدي لنصوصك الشعرية؟.
* تبقى لكل إنسان نظرته للنقد والنقاد، وبعض الآراء فيها نسبة صواب وأخرى متطرفة تمامًا في ما تطرح، فجملة "ليس هناك نقد ولا نقاد" جملة إلغائية تماماً، وهذا خارج المنطق، فمثلما هناك أعداد هائلة ممن يكتبون وهم دون المستوى المطلوب، شعراء وأدباء وكتاباً، ثمة نقاد لم يرتفعوا لمهمة النقد حقًّا، ولكن تبقى لدينا أسماء منيرة فعلاً، وأنا مدين للنقد وللنقاد بصورة كبيرة، أقول بصورة كبيرة لأني مدين للجميع في مواصلتي الكتابة والاستمرار في مشروعي الشعري المتواضع، لولا النقاد لما تمكنت من تجاوز أشدّ الهديل وخريف المآذن، وبفضل النقاد وجميع مَن كتب عني وتناول تجربتي، الذين أشعلوا فيّ روح الإصرار والتحدي، تجاوزت الكثير مما كتبته في أنا ثانيةً كذلك، وما نصوص ما بعد أنا ثانيةً وإن كانت تبدأ من قصيدة "الساموراي" التي نشرت كآخر نص في مجموعتي "أنا ثانيةً" إلا دليل على أثر الكتابات في تطوري.
لا شكّ أن ليس جميع الكتابات في مستوى واحد، بل هناك تفاوت واضح بين دراسة وأخرى، ولكن يبقى الجميع لهم فضل الكتابة عني.
أنا متصالح مع المدن
39- كأي واحد عاش (صدمة مرضى إرهاب أنظمة شمولية وجاء للعيش في ضفاف الحرية) كيف تلقيت واستوعبت تلك الصدمة وتعاملت مع آثارها؟ وهل تراك عانيت بعض ما عاناه (مصطفى سعيد) بطل رواية موسم الهجرة.. للطيب صالح أو بطل يحيى حقي في (قنديل أم هاشم) في لحظة القدوم من مرحلة بدوية مكتظة بالخسارات والطغاة والوصول إلى مناطق حضارية يؤمها المعذبون والأحرار؟ وهل نستطيع القول إنك ما زلت للآن في ظلال تلك اللحظة لكونها تمثل مطهّرا أم تراك تركتها خلفك زمنيا؟.
* لا وجود لشخص ينتقل من بلد إلى آخر مختلف، إلا وأصيب بالصدمة الثقافية (الصدمة الحضارية مصطلح غير دقيق) وتتفاقم الصدمة حين يكون الفارق جد شاسع بين البلد الأم والبلد الجديد (هل أقول الأب؟) فمن نظام هو الأكثر إرهابًا إلى الأكثر حرية ربما، ومن بلد غير مستقر إلى مستقر تماماً، أضف إلى ذلك عوامل اللغة والثقافة عمومًا بل وحتى الطقس، ولا ننسى الأوهام التي نحملها عن الوطن الجديد، ليصل عند البعض وكأنه الفردوس الذي داعب مخيلة البعض، فكانت الصدمة الكبرى حين الوصول، لأنه لا وجود للجوء سياسي وإنساني، بل حال الوصول يعامل القادم الجديد كعاطل عن العمل، أي أننا عالة على المجتمع نستلم مساعدات عاطلين عن العمل وهي مخصومة من جهد وعرق الذين يعملون، والشقة أو البيت الذي تُعْطَى لنا عن طريق الإيجار أثاثه فى الأغلب الأعم مستعمل، ونلزم أنفسنا بتعلم اللغة الجديدة وخلال فترة معينة يبدأ البحث عن العمل وملء استمارات شهرية توضح أننا بحثنا عن عمل، وهذا لا يعني عدم وجود مَن يستغل القانون ويتحايل عليه، فمن عاش تحت نير الطغاة والحروب يعرف كيف يتحايل على كل شيء، ومن المؤسف القول إن الذين يتحايلون على القانون هم مَن يستطيع أن يوفر مالاً ويساعد أهله وصحبه، وهؤلاء مَن ساهم مساهمة بالغة في تنميط صورة الغرب الثري، وتبيان أن اللجوء يدرّ مالاً وفيراً.
أما قولك بخصوص ما أسميتها لحظة القدوم من مرحلة بدوية مكتظة بالخسارات والطغاة والوصول إلى مناطق حضارية يؤمها المعذبون والأحرار، فاسمح لي أنني لا أتفق معك بخصوص استعمال بدوية وحضارية، هناك إشكالية في استخداماتنا لكلمة "حضارة وحضارية" فحسب التفسير الحديث والعمومي لكلمة حضارة يعتبر رعي الغنم حضارة، والحضارة كل ما يقوم به الإنسان، أما المدنية فيشترط فيها أهم شرطين وهما الكتابة والعمارة، ثم تأتي بقية الشروط التي تميزها، مثل احترام الحريات وحقوق الإنسان عامة واحترام القانون والالتزام به... إلخ، ونحن في الحقيقة انتقلنا من مدنيات واطئة إلى مدنيات راقية، ففي بلداننا الكتابة والعمارة عريقتان، ولكننا نفتقد للإيمان بحقوق الإنسان وحق نقد المقدس والحفر فيه، والنظر إلى الماضي وما خلفه لنا كتراث ومنجز بشري أولاً، أي إسقاط التأليهي عنه، وعدم الخلط بين الكثير من المصطلحات، ابتداءً مما ذكرته بخصوص الحضارة والمدنية مرورًا بالعنصرية وحرية النقد والطائفية وواجب نقضها، وليس انتهاء بالتفريق بين الاحتقار الإنساني وهو مرفوض تمامًا ويجب أن يتم رفضه حتى لطاغية سفاح كصدام حسين، أي أن الإيمان بحقوق الإنسان يحتم علينا أن نؤمن بل ندافع عن حق المجرم والسفاح والطاغية فى أن يتمتع بمحاكمة عادلة ويختار محامي الدفاع عنه وعدم المس بكرامته وإنسانيته وإلا أصبحنا مثله وأسوأ، وأما الاحتقار السياسي فهو مختلف تمامًا على أن لا يلمس إنسانية السياسي المعني ولا يتعرض له أخلاقيًّا واجتماعيًّا، وهذه صعبة التفريق عندنا بل حتى عند الكثيرين ممن رحلوا من بلداننا وسكنوا الغرب منذ عقود، فهم يحملون ضغينة ويخلطون بين السياسي والاجتماعي والأخلاقي والإنساني، ولا يفرقون بين حق الفرد والجماعة بالتعبير عن هويتها وبين ادعاءات كاذبة تسيء للآخرين مثل مقولات الفرقة الناجية حسب تأويل القوميين العرب، ونفط العرب للعرب، وكأن لا وجود لآخرين يشاركوننا في الوطن ولا وجود لأمم أخرى قدمت للمنطقة والبشرية إبداعات خلاقة كالسريان والفرس، أو ما نقرأه من طروحات الفئات الأخرى التي عانت من تسلط القوميين العرب فكانت لهم طروحات مسيئة حقًا مثل "كركوك قدس كردستان" التي تعني أن غير الكُرد غزاة لكركوك، وإصرار دعاة الآشورية أنهم فقط أحفاد وسليلو سومر وأكد وبابل وآشور، في ادعاء مبطن أن غيرهم غزاة، ومحاولات أخرى تدلل على حس وروحية الفرقة الناجية التي طالما رأيتها أُسّ بلائنا.
يومًا بعد يوم يزداد شعوري الإنساني ويتفوق على ما عداه، فأنا متصالح مع المدن وأحبها وأحنّ إليها كما حنيني لبغداد وكربلاء، أحنّ لولنغتن عاصمة نيوزلندا التي عشت فيها ثمانية أعوام، وأحن لكل مدينة وبلدة نيوزلندية زرتها وأتذكر بحنين جارف هيروشيما وحنيني لطوكيو وناره وكيوتو وسواها من مدن اليابان لا يقل عن حنيني لسنغافورة وعمان والقاهرة وبيروت ودمشق واللاذقية وسيدني ومِلبورن وأمستردام ودنهاخ وسيئول والشارقة ودبي وأبوظبي وكوالالمبور ومدن كمبوديا ولاوس وتايلند وفيتنام وسواها من المدن التي مررت بها وزرتها. لم أتخلص من سلوكيات معينة ولكني روضت الكثير من خصوصيات ثقافتي لكي تسع وتعانق بقية الثقافات وتهضمها.
لا أشبه إلا باسم فرات، ولكني لا أنكر معاناتي حين وصولي للأردن وبدء عيشي في نيوزلندا، ولم أتغلب عليها كليًّا الا بتصالحي مع المدن والمحيط ونمو الشعور الإنسانيّ في داخلي. أنا عابر مدن أزرع وردة وذكرى في كل خطوة وأبتسم للجميع حتى لِمَنْ يسيء لي.
40- كيف وجدت طروحات الناقد محمد علي النصراوي في قراءته لشعرك إذ خلص فيها إلى أن غالبية نصوص التسعينيين (وأنت معدود معهم) أكدت اختفاء حاجة الشعر إلى الاستغراق في المعرفة وأنك استبدلت اهتمامك الابستمولوجي منحرفا به نحو تجربتك الحياتية.. فهل تتفق معه؟ وإذا قيل إن لكل شعر ظهيرًا فلسفيًا فكيف توضّح لي الظهير الفلسفي لشعرك؟.
* أحترم كثيرًا ما ذكره الناقد محمد علي النصراوي، وأود أن أوضح بأنني لا أنتمي لجيل معين، فالشعر خلاص فردي، ومجيئي للكتابة دائمًا يكون بدون مرجعيات، وللتوضيح أضرب مثلاً بأبي نؤاس الذي بعد أن حفظ ما حفظ من شعر وقرأ ما قرأ وبعد حصيلة معرفية جيدة، قال له أستاذه خلف الأحمر "انس ما حفظت". وهذا يعني اكتب بنقاء وبالفطرة التي شذبتها بطريقة غير مباشرة. المعرفة وسعة الاطلاع والتجارب، لا أحبذ اقحام الفكر والفلسفة في الشعر، ولكن لو جاءت بشكل تلقائي وعفوي نتيجة هضم خلاّق للقراءات فحتمًا سوف تمنح النص عمقًا يُغبط عليه كاتبه.
القراءات الاحترافية جزء لا يتجزأ من التجربة الحياتية، وهذه حين تظهر بدون استغراق متكلف بل من خلال دمجها في التجربة الحياتية تمنحنا شعرًا كبيرًا إن لم يكن عظيماً، وهنيئًا لمن نجح تمامًا في ذلك. لا انكر أنني أغرف من معين تجاربي، لأني كثير السفر ولا استقرار لي ذهنيًّا وحياتيًّا. أما الظهير الفلسفي، فلستُ شارحًا ولا محللاً لشعري وإيضاح الظهير الفلسفي بل والجمالي هو من مهمة الناقد ولا حق لي أن أتجاوز عمله، فأكون كمن يريد أن يدلل ببضاعته.
41 – في جواب سابق ذكرت أن كل كاتب يحتاج إلى وطن آخر، وطن مثالي، خيالي، شفاف، ملاذ له، وطن يركن إليه حين تتوالى انكساراته، ولكن تاريخ الأدب يذكّرنا دائما أن فكرة (الوطن الآخر أو البديل) لم تكن ضرورية أو متحققة عند مئات أو آلاف الكُتاب والأدباء بل إن العكس كان حاصلاً، أي التمسك بضراوة بالوطن الأم والبقاء فيه والذود عنه ضد مستغليه وطغاته وسافكي خيراته وكراماته، وسآتيك بمثالين اثنين من العرب والعراق: نجيب محفوظ لم يخرج إطلاقًا من وطنه وعاش مع أناسه وأمكنته لأكثر من تسعين عامًا حتى وصل إلى العالمية وجاءته نوبل طائعة وأصبح إبداعه في مرتبة واحدة مع نخبة الآداب العالمية، والثاني هو الأديب العراقي المجّدد محمد خضير الذي لم يغادر بصرته وظل متشبثًا بأرضه ومدينته وجذره برغم كل الانتهاكات والمهازل التي تعرض لها من حكام هذا الوطن لأكثر من ستين عامًا، وكانت حصيلة هذا الموقف أنه أصبح من رواد القصة القصيرة في الوطن العربي وصاحب طريقة في السرد موسومة باسمه.. هنا ألا ترى تعارضًا بين مقولتك عن ضرورة الوطن الآخر والمثالين اللذين ذكرنا؟ وهناك أمثلة نظيرة لم نذكرها؟
* نعم ومازلت أرى ذلك، فاللغة هي الوطن الحقيقي للكاتب الحقيقي، الكاتب الذي كَرّسَ حياته للكتابة، واللغة هي ملاذ نجيب محفوظ ومحمد خضير، مثلما هي ملاذ الآخرين، وقد غرف نجيب محفوظ ببصيرته النافذة من اللغة إن كانت النابضة في صفحات الكتب، أو تلك التي تستنشق الهواء من على ألسنة الناس. مُحمد خضير تتجلى موهبته في التنصت للحيوات المبثوثة في الكتب، فتجربته غرفت من معين هذه الحيوات بالدرجة الأولى، وليس هذا بالأمر الهَيّن فهو دليل على أن مبدعنا الكبير يملك خاصية عجيبة في القراءة، أوَليست القراءة عملية إعادة إنتاج للنص المكتوب!، وهذا يعني أن الرجل قارئ محترف من الطراز النادر. إذا كانت التجربة بالنسبة لي سَفَرًا لا ينتهي، سفرًا في حدائق المعرفة، وهضمها، في الجغرافيات وفي الثقافات، الإنصات للأمكنة، تدريب الحواس على اليقظة والاستنفار، تقطير الحياة اليومية والقراءات والخيال في قارورة عطر ندعوها القصيدة، فتجربة محمد خُضير هي رحيل دائم في المعرفة، لأنه درويش كُتبٍ يحمل كشكوله وهو مستغرق في تصوفه وترحاله وعند كل محطة يستخرج من هذا الكشكول ما قطف من غابات المعرفة ليصوغه لنا إبداعًا مدهشاً، كلنا رأى هذه النباتات والزهور والأعشاب النافعة والأغصان ولكن قلة قليلة مَن لديها القدرة على التقاطها وتحويلها إلى منجز يكون حديث أهل الكلمة ومتصوفة الأدب، وهو ما ينطبق على نجيب محفوظ ومحمد خضير.
هذا هو الوطن البديل والحقيقي للكاتب، وهو لا يتناقض مطلقًا مع الاعتزاز بالوطن المادي الذي ولدنا فيه. الإيمان بالوطن الكتابي هو انفتاح على الإنساني فينا، ونبذ التطرف والتعصب.
كل إنسانيّ هو وطني ولكن ليس كل وطني هو إنسانيّ بالضرورة.
42 – السؤال السابق يهيّئ لي سؤالاً آخر عمن يرى أن مقولات الأدباء المغتربين تلك تطرح هَمًّا جوانيًّا مضخمًا عندهم يظهر في الحوارات ويشع في نصوصهم وكأننا أمام منطق تبريري أو استباقي لتهم لم تنطق ومحاجة لم تدون، بمعنى أن الأمر برمته محض محاولة لتطمين النفس من أسئلة وإشارات قد تلقي اللوم أو حتى الغضب ممن اتخذوا حقائب السفر أوطانًا بديلة عن تلك التي خلفوها ضاجة بالانكسار والفقد والشعور بأن العديد من الأبناء نفضوا أيديهم ومسؤولياتهم عنها وتركوا الجمل ببؤس ما حمل وهي أحوج ما تكون لهم لتخليصها من مخربيها في الداخل والخارج؟ وهل واجهتك مثل هذه الحالة أو المقولات وكيف أعددت أجوبتك؟
* لا يعنيني من يبطن التهم ويجيد كيل الاتهامات، وإن تغيرت مفاهيمي نتيجة للعمر والخبرة والتجربة والاحتكاك بثقافات متعددة، فهذا من صالحي وهو خير من الجمود تحت مسميات شتى وكلها ذرائعية، فمن منا لم يخطئ، بل نحن كتلة أخطاء متحركة، والفرق بين شخص وآخر هو أن البعض يستفيد من أخطائه وأول خطوة يخطوها هي الاعتراف بأنه أخطأ في فترة معينة، فعندما تمر عشرة أعوام على خطأ ما أو سلوك أو تفكير أو رؤية ما ولا نطورها لكي نتجاوزها ويركبنا الغرور بأننا على صواب أزلي، فهذا يعني أننا جامدون. العراق معي أينما ذهبت، ولكن شعوري بكونية الشاعر هو الذي نمّى لديّ الإحساس العميق بالوطن الكتابي، الوطن اللغوي.. الشعري، وهذا الشعور هو الذي عَمّق عندي هذه الحقيقة: العراق وطني نعم وأعتز به، ولكنه ليس خير الأوطان، والعراقي ليس خير البشر، أي أن عَيني الرضا والسخط هنا تعملان بذات الدرجة والمستوى، فلم تعد عين الرضا عن العيوب كليلة وكذا عين السخط لم تعد تبدي المساوئ فقط، بل علمني الوطن الكتابي أن أنظر للأمور نظرة إنسانية، وأن أعتز بكل تلك الثقافات والأقوام والعصور والمعتقدات التي تزاوجت واختلطت وشكلتني.
نقد العيوب والمساوئ التي تستنزف الوطن والأمة والفرد هو الحب الحقيقي للوطن وليس كيل المديح المجاني، على شرط أن لا يكون النقد كُتِبَ بضغينة.
* كلامه ينطبق على الغالبية العظمى، بل هو قاعدة عامة للأسف، ولكنه يتناقض مع تجارب البعض، وربما تجربتي المتواضعة، وليس العيب في ما قاله، ولكن تجارب البعض وربما تجربتي تكاد أن تكون شذوذًا عن القاعدة، فمقابل مئات الأسماء التي سكتت أو هي أقرب للسكوت والصمت منها للإنجاز، هناك مئات أخرى كأن برودة المنافي وغزارة أمطارها وثلوجها أطفأت جمرة الإبداع لديهم، ولم يقاوم ويصِب نجاحًا ويحقق الاستمرارية إلا عشرات وأكاد أزعم أني أحدهم، من حيث الاستمرارية والنشر والتواصل- وليس من حيث جمرة الابداع واتقادها وتوهجها فهذا متروك لحكم الآخر-، ولكن ليس من حقي أن أقرر أنّ مشروعي على تواضعه قد تبلور وحقق شيئًا ذا بال، فأنا أعمل عليه وهو مشروع العمر أنضجه بالموهبة والتجربة والقراءات والتأمل ومحاسبة النفس والتخطيط والاعتناء، ومتى يعطي نتائج؟ لا أدري. وهل النتائج سوف تكون مثمرة وطيبة؟ أجهل ذلك.
26- أرى أن هناك محنة رئيسة هي بمثابة المحرض الأول لمساحة واسعة من تجاربك الشعرية والحياتية وأعني بذلك محنة الموات أو بصورة أدق (التقتيل البشري) ذاك الفعل المباشر للإقصاء والذي أناب نفسه محل الرب للقيام بأدوار القتل بأنواعه وإن كان هناك اختلاف واضح يبرز في أن الأول (أي الرب) يهب الحياة والثاني (البشري) يقطعها، وتظهر مستندات هذه الأزمة في أن أحد أسلافك قد قتل وأرسل رأسه إلى الأستانة ثم أن أباك مات مقتولا في حادثة عائلية غامضة، وربما هناك نماذج أخر من هذا (القتل المتسلسل) في العائلة ينضاف إلى فجائع القتل العام التي هيمنت على تاريخ بلدنا القديم والحديث.. هنا أسألك إن كانت هذه المحنة هي السبب في شرنقة شعرك بخيوط الفقد والتيه واليتم المبكر؟ ثم أليست هي وراء إظهار شعرك منقوعا بالدم؟!.
* مرة وعبر الماسنجر تحدثت مع أديب عربي ممن يرون في صدام حسين رسولاً وملهمًا وبطلاً وكل ما تضخّه المُخيّلة الشرقية من صفات أسطورية على الطغاة والقتلة، مازال الطغاة لم يقتربوا منهم وآلتهم الجهنمية لم تحصد أهلهم، فقلت له إن صدام حسين قتل أهلي وناسي، فما كان منه إلاّ أن اتهمني بالأنانية و"المصلحية" وإلخ قائمة الاتهامات، لأنه انطلق من تفكير أناني بدوي شرقي، ولا يمكن لنماذج كهذه أن تفهم ما نعانيه وأن أهلي هم جميع الضحايا والمهمشين والمضطهدين. نعم أفتقد لكلمة أبي، والموت قتلاً وإعدامًا وتذويبًا بالأسيد أو سواه كان من حصة أهلي وأقاربي بالمفهوم العام، ولكن العامل الإنساني والوطني هو ما يرفع ضحايا العنف ومفهوم الفرقة الناجية، وإطاعة أولي الأمر وكل ضحايا الأيديولوجيات إلى مصاف أبي وأبناء عمومتي، ضحايا الفرقة الناجية هم أهلي وأنا أنتمي لكل مطرود من جنة الفرقة الناجية.
يُخيّل إليّ أن محنتي هي محنة الوطن نفسه، لأن محن الناس هي مجموع محنة الوطن، وما مررت به مرّ به ملايين العراقيين، فكل عراقي محنته هي ذاتها محنة الوطن، ولا تَنْسَ أنني ولدت وآبائي في مدينة كربلاء حتى تركت العراق وأنا في السادسة والعشرين من العمر، وبحكم موقع بيتنا في وسط مركز المدينة وموقع عملي، كنتُ على اطلاع مباشر على آلاف الجنائز التي تصل المدينة في طريقها لمستقرها الأخير في وادي السلام في النجف، وهو مما شكلَ وعيي وحفر عميقًا في ذاكرتي بل وفي عقلي الباطن، خصوصًا وأن الكثير من هذه التوابيت ليس خلفها سوى رجل عجوز وامرأة أو عدة أشخاص مما يعني أن الجدث المسجى في التابوت من المغضوب عليهم من قبل النظام، أي معدوماً، ولأني مدمن قراءة لتاريخ العراق فقد هَيمنت هذه المحمولات على شعري زمنًا طويلاً، وشرنقته بخيوط الفقد والتيه واليتم المبكر والحرمان الذي لن تقضي عليه كل سعادات العالم، ومن ثم كانت وراء إظهاره منقوعًا بالدم ومثقلاً بالأسى بل هو شعر فجائعي، وحديثي عما بين دفتي ديواني "إلى لغة الضوء"، لأنَّ ما بعده يختلف قليلاً أو كثيراً.
وأد للبلاد وللعباد
27- السؤال السابق أعاد إليّ سؤالا قديما يتعلق بأسباب هبوط مؤشر التعداد السكاني للعراق وكيف أنه في عهد العباسيين بلغ أكثر من أربعين مليونا ولكنه تراجع إلى أقل من أربعة ملايين في أوائل القرن العشرين.. كقارئ للتاريخ إلى ماذا تعزو هذا التناقص المخيف في عدد سكان العراق عبر مراحل التاريخ؟ وهل ترى أن قوى خارجية أم داخلية كانت كامنة خلف هذا الوأد التاريخي لسكان العراق؟
* قبل الإجابة على سؤالك أود أن أشير إلى أن نفوس العراق قد بلغت نهاية القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر المليون أو أكثر قليلا.
أرى أن القوى الخارجية لعبت دورًا تدميرياً، لأن هذه القوى وإن سيطرت على العراق وحكمته فهي في كثير من الأحيان بقيت غريبة عنه ولم تندمج فيه وتنصهر في ثقافته بعد، وحين تنصهر تكون قوى خارجية أخرى قد نزحت وأبلت بلاء موجعًا في القتل والتدمير.
والقتل والتدمير أنواع عديدة، فعدم الاعتناء بالأنهار والمجاري والسواقي والحقول والنظافة وتأمين الطرق وفرض القانون واستتباب الأمن، أو بكلمة أخرى، عدم قيام الدولة بواجباتها، ينتج عنه وأد للبلاد وللعباد كما يقال. أما القوى الداخلية فهي وإن كانت في جوهرها خارجية لأنها حديثة العهد في استيطانها ولكنها مازالت تعيش على هامش مدنيته، وهذه لعبت دورًا أيضًا في الدمار، ثم كانت الأوبئة وانتشار الأمية، مما يعني زيادة مهولة بالوفيات أمام الولادات.
مَن يقرأ تاريخ العراق وهو يجهل تواريخ الدول والأمم الأخرى سوف يظن جهلاً أن تاريخه دمويّ، ولكن الحقيقة أن الأمم كلها عانت مما عاناه العراق، ومنها مازال يئن تحت وابل عقلية القرون الوسطى والبداوة كما العراق للأسف الشديد، ومنها مَن تخلصَ وراح يغذ الخطى نحو دولة المواطنة التي تفرغ غضبها وبداوتها ومراهقتها البشرية بل وحيوانيتها تحت قبة مجلس النواب وعلى مكاتب الإعلام وليس بكاتم الصوت والمتفجرات والعنف مهما كان بسيطاً.
28- لكثير من أدباء وشعراء العالم مدنهم الأسطورية أو التي أسطروها عبر كتبهم ونصوصهم فتخلدت من بعدهم كما تخلدوا كخالقين أو مؤسسيين لها. ومن أقرب الأمثلة:
السياب (في جيكور وبويب) والطيب صالح (في دومة ود حامد) وماركيز (في ماكاندو) وسوى ذلك كثير مما لا تسعفني به الذاكرة الآن.. أود أن تكشف لي إن كنت نجحت حتى الآن في تأسيس مدينة أو أثر أسطوري موسوم باسمك؟ أم تراك اكتفيت بأسطرة مدن قائمة مثل كربلاء؟ وهل تخطط لتأسيس خطط أسطورية أو يوتوبية فاضلة تكون خلاصًا من كل هذا الدنس؟.
* ما يهمني هو الشعر في كل ما أكتب، ولكني لم أتعامل قط مع المدن والأمكنة والشخصيات تعاملاً واقعيًّا، حتمًا يكون التعامل شعريًّا مؤسطراً، ولأني كما ذكرت مرارًا لا ضغينة لي مع كل المدن التي عشت فيها وزرتها، فتعاملي هو تصالحي جمالي.
كان السيّاب ذكيًّا جدًّا بل عبقريًّا حين لم يكتب عن دجلة والفرات، وإنما كتب عن نهير صغير أو جدول بسيط في قريته له معه وشائج قربى ليخلق أسطورته الخاصة، فمهما كتب عن دجلة والفرات فلن يفهما حقهما ويتطلب منه ذلك موسوعية هائلة بتاريخ العراق، وخطاب شعري لم يسبقه إليه أحد، بينما "بويب" موضوعة بكر لم يطرقها أحد، وكثيرًا ما قلت مع نفسي مخاطبًا السياب: لا شك أن عبقريتك قادتك إلى خلق أسطورة بويبك هذا، وهو أقرب إليك من دجلة والفرات لأنه ملعب الطفولة وموقد البراءة وكاتم أسرار أحلامها، ولكني ترعرعت في مدينة هي أشهر من نار على علم، مدينة حُبّرَت آلاف الصفحات عنها وعن نهرها الذي هو قناة وتسميتها بالنهر مجازية، مئات الملايين من البشر يعرفون مدينتي وشيئًا مهمًّا عن تاريخها، ولكن في المقابل تكاد تكون جيكورك وبُوَيْبك مجهولين عند عامة الشعراء والأدباء إن لم يكن عامة الناس أيضاً، أنت كتبت يا مُعلم عن شيء مجهول وجديد وبكر، فكنت عبقريًّا لأنك حولت قريتك ونهيرها إلى أسطورتين تاه عشاق شعرك في جنائنها وغرقوا في بويبها، فما الذي سأكتبه أنا وما الذي سأضيفه.
أمام كل ما ذكرته أعلاه، فأني أرى أن أفضل طريقة للخلاص من هذا الدنس والخراب هو بأسطرة النص ذاته، واعتبار الإبداع هو الطريق إلى المدينة الفاضلة والتي هي بالنسبة لي القصيدة لا غير.
أساس المأساة العراقية
29- لم أع تماما قولك إن ضعف الشخصية العراقية هو نتاج وقوع العراقي بين بداوتين جبلية وسهلية مما استولد عنفا جبلت عليه هذه الشخصية. ألا ترى أن هذه المقولة بحاجة إلى إضاءة أكثر؟ وهل تراك بقولك هذا ترجّح الرأي الشائع من أن أساس المأساة العراقية يعود لأسباب جغرافية محض؟
* ضعف الشخصية العراقية واضح تمامًا بالنسبة لي، فليس من القوة أن تتخلَّى عن لهجتك وتذوب سريعًا في المجتمع الجديد، مازال هذا المجتمع خارج وطنك، ولكنك تتمسك بشكل متطرف بجذورك حين تنتقل من مدينة إلى أخرى أو من الريف إلى المدينة، الصراع المزمن بين بداوتي السهل والجبل، ووقوع المراكز الحضرية بينهما أدى إلى توتر وارتباك نزق في الشخصية العراقية، فهي شخصية موتورة ضعفها واضح من خلال استخدام العنف كردّ فعلٍ وحيد، واعتبار امتصاص رأي الآخرين وخصوصًا الناقد والمختلف والمعارض دليل ضعف ورخاوة في الشخصية، تَرى في التهذيب عيبًا، بل ليس من الرجولة، أو هو دليل على عدم قوة الشخصية، وإذا انتقلنا للوسط الأدبي، فسوف نلاحظ ذلك واضحًا من خلال أقوال عمومية عصابية تردد مثل "إن الشعر لعراقيّ" ولكن في ذات الوقت تم تهميش مجموعة من الشعراء يتقدمهم أحد أهم شعراء العربية، ونفس الشيء تكرر مراراً، في كتب المختارات وسواها. يقف الشاعر العراقي متباهيا ومتبخترًا بأحقية الشعر العراقي أن يكون في طليعة الشعرية العربية، ولكنه حين يأتي للتفاصيل لا يذكر سوى اسمه وربما بضعة أسماء أخرى، لاغيًا هذا العدد الهائل من الشعراء.
أخبرتني أديبة عربية تعمل في مجال الإعلام في الخليج، قائلة: حين كثرت أعداد الأدباء والإعلاميين العراقيين في البلد الذي تعمل فيه، اندهش الجميع بإمكانياتهم، وتبوأوا مراكز مهمة، ولكنهم بدأوا يحفرون لبعضهم بعضاً، ويستخفّ بعضهم ببعض حد التهميش أمام الخليجيين، مما اضطر الخليجيين إلى التخلص منهم راحة للبال من هذا المشهد غير المفهوم والغريب عليهم، وجلب إعلاميين من بلد عربي آخر معروف بالتعاضد رغم أنهم كانوا أقل من مستوى العراقيين على حد قول الإعلامية العربية، ولكن الخليجيين اشتروا راحة بالهم. هذه القصة لها مغزى كبير وهي تدلل على ضعف بالشخصية، الشخصية القوية تعشق المنافسة وتثني على الآخرين، وتبرزهم لأن إبراز الآخرين والثناء عليهم هو ثناء على النفس وإبرازها، فكيف وصلت هذه الشخصية وحققت حضورًا وسط كل هذا العدد من المبدعين لو لم تكن مبدعة خلاقة؟ هكذا سوف يتساءل المستمعون للشخصية القوية وهي تشيد بالآخرين.
مأساة العراق تكمن في أشياء عديدة وليس في أمر واحد، نحن تنقصنا مراكز دراسات عملاقة لطرح العديد من الأسئلة والتي منها هذا السؤال: لماذا حدث الذي حدث، وكيف نتجنب ما حدث وما يحدث، وما هي الوسائل الناجعة لعدم تكرار ما حدث ويحدث؟، العراق بحاجة لفترة زمنية كافية من السلم الأهلي، وترسيخ مفهوم المجتمع المدني، وبناء مفهوم الشراكة مفهومًا علميًّا إنسانيًّا، والاعتذار للشعب العراقي على مقولات كثيرة منها: العراق وطن اصطنعه الإنكليز، والعرب والأكراد شركاء في الوطن أو العراق يتكون من العرب والأكراد وبقية الأقليات، لأن من أبسط قواعد الدولة الحديثة أنها تؤمن بالمواطنة التامة، فكيف تكون مواطنة تامة ويتميز العرب فيها أو يتميز العرب والأكراد فيها، بينما القانون الأساسيّ (كلمة الدستور غير علمية) للدولة العراقية زمن العهد الملكي الذي يطلقون عليه بالمباد، كان النص واضحًا بإنسانيته عندما ذكر "العراق يتكون من العراقيين" وكذا الحال بالنسبة للثقافة بصورة عامة، فيجب الاعتذار للشعراء العراقيين الذين كتبوا بغير اللغة العربية، وتم إعداد الأنطلوجيات الشعرية الكثيرة خالية منهم، وما ينطبق على الشعراء ينطبق على الأدباء والفنانين والفنون والطبخ، أي بصريح العبارة يجب الاعتذار لكل فئة تم تهميشها ليس من قبل الحكومات فقط بل ومن قبل الكُتّاب أنفسهم، فالمطبخ العراقي يجب أن يشمل كل المدن والقرى والبلدات العراقية ولا يقتصر على المدن الكبرى والعراق الناطق بالعربية، وكذلك الفن العراقي والأزياء العراقية والموسيقى والتراث الشعبي.... إلخ.
أساس المأساة العراقية قائمة على الأحادية، وهي ضمن ثقافة الفرقة الناجية، وأمير الشعراء والشاعر الأوحد، فما قيمة أن تدعي الدفاع عن فئة عراقية ما وتتباهى بذلك ولكنك تصمت عن بقية الطيف العراقي، أليست هذه أحادية تسبب مأساة، وكيف نحارب فكرًا قوميًّا ما ونصمت بل وندافع عن حركة أو حركات قومية أخرى تستمد فكرها وبرنامجها السياسي من نفس الثقاقة والمنظومة المعرفية القائمة على تضخيم الهوية الذاتية وتقزيم بقية الهويات أو تحويلها إلى تابع يدور في فلكها، ونلعن حزبًا أو أحزابًا عابرة للوطنية وتستمد دعمها من أنظمة خارجية ونسكت عن أخرى تفعل أو فعلت ذات الشيء، هذه أحادية تطيل أمد المأساة، أحادية يجب محاربتها في كل المجالات، في الشعر مثلما في السياسة، في الأدب مثلما في الفن، في الدين مثلما في التراث، في الجنس مثلما في الحرية، أعني أننا ندعو إلى حرية المرأة وحقوقها ولكننا نصر على حجابها واعتبارها عورة وأنها ناقصة عقل ودين، فهذه أحادية أي بمعنى الانتصار للرجل وتقزيم المرأة والأنوثة واعتبارها تابعًا في فلك الذكورة.
30- صحيح تماما أن العراق أنجب أجيالا هائلة من الشعراء والأدباء والفنانين ولكنه صحيح أيضًا أصبح حضنا طاردًا لتلك الأجيال، بمعنى أن رحم هذه البلاد الولود يقوم بفعل مضاد للولادة، أي النبذ ودفع الشعراء والأدباء والفنانين صوب المنافي، حتى ليمكن القول استنادا إلى براهين أننا إزاء معادلة متوازنة: طرفها الأول ولود والثاني مقصي.. كيف تنظر أنت لهذا المشكل الراهن والتاريخي؟!.
* أنتَ قلتها، أصبحَ، أي أن العراق لم يكن هكذا، بل أؤكد لك أن العراق كان وعلى مدى آلاف الأعوام، بلدًا مستقطبًا وحاضنًا للأقوام، وهو ما نلمسه في سحنات أبنائه وفي المفردات التي تستحوذ على كل لغاته، من تشابك وتزاوج، بل الأمر يصل إلى تشابك في العقائد.
تاريخيًّا لم يكن العراق طارداً، ولكن راهنًا نعم، لأنه حين يخرج العسكر ذوو الخلفيات البدوية والريفية من ثكناتهم فماذا نتوقع غير نبذ الفنان والمبدع إن لم يتحول إلى بوق لأوهامهم المريضة.
لقد تم ترييف المجتمع العراقي وعسكرته وبدونته، وانتعشت منظومة الفرقة الناجية وثقافتها، وهو ما نلاحظه حتى عند الذين ادعوا مناهضتهم لنظام صدام حسين وهم في الحقيقة نازعوه السلطة، لأن مَن يعارض عليه أن يأتي بمشروع مختلف، قائم على الإيمان بحقوق الإنسان وقدسية الوطن والمواطن في ذات الآن، حيث إن منازعي صدام السلطة أوهمونا بأكذوبة حق تقرير المصير وعدم قدسية الأوطان، ولكنهم دعوا لأوطان شوفينية عنصرية إلغائية إقصائية، بل لم يكتفوا بهذا، واعتبروا أنفسهم أهل الثقافة والإبداع والوعي والحق وسواهم دون ذلك بكثير، ومما يؤسف له أن هذه الحالة تفاقمت في السنوات الأخيرة.
العراق فعلا الرحم الولود ولن يخلو يومًا من المبدعين والكفاءات، ولكي نوقف عجلة الهجرة وإعادة العراق إلى ما كان عليه على مدى القرون بأنه الحضن المستقبل والمستقطب، علينا معالجة العقلية والمنظومة التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه، فمما يؤسف له أن نسبة كبيرة ممن خرجوا مبكرًا ورغم سنوات النفي الطويلة والاحتكاك بمجتمعات مدنية لم يتعلموا أن جميع الفرق ناجية، وأن الأحادية قاتلة ونجاح المجتمعات في تنوعها الجميل وشراكتها العادلة، وهو ما يتطلب أن نؤمن بوحدة الوطن العراقي وتنوعه ونرفض تقزيم أي فئة فيه أو الانتصار لفئة دون أخرى.
لقد واجه الكثير منا نحن الذين خرجنا في التسعينات، عند مَن خرجوا قبلنا بسنوات تقارب العقد أو تزيد، غرورًا وعجرفة ونظرة استعلائية ووصاية على الثقافة والإبداع والوعي والجمال والوطنية لا تختلف عند النظام الذي تركنا وطننا ودفء العائلة وحضن أمهاتنا بسببه.
لديَّ أمل كبير أن العراق سوف يتعافى تمامًا وسوف يعود بلدًا مستقطبًا للكفاءات والأدمغة والمواهب، ولكن هذا يحتاج إلى وقت أولاً، وثانيًا وضع الخطط والدراسات والبحوث عن أسس مشاكلنا ونزواتنا ومنظومتنا المعرفية وأنساقنا الثقافية لنتخلص من الأحادية والفرقة الناجية وثقافة الإشاعة وروحية الإقصاء للآخر، وضعف شخصيتنا الذي ولّدَ عنفها.
وأخيرًا أختم جوابي بما ذكره المؤرخ البريطاني الشهير أرنولد توينبي في كتابه "البشرية والأرض الأم" (ص 128) لما فيه من مغزى: "بالرغم من الحروب والصراعات القديمة بين الممالك العراقية عندما تنتهى واحدتها وتبدأ حياة ثانيتها فإن العراقيين كانوا يعاملون بعضهم بعضًا بمنتهى الاحترام والكياسة باعتبارهم أصحاب وطن واحد هو موطن المدنية المشتركة".
31- كان جل همك -حسب جواب سابق- في هذا الكون على المستوى الشخصي هو كتابة قصيدة خالصة.. ترى ما طبيعة هذه القصيدة وما مواصفاتها؟ أتراك وضعتها ضمن حدود أم أطلقتها خارج المحددات؟ ثم هل تعني مفردة (خالصة) أن تكون موسومة بك ودالة على انشغالاتك؟
* هي خارج المواصفات، وإلا كتبتُها وانتهيت منها، قصيدة هي ضبابية في مخيلتي، وما أعرفه عنها أنها لا يمكن إزاحة مفردة واحدة أو إبدال حرف واحد فيها، قصيدة تحوي الدهشة والمتعة، ومفتوحة على تأويلات لا حصر لها، لا يملّ من قراءتها، حيث الجديد في كل قراءة، فيها نسبة الشعر مئة بالمئة، كل شاعر يقرؤها يتمنى أن يكون كاتبها، والناقد الذي يدرسها ويكتب عنها اليوم يجد فيها شيئًا جديدًا في القراءة القادمة. قصيدة أراها من بعيد وألهث خلفها وأسطرها على الورق ظنًّا مني أنها المبتغاة، ولكني بعد الكتابة بفترة وجيزة يخيب ظني وأكتشف عدم نَيلي لها فأعاود الكرّة مرة أخرى وهكذا دواليك.
32- اتصالا بالسؤال السابق هل أحصل منك على تخريجة واضحة تشي بالمتحقق الفعلي من ذلك الهم الشخصي (وهو إبداعي شعري في المآل النهائي)؟ بكلمة أخرى: كيف تجد ما تحقق شعريًّا بعد عقدين شعريين وأربع مجموعات منشورة في أكثر من لغة؟ وهل رضيت الأنا الشاعرة بالحصيلة قياسا بحلم القصيدة الخالصة؟
* مازلت أرى نفسي في بداية الطريق، لأن طريق الشعر طويلة بل وأطول مما نتصور، لا أظن أن عقدين كافيان لتحقيق شيء ما في الشعر، لأن الشعر لعظمته هو أصعب من أن يصنف ويُقَعّد، وكل مُصنف ومُقَعّد محدود بطبيعة الحال، فكيف بالشعر الذي يحتاج إلى تكريس تامٍ وعقود من العمل الدؤوب والانصراف الكلي، الشعر يشبه الرهبنة، والشاعر إن لم يكن راهبًا في ملكوت الشعر لا يستحق مباركة الشعر ذاته. أكاد أتفق مع الشاعر خزعل الماجدي حين صَنّفَ الشعر على أنه قائم بذاته، فهو ليس من الأدب وإنما هو شعر وكفى، وأقول الشاعر الماجدي وأبعد عنه كلمة الباحث، لأني أتفق معه على أن الشاعر يجب أن يكون قارئًا كبيراً، والقارئ الكبير ليس شرطًا أن يكون نهمًا بالقراءة، بل أن تكون قراءته احترافية ويكون منتجًا موازيًا لمؤلف المقروء، وأن يكون مثقفًا كبيراً، وأهم صفات المثقف سعة الاطلاع واحترافية القراءة، والخروج على المجموع.
الرضا عن الشيء هو قتلٌ له وإلغاء الأنا الشاعرة هو حين تَقنع بما حققتْ وصارت مسالمة للمنجز، لم أرض عما كتبت وأرى نفسي كثير التقصير.
لا أعرف شيئًا إلا كتابة الشعر
33- من المؤكد أنك قرأت وتابعت كثيرا من التجارب الشعرية التي وضعها شعراء سابقون أو مجايلون لك وكيف أنهم وسموا مرحلتهم ببصمات خاصة تدل عليهم وتستدل بهم: الراحل رعد عبد القادر ومشروع (الجملة الشعرية)، خزعل الماجدي و(قصيدة الصورة)، فاضل العزاوي و(القصيدة الكونكريتية)، حسب الشيخ جعفر و(القصيدة المدوّرة) ومشتاق عباس معن و(القصيدة الرقمية التفاعلية) وسوى ذلك من تجارب وأسماء لا تسعفني بها الذاكرة الآن.. هنا أسالك إن كانت ثمة تجربة نظيرة أسستها وأطلقتها في المنطقة الشعرية العراقية والعربية توصف بها وتوصف بك لها عنوان وخواص ذاتية يمكن عدها كمشروع خاص ولا يذكر إلا بك؟
* مازلت أعمل على مشروعي الخاص، ومحاولة إيجاد هويتي ومنطقتي الشعرية الخاصة، وما كتبه وحققه سواي أغبطهم عليه، ولكن يبقى لكل مشروع سماته وتأويلاته، فإن كان متعدد القراءات ليس بالنسبة للآخرين، وإنما هل هو متعدد القراءات لي أنا بالذات كقارئ، وهل أجد متعة في ما كتبه غيري حين العودة مرة ثانية وثالثة ورابعة وخامسة لنفس النص وذات التجربة. لابدّ من التأكيد على أنني لا أجيد التنظير وأجده مهمة الناقد لا مهمتي، لأني أكتب والقراءة تحدد ما إذا كان ما كتبته يعدّ شعرًا أو شعرًا يقترب من القصيدة بهذه الدرجة أو تلك، وكم كمية الشعر فيما أكتب، ومن ثم تحديد هل مجموع هذه الكتابة من الممكن عدها مشروعًا متفردًا أم لا. ويمكن أن أجمل لك الجواب بقولي: إنني لا أعرف شيئًا إلاّ كتابة الشعر وهو همّي الأكبر الذي شغلني حين كنت في الابتدائية حين كنتُ أبتاع جريدة طريق الشعب لصديق والدي الذي كنت أعمل عنده في حينها، وسمعتهم يتلون شيئًا هزني بل قل مسني، فرحتُ أحاول قراءة الجريدة حين أشتريها وأنا في طريق العودة للمحل الذي أعمل فيه، ومنها صار الشعر ديدني قراءة وكتابة وحلمًا ومشروع حياة.
34- لسارتر رؤية معروفة يقول فيها (إن المضمون الجديد يحتاج إلى شكل جديد) فهل وصلتك هذه الرؤية أو أثارت انتباهك لمغزاها؟ وهل تحمّست كرياتك التجديدية الكامنة في غريزتك الشعرية طوال رحلة الجلجلة؟.
* لولا إيماني بالتجديد وعدم الركون للمتحقق لظلت خطاي تجوب أزقة كربلاء، ومخيلتي مفعمة بما يتناوله صحبي، ولكن شعوري الحاد بضرورة التجديد وعدم الركون للمتحقق بما في ذلك منجزي على تواضعه، هو الذي جعلني أحاول أن اكتب في مواضيع مختلفة ويكون ديدني التجاوز، وأولهم تجاوز باسم فرات نفسه وعدم الوثوق بما يكتب وما أنجز.
فمن نصوص ذات نكهة كربلائية إلى نصوص ذات نكهة عراقية وحضور واضح لمفردات الفرات ودجلة وبغداد وبابل والسومري وأور وآشور إلى حضور الحنين والشعور الحاد بالغربة وكوابيس لا تفارقنا نتيجة رعب النظام الشمولي، إلى حضور العائلة بشكل كبير وخصوصًا في "أبي" "أنا" "أنا ثانيةً" وسواها، ثم تغلغل الأمكنة والثقافات الجديدة من خلال "جبل تَرَناكي" "شيء ما عنك.. شيءٌ ما عني" "هيروشيما ومدنٌ أخرى" "قلعة هيروشيما" "مدرسة الموت" "نهر ميكون" "تقريظ باشو" "متحف السلام في هيروشيما" "عن الغريب الذي صار واحدًا منهم" وسواها من النصوص.
35- ذكرت أثناء هذا الحوار أنه تم ترييف المجتمع العراقي وعسكرته وبدونته، وانتعشت منظومة الفرقة الناجية وثقافتها.. هل أستطيع انطلاقا من هذا التسويغ أن أفهم الآن لماذا شاعت النظرة الدونية التي يتعامل بها حكام العراق القدامى والجدد مع العلوم والثقافات وأساليب التحديث والحضارة حتى تحولت البلاد إلى صورة كهف دخيل على منظومة الألفية الثالثة؟!.
* منظومة الفرقة الناجية هي السبب الرئيسي فيما آلت إليه الأمور، فكل فئة (بدوية، ريفية، دينية، مذهبية، أيديولوجية) تَدخل البلد في نكبات وتسفك الدماء من أجل تحويل الشعب بتاريخه العتيد وتنوعه الجميل إلى فئتها دون الرضوخ إلى مفهوم الدولة الذي يعني أن السلطة حامية للوطن وللمواطن على حد سواء، وأنها فوق الميول والاتجاهات، هناك مَن يرى أن الجميع أهون من الفئة الدينية والمذهبية، لأنهما يخرجان الفئات الأخرى من الحياة وليس من الحكم والمشاركة الفاعلة في الوطن، ولكن ألم تخرجنا هيجانات القوميين واليساريين من الحياة أيضًا؟ وما ضحايا العنف منذ الرابع عشر من تموز 1958 ولغاية الآن إلا الدليل على أن الجميع سواء، لأنهم رضعوا مفهوم الفرقة الناجية.
ألم تزرع هذه المنظومة الكراهية في نفوس الغالبية العظمى، حتى صار كل واحد فينا هو العالم والفيلسوف والمفكر والضحية ويكثر من دموع المظلومية التي استخدمت من قبل الجميع بشكل مقزز وفتاك بالمجتمع وبناه كافة.
تخلصنا من الفرقة الناجية يجعلنا نؤمن أن الحقيقة كالكرة يراها الجميع كل من زاوية نظره، وبهذا يصبح ضروريًّا وفاعلاً وجود الاختلاف اللغوي والديني والمذهبي والعقائدي والسياسي بل والثقافي، لأن الاختلاف والنزاع السلمي هو ما ينمي المجتمع ويطوره ويوصله إلى مصاف المجتمعات المتطورة ودولة المواطنة التي يكون فيها الجميع أغلبية وترفض مفهوم الأقليات ونظامها سيئ الذكر، وتكون الدولة حامية للجميع ولا تنتصر إلا للحق، بحيث لا يتم جلب رئيس الدولة أو رئيس الورزاء فقط للمحكمة إن اقتضى الأمر، بل أكبر مرجعية روحية أيضًا لأن دولة المواطنة فيها القانون المبني حتمًا على ضوء حقوق الإنسان هو المرجع الأعلى.
نقد البنى الدينية (المقدس) والاجتماعية والأنسنية (أنثروبولوجي) هو أقصر الطرق للحداثة واللحاق بركب الأمم المَدَنية.
36- أعجبتني كثيرا قصيدتك الأخيرة التي نشرتها في صحيفة (الصباح) البغدادية تحت عنوان ملتبس هو (وطن جديد) وأول ما يلفت فيه هو هذه اللاتعريفية والتنكير المقصود وكأنك حشرت الوطن المكتوب عنه في السديم السحيق.. ما الحافز الذي لبد في لا شعورك وكان سببًا لانزياح القصيدة على الورق؟ وهل أستطيع كقارئ أن أصل القصيدة بالوطن الأوربي أم الآسيوي أم ذاك الناتئ في الذاكرة المفجوعة؟
* كنتُ أسير في شوارع العاصمة اللاوسية (فِيَنْجان) وبين حاراتها وقراها وفي أسواقها ودروبها غير المبلطة جيداً، وأقارن بين العراق وبينها، ورحت أتذكر ادعاءات الكثير من اللاجئين بخصوص المنافي وكيف نقلهم لصورة غير حقيقية تماماً، أوحى لكل واحد فينا أن بلدان اللجوء فيها من الطيبات ما لا يعد ولا يحصى أي أنها جنان بكل ما في الكلمة من معنى، وكأنها عبارة عن شلالات ومتنزهات وحدائق غناء مليئة بالحسان الشقراوات اللواتي ينتظرن اللاجئ عند المطار ليتشرفن بتحولهن إلى جوارٍ لديه، وأن لك مطلق الحرية في ما تقول وتفعل وكأنه لا ضوابط ولا وأعراف ولا وقوانين، وقد تذكرت رسائل ومكالمات البعض لنا ونحن في عمّان حيث أحاديثهم لا تخرج عن الجنس وكيف أنهم خصصوا ستة ليالٍ في الأسبوع كل يوم لشقراء مختلفة، وأما الليلة السابعة فهي لقضائها كل مرة مع امرأة مختلفة، وعن أولئك الذين حين يتصل بهم صديق من بلدان الشرق والفقر يخبرونه أن يعطيهم رقم الهاتف وسوف يتصلون به بعد دقائق، لأكتشف حين وصولي لنيوزلندا أنهم يذهبون إلى أقرب هاتف عمومي ويقومون بالاتصال منه بطريقة مناقضة للقانون أي سرقة تامة، وتذكرت الكثير مما سمعته حين كنت في العراق وفي الأردن، بل اكتشفت الهالة والأسطرة التي وضعها البعض لبلدان اللجوء وللمنافي عموماً، والتي لا ينكر ما لها من حسنات، بل وكيف أن الحنين يحتل كل شبر في نفوس هؤلاء حين ينفردون بأنفسهم، فكانت قصيدة "وطنٌ جديدٌ" التي وجدتني أرددها كاملة قبل الكتابة، بل بقيت لفترة أنساها حين أكون في البيت، وأجدني أرددها وأنا خارج المنزل، وبقيت فترة على هذا المنوال وسافرت إلى كمبوديا وسنغافورة وماليزيا وحين عدت دونت القصيدة.
قصيدة "وطن جديد"
37- القصيدة فيها مونولوج مؤثر وانثيال صور ومحطات وحفر في الفاقد لمقارنة (الهنا) بـ (الهناك) بشكل يفضح التصادم المستعر في داخلك بين عالم مرئي بهيج وآخر يستدعى من ذاكرة منقوعة بالفقد والموات.. أكنت تبعث رسالة ما وأنت تحرص على نشر هذه القصيدة تحديدا في صحافة بغداد مع كثرة آفاق النشر المتيسرة أمامك لنشرها بعيدا عنها؟.
* أحيانًا نتصرف بعفوية ونتيجة تصرفنا تكون رائعة وعميقة، ونشري لهذه القصيدة في صحيفة الصباح البغدادية، كان يهمني وإن جاء بعفوية في ذات الوقت، لأن الصديق الشاعر باقر صاحب دعاني أكثر من مرة للنشر في الصباح وأحرجني بكرمه ونبله ودماثة خلقه وأشعرني أنه فعلاً مخلص لعمله لأنه يحبه ولا يرجو منفعة منه، فقمت باختيار هذا النص عفويًّا، ولكن بعد أن أرسلته شعرت بمدى أهمية نشره في بغداد، لأنه يُبين حقيقة المنافي التي وصلتنا صورة مُرَتّشَة ومُلَمَّعَة بحيث أسقطت جميع الندوب والحفر والتجاعيد عنها، صورة المنافي أنها امرأة في الخمسين لم تشهد حروبًا في نصف قرنها الذي عاشتها، وفيها حيوية وأنوثة من لم تر آلام الطغاة وحماقاتهم وحروبهم، ولكن مَن نقل لنا الصورة رتشها لتكون فتاة لم تبلغ العشرين بعد، رسمها لنا كما اقتضت مخيلته واستمناءه، وليس كما تقتضي الحقيقة.
38- قال الشاعر العراقي عادل عبد الله - في حوار أخير منشور- ((إن النقد العراقي موغل في تخلفه، وطاعن في أيديولوجيته، ومسرف في مجاملاته))، وهناك أصوات أدبية كثيرة في العراق تردد مثل هذه الاتهامات ضد النقد العراقي حتى إن الراحل يوسف الصائغ ذكر لي أنه ليس هناك نقد ولا نقاد في العراق.. كيف تحدد أنت الموقف من النقد قياسًا إلى تجربتك الشخصية وكيف تقّيم مستوى التلقّي النقدي لنصوصك الشعرية؟.
* تبقى لكل إنسان نظرته للنقد والنقاد، وبعض الآراء فيها نسبة صواب وأخرى متطرفة تمامًا في ما تطرح، فجملة "ليس هناك نقد ولا نقاد" جملة إلغائية تماماً، وهذا خارج المنطق، فمثلما هناك أعداد هائلة ممن يكتبون وهم دون المستوى المطلوب، شعراء وأدباء وكتاباً، ثمة نقاد لم يرتفعوا لمهمة النقد حقًّا، ولكن تبقى لدينا أسماء منيرة فعلاً، وأنا مدين للنقد وللنقاد بصورة كبيرة، أقول بصورة كبيرة لأني مدين للجميع في مواصلتي الكتابة والاستمرار في مشروعي الشعري المتواضع، لولا النقاد لما تمكنت من تجاوز أشدّ الهديل وخريف المآذن، وبفضل النقاد وجميع مَن كتب عني وتناول تجربتي، الذين أشعلوا فيّ روح الإصرار والتحدي، تجاوزت الكثير مما كتبته في أنا ثانيةً كذلك، وما نصوص ما بعد أنا ثانيةً وإن كانت تبدأ من قصيدة "الساموراي" التي نشرت كآخر نص في مجموعتي "أنا ثانيةً" إلا دليل على أثر الكتابات في تطوري.
لا شكّ أن ليس جميع الكتابات في مستوى واحد، بل هناك تفاوت واضح بين دراسة وأخرى، ولكن يبقى الجميع لهم فضل الكتابة عني.
أنا متصالح مع المدن
39- كأي واحد عاش (صدمة مرضى إرهاب أنظمة شمولية وجاء للعيش في ضفاف الحرية) كيف تلقيت واستوعبت تلك الصدمة وتعاملت مع آثارها؟ وهل تراك عانيت بعض ما عاناه (مصطفى سعيد) بطل رواية موسم الهجرة.. للطيب صالح أو بطل يحيى حقي في (قنديل أم هاشم) في لحظة القدوم من مرحلة بدوية مكتظة بالخسارات والطغاة والوصول إلى مناطق حضارية يؤمها المعذبون والأحرار؟ وهل نستطيع القول إنك ما زلت للآن في ظلال تلك اللحظة لكونها تمثل مطهّرا أم تراك تركتها خلفك زمنيا؟.
* لا وجود لشخص ينتقل من بلد إلى آخر مختلف، إلا وأصيب بالصدمة الثقافية (الصدمة الحضارية مصطلح غير دقيق) وتتفاقم الصدمة حين يكون الفارق جد شاسع بين البلد الأم والبلد الجديد (هل أقول الأب؟) فمن نظام هو الأكثر إرهابًا إلى الأكثر حرية ربما، ومن بلد غير مستقر إلى مستقر تماماً، أضف إلى ذلك عوامل اللغة والثقافة عمومًا بل وحتى الطقس، ولا ننسى الأوهام التي نحملها عن الوطن الجديد، ليصل عند البعض وكأنه الفردوس الذي داعب مخيلة البعض، فكانت الصدمة الكبرى حين الوصول، لأنه لا وجود للجوء سياسي وإنساني، بل حال الوصول يعامل القادم الجديد كعاطل عن العمل، أي أننا عالة على المجتمع نستلم مساعدات عاطلين عن العمل وهي مخصومة من جهد وعرق الذين يعملون، والشقة أو البيت الذي تُعْطَى لنا عن طريق الإيجار أثاثه فى الأغلب الأعم مستعمل، ونلزم أنفسنا بتعلم اللغة الجديدة وخلال فترة معينة يبدأ البحث عن العمل وملء استمارات شهرية توضح أننا بحثنا عن عمل، وهذا لا يعني عدم وجود مَن يستغل القانون ويتحايل عليه، فمن عاش تحت نير الطغاة والحروب يعرف كيف يتحايل على كل شيء، ومن المؤسف القول إن الذين يتحايلون على القانون هم مَن يستطيع أن يوفر مالاً ويساعد أهله وصحبه، وهؤلاء مَن ساهم مساهمة بالغة في تنميط صورة الغرب الثري، وتبيان أن اللجوء يدرّ مالاً وفيراً.
أما قولك بخصوص ما أسميتها لحظة القدوم من مرحلة بدوية مكتظة بالخسارات والطغاة والوصول إلى مناطق حضارية يؤمها المعذبون والأحرار، فاسمح لي أنني لا أتفق معك بخصوص استعمال بدوية وحضارية، هناك إشكالية في استخداماتنا لكلمة "حضارة وحضارية" فحسب التفسير الحديث والعمومي لكلمة حضارة يعتبر رعي الغنم حضارة، والحضارة كل ما يقوم به الإنسان، أما المدنية فيشترط فيها أهم شرطين وهما الكتابة والعمارة، ثم تأتي بقية الشروط التي تميزها، مثل احترام الحريات وحقوق الإنسان عامة واحترام القانون والالتزام به... إلخ، ونحن في الحقيقة انتقلنا من مدنيات واطئة إلى مدنيات راقية، ففي بلداننا الكتابة والعمارة عريقتان، ولكننا نفتقد للإيمان بحقوق الإنسان وحق نقد المقدس والحفر فيه، والنظر إلى الماضي وما خلفه لنا كتراث ومنجز بشري أولاً، أي إسقاط التأليهي عنه، وعدم الخلط بين الكثير من المصطلحات، ابتداءً مما ذكرته بخصوص الحضارة والمدنية مرورًا بالعنصرية وحرية النقد والطائفية وواجب نقضها، وليس انتهاء بالتفريق بين الاحتقار الإنساني وهو مرفوض تمامًا ويجب أن يتم رفضه حتى لطاغية سفاح كصدام حسين، أي أن الإيمان بحقوق الإنسان يحتم علينا أن نؤمن بل ندافع عن حق المجرم والسفاح والطاغية فى أن يتمتع بمحاكمة عادلة ويختار محامي الدفاع عنه وعدم المس بكرامته وإنسانيته وإلا أصبحنا مثله وأسوأ، وأما الاحتقار السياسي فهو مختلف تمامًا على أن لا يلمس إنسانية السياسي المعني ولا يتعرض له أخلاقيًّا واجتماعيًّا، وهذه صعبة التفريق عندنا بل حتى عند الكثيرين ممن رحلوا من بلداننا وسكنوا الغرب منذ عقود، فهم يحملون ضغينة ويخلطون بين السياسي والاجتماعي والأخلاقي والإنساني، ولا يفرقون بين حق الفرد والجماعة بالتعبير عن هويتها وبين ادعاءات كاذبة تسيء للآخرين مثل مقولات الفرقة الناجية حسب تأويل القوميين العرب، ونفط العرب للعرب، وكأن لا وجود لآخرين يشاركوننا في الوطن ولا وجود لأمم أخرى قدمت للمنطقة والبشرية إبداعات خلاقة كالسريان والفرس، أو ما نقرأه من طروحات الفئات الأخرى التي عانت من تسلط القوميين العرب فكانت لهم طروحات مسيئة حقًا مثل "كركوك قدس كردستان" التي تعني أن غير الكُرد غزاة لكركوك، وإصرار دعاة الآشورية أنهم فقط أحفاد وسليلو سومر وأكد وبابل وآشور، في ادعاء مبطن أن غيرهم غزاة، ومحاولات أخرى تدلل على حس وروحية الفرقة الناجية التي طالما رأيتها أُسّ بلائنا.
يومًا بعد يوم يزداد شعوري الإنساني ويتفوق على ما عداه، فأنا متصالح مع المدن وأحبها وأحنّ إليها كما حنيني لبغداد وكربلاء، أحنّ لولنغتن عاصمة نيوزلندا التي عشت فيها ثمانية أعوام، وأحن لكل مدينة وبلدة نيوزلندية زرتها وأتذكر بحنين جارف هيروشيما وحنيني لطوكيو وناره وكيوتو وسواها من مدن اليابان لا يقل عن حنيني لسنغافورة وعمان والقاهرة وبيروت ودمشق واللاذقية وسيدني ومِلبورن وأمستردام ودنهاخ وسيئول والشارقة ودبي وأبوظبي وكوالالمبور ومدن كمبوديا ولاوس وتايلند وفيتنام وسواها من المدن التي مررت بها وزرتها. لم أتخلص من سلوكيات معينة ولكني روضت الكثير من خصوصيات ثقافتي لكي تسع وتعانق بقية الثقافات وتهضمها.
لا أشبه إلا باسم فرات، ولكني لا أنكر معاناتي حين وصولي للأردن وبدء عيشي في نيوزلندا، ولم أتغلب عليها كليًّا الا بتصالحي مع المدن والمحيط ونمو الشعور الإنسانيّ في داخلي. أنا عابر مدن أزرع وردة وذكرى في كل خطوة وأبتسم للجميع حتى لِمَنْ يسيء لي.
40- كيف وجدت طروحات الناقد محمد علي النصراوي في قراءته لشعرك إذ خلص فيها إلى أن غالبية نصوص التسعينيين (وأنت معدود معهم) أكدت اختفاء حاجة الشعر إلى الاستغراق في المعرفة وأنك استبدلت اهتمامك الابستمولوجي منحرفا به نحو تجربتك الحياتية.. فهل تتفق معه؟ وإذا قيل إن لكل شعر ظهيرًا فلسفيًا فكيف توضّح لي الظهير الفلسفي لشعرك؟.
* أحترم كثيرًا ما ذكره الناقد محمد علي النصراوي، وأود أن أوضح بأنني لا أنتمي لجيل معين، فالشعر خلاص فردي، ومجيئي للكتابة دائمًا يكون بدون مرجعيات، وللتوضيح أضرب مثلاً بأبي نؤاس الذي بعد أن حفظ ما حفظ من شعر وقرأ ما قرأ وبعد حصيلة معرفية جيدة، قال له أستاذه خلف الأحمر "انس ما حفظت". وهذا يعني اكتب بنقاء وبالفطرة التي شذبتها بطريقة غير مباشرة. المعرفة وسعة الاطلاع والتجارب، لا أحبذ اقحام الفكر والفلسفة في الشعر، ولكن لو جاءت بشكل تلقائي وعفوي نتيجة هضم خلاّق للقراءات فحتمًا سوف تمنح النص عمقًا يُغبط عليه كاتبه.
القراءات الاحترافية جزء لا يتجزأ من التجربة الحياتية، وهذه حين تظهر بدون استغراق متكلف بل من خلال دمجها في التجربة الحياتية تمنحنا شعرًا كبيرًا إن لم يكن عظيماً، وهنيئًا لمن نجح تمامًا في ذلك. لا انكر أنني أغرف من معين تجاربي، لأني كثير السفر ولا استقرار لي ذهنيًّا وحياتيًّا. أما الظهير الفلسفي، فلستُ شارحًا ولا محللاً لشعري وإيضاح الظهير الفلسفي بل والجمالي هو من مهمة الناقد ولا حق لي أن أتجاوز عمله، فأكون كمن يريد أن يدلل ببضاعته.
41 – في جواب سابق ذكرت أن كل كاتب يحتاج إلى وطن آخر، وطن مثالي، خيالي، شفاف، ملاذ له، وطن يركن إليه حين تتوالى انكساراته، ولكن تاريخ الأدب يذكّرنا دائما أن فكرة (الوطن الآخر أو البديل) لم تكن ضرورية أو متحققة عند مئات أو آلاف الكُتاب والأدباء بل إن العكس كان حاصلاً، أي التمسك بضراوة بالوطن الأم والبقاء فيه والذود عنه ضد مستغليه وطغاته وسافكي خيراته وكراماته، وسآتيك بمثالين اثنين من العرب والعراق: نجيب محفوظ لم يخرج إطلاقًا من وطنه وعاش مع أناسه وأمكنته لأكثر من تسعين عامًا حتى وصل إلى العالمية وجاءته نوبل طائعة وأصبح إبداعه في مرتبة واحدة مع نخبة الآداب العالمية، والثاني هو الأديب العراقي المجّدد محمد خضير الذي لم يغادر بصرته وظل متشبثًا بأرضه ومدينته وجذره برغم كل الانتهاكات والمهازل التي تعرض لها من حكام هذا الوطن لأكثر من ستين عامًا، وكانت حصيلة هذا الموقف أنه أصبح من رواد القصة القصيرة في الوطن العربي وصاحب طريقة في السرد موسومة باسمه.. هنا ألا ترى تعارضًا بين مقولتك عن ضرورة الوطن الآخر والمثالين اللذين ذكرنا؟ وهناك أمثلة نظيرة لم نذكرها؟
* نعم ومازلت أرى ذلك، فاللغة هي الوطن الحقيقي للكاتب الحقيقي، الكاتب الذي كَرّسَ حياته للكتابة، واللغة هي ملاذ نجيب محفوظ ومحمد خضير، مثلما هي ملاذ الآخرين، وقد غرف نجيب محفوظ ببصيرته النافذة من اللغة إن كانت النابضة في صفحات الكتب، أو تلك التي تستنشق الهواء من على ألسنة الناس. مُحمد خضير تتجلى موهبته في التنصت للحيوات المبثوثة في الكتب، فتجربته غرفت من معين هذه الحيوات بالدرجة الأولى، وليس هذا بالأمر الهَيّن فهو دليل على أن مبدعنا الكبير يملك خاصية عجيبة في القراءة، أوَليست القراءة عملية إعادة إنتاج للنص المكتوب!، وهذا يعني أن الرجل قارئ محترف من الطراز النادر. إذا كانت التجربة بالنسبة لي سَفَرًا لا ينتهي، سفرًا في حدائق المعرفة، وهضمها، في الجغرافيات وفي الثقافات، الإنصات للأمكنة، تدريب الحواس على اليقظة والاستنفار، تقطير الحياة اليومية والقراءات والخيال في قارورة عطر ندعوها القصيدة، فتجربة محمد خُضير هي رحيل دائم في المعرفة، لأنه درويش كُتبٍ يحمل كشكوله وهو مستغرق في تصوفه وترحاله وعند كل محطة يستخرج من هذا الكشكول ما قطف من غابات المعرفة ليصوغه لنا إبداعًا مدهشاً، كلنا رأى هذه النباتات والزهور والأعشاب النافعة والأغصان ولكن قلة قليلة مَن لديها القدرة على التقاطها وتحويلها إلى منجز يكون حديث أهل الكلمة ومتصوفة الأدب، وهو ما ينطبق على نجيب محفوظ ومحمد خضير.
هذا هو الوطن البديل والحقيقي للكاتب، وهو لا يتناقض مطلقًا مع الاعتزاز بالوطن المادي الذي ولدنا فيه. الإيمان بالوطن الكتابي هو انفتاح على الإنساني فينا، ونبذ التطرف والتعصب.
كل إنسانيّ هو وطني ولكن ليس كل وطني هو إنسانيّ بالضرورة.
42 – السؤال السابق يهيّئ لي سؤالاً آخر عمن يرى أن مقولات الأدباء المغتربين تلك تطرح هَمًّا جوانيًّا مضخمًا عندهم يظهر في الحوارات ويشع في نصوصهم وكأننا أمام منطق تبريري أو استباقي لتهم لم تنطق ومحاجة لم تدون، بمعنى أن الأمر برمته محض محاولة لتطمين النفس من أسئلة وإشارات قد تلقي اللوم أو حتى الغضب ممن اتخذوا حقائب السفر أوطانًا بديلة عن تلك التي خلفوها ضاجة بالانكسار والفقد والشعور بأن العديد من الأبناء نفضوا أيديهم ومسؤولياتهم عنها وتركوا الجمل ببؤس ما حمل وهي أحوج ما تكون لهم لتخليصها من مخربيها في الداخل والخارج؟ وهل واجهتك مثل هذه الحالة أو المقولات وكيف أعددت أجوبتك؟
* لا يعنيني من يبطن التهم ويجيد كيل الاتهامات، وإن تغيرت مفاهيمي نتيجة للعمر والخبرة والتجربة والاحتكاك بثقافات متعددة، فهذا من صالحي وهو خير من الجمود تحت مسميات شتى وكلها ذرائعية، فمن منا لم يخطئ، بل نحن كتلة أخطاء متحركة، والفرق بين شخص وآخر هو أن البعض يستفيد من أخطائه وأول خطوة يخطوها هي الاعتراف بأنه أخطأ في فترة معينة، فعندما تمر عشرة أعوام على خطأ ما أو سلوك أو تفكير أو رؤية ما ولا نطورها لكي نتجاوزها ويركبنا الغرور بأننا على صواب أزلي، فهذا يعني أننا جامدون. العراق معي أينما ذهبت، ولكن شعوري بكونية الشاعر هو الذي نمّى لديّ الإحساس العميق بالوطن الكتابي، الوطن اللغوي.. الشعري، وهذا الشعور هو الذي عَمّق عندي هذه الحقيقة: العراق وطني نعم وأعتز به، ولكنه ليس خير الأوطان، والعراقي ليس خير البشر، أي أن عَيني الرضا والسخط هنا تعملان بذات الدرجة والمستوى، فلم تعد عين الرضا عن العيوب كليلة وكذا عين السخط لم تعد تبدي المساوئ فقط، بل علمني الوطن الكتابي أن أنظر للأمور نظرة إنسانية، وأن أعتز بكل تلك الثقافات والأقوام والعصور والمعتقدات التي تزاوجت واختلطت وشكلتني.
نقد العيوب والمساوئ التي تستنزف الوطن والأمة والفرد هو الحب الحقيقي للوطن وليس كيل المديح المجاني، على شرط أن لا يكون النقد كُتِبَ بضغينة.