إضاءة على كتاب:الرائي...باسم فرات: دراسة ومختارات وحوار
إعداد وحوار: ناظم السعود
في الوقت الذى ينام الشعراء على ذراعات أوطانهم، محتمين بظله الوارف من رمضاء الحزن، متفيئين وجهه الصبوح، وغمازتيه المغويتين، ينام باسم فرات الشاعر العراقي المغترب في خيمة الشعر، المتنقل بين الأمل والأمل، الرجاء والرجاء، الحلم والحلم .
أوليست أحلامنا حياة أخرى؟ أحلام المغتربين هى جوازاتهم لعبور الوطن المتاخم للقلب باستمرار، الوطن الذي يشرق ويغص بالتمزقات والتناحرات، ويسافر فوق مركبة الدم والدمع
الأحلامُ رَحِمُ المعنى.
الأحلامُ سَحابةٌ أخرى للعبورِ إليكِ.
بينما فَيضٌ من القلقِ يُرتّلُ رغبتي.
وينزلقُ سُلالاتِ قَصَبٍ ونُواح ٍ.
في رحلةِ التيهِ هذه
إذاً هو تيه الفرات في سيناء المنافي، وتشرذم العمر في مزالق طينية من الاغتراب المضنى،
النواح يقض مضجع الحلم، ويحيله كابوساً مخيفاً، تتغامز القلوب عليه، والغربة تلوكه وتلقي على الأرصفة والمنافي، ليزرع حنينه فى كل شبر تعبره قدماه.
لقد سقط الفرات كنيزك من عليائه، وصار غريباً (وأيّ) غريب ؟
أحتمي بالمَطَر ِمن البَلَلِ
وبالمناداةِ من ضَجيجِ الهدوء
أُنصت للقلوبِ وهي تتغامَزُ
انظروا للغريبِ لقد صار واحدًا منا..."
لجة دامسة من الملح الأجاج، تغفو عليها المساءات المتعبة، والجراحات الندية، وتفرغ ملحها على وساداته، ليصبح الحلم جنائزياً، والأحلام قصية أكثر.
على قمة المنفى، وحيداً يسامرُ خرائبه، ونجمه آفل كَوجهِ فلسطين. وجهان لجرح واحد والعمر رذاذ حنين، نكوصه يتطاول وأهل الكهف سادرون في غيهم، وكلبهم باسط ذراعيه لينهش المتبقي فيه، والفتى السومري، ذو الحزن المسماري، يَتَكوم على الأرصفة، حزنه طازجٌ كرائحة الأرغفة.
ذبالته تنوسُ
ولا نخلٌ يطل ولا شموس
يا (باسم) ملح أجاج فراتك
وأباك حزن عميق
البراق يصل الى هيروشيما
ولا يصل العراق
"كل شيء صار في لون الفراق"
تذوي أزهارك في أصيص العمر
والعالم يتلذذ، يحصي خرائبك بيتاً بيتاً، يتعقبك صمتاً صمتاً، يغتال صباحاتك صبحاً صبحا.ً
يصلب( الفرات)أمام البصيرة العمياء، ولا مجدلية تفرد شعرها شراشفا لتمسح قدميه المعمدتين بالحزن، وتلملم غبارالأسى عن أهدابه المرمدتين، يعلوه الغبار على رفوف المنافي، تتناوب عليه السقطات والعثرات تباعاً، فقد كبا الجواد العربي البريّ على مضارب الحلم، وتقرحت أنامل القلب من حمل تركة مؤلمة من الفقد والهجر واللوعة، كما يقول فى حواره الثري مع الأديب والإعلامي ناظم السعود، فهل يكون في الشعر عزاء وسلوان؟
( لديّ شعور فادح بالفقد، والشعر عزائي الوحيد، فالشعر هو الجمال الذي يوقف القبح، ويقلل الخسائر ويعيد التوازن للذات، وأفضل طريقة لإرساء بناءات افتراضية أو عوالم جمالية للتعويض عن تلك الفقدانات، هو الاعتكاف على المشروع الشعري والإخلاص له، وعدم التطلع للتعويض، وكأنما اعتكافنا وإخلاصنا لمشروعنا الشعري يجب أن يكون له مقابل، جميع الخسارات والتضحيات تتضاءل أمام الشعر... ).
كربلاء جديدة تفتحت وردتها على سياجه المزنر بالوطن، وأغمدت شوكها في قلب القصيدة، فكان الشعر رحيلا إثر رحيلٍ، الى العيون البابلية الآسرة، والنخل السامق المتجوسق في العراق.
لا عاصم منك إلا إليك، قل لو كان البحر مداداً لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات سأقولها في وجهك الجميل يا وطني، أيها المصلوب في جذوع النخل حيث ينقر كبدك طائر الرخ في دوامة لا تنتهي من العذاب الأبدي والمحموم، وأنا سيزيف أحمل صخرة المنفى على كاهلي، وألوذ بالصبر كلما ألحّ عليّ الحضور الغائب.
الفتى السومري يلاحق خيط الدخان، قدماه في الأمل، وقلبه سمكة سابحة في ماء دجلة، ما كلت خطاه فهو يَشِمّ ُورد الحبيبة في كل بلد يحل به، يصوغ حضوره مدماكا مدماكاً، يبحث عن طرق غير مكتشفة، هو شاعر الحواس بامتياز، يرسم فضاءات الزرقة والشعر بأناة شديدة, وثقة عالية، يمتطي موجَهُ بمهارةٍ فائقةٍ ويطوعه كيفما يشاء.
نجح الشاعر أخيراً في الفرار من مدينة الدمع والحزن بلا منازع، واستقر في جنوب الجنوب في نيوزلاندا، المنفى والصومعة التى تفتح في محرابها الشعر الجميل.
أُوتِرِوّا.. أُوتِرِوّا
منفايََ الجميلَ
شَوارعُكِ النحيفةُ كخصور النسوةِ
مُزدَحِمَةٌ بأشجارٍ تُجيدُ الرقصَِ
حَدائقُكِ تُعيدُني إلى الجنائنِ المُعَلّقَةِ
تَستلقي على ذاكرتي
تَتَعرّى بطريقةٍ تُثيرُ اشمئزازَ
حبيبتي التي استوطنَها المسيحُ
أنهارُكِ لا تشبِهُ الفراتَ
أراها تَتَعَرّقُ أمامَ تَبغددِ دجلةَ
جبالُكِ تحمِلُني إلى آشورَ والآلهةِ الأربعةِ
فالشاعر قد تنقل بين ستة عشر بلداً، حاملا عراقه في جعبته، وغرس فسيلة الشعر في كل حبة رمل خب عليها، وكلما رآى عظمة الحضارات الانسانية، تذكر الحضارة البابلية والسومرية، تذكر سرجون الأكدي وحمورابي، كان الشاعر يحفظ عن ظهر قلب تاريخاً كاملاً من الأبهة والعظمة، ويفاخر بذلك كما قال في أحد حواراته ("مثقفنا" يعرف الكثير عن الأدب والفن والفلسفة والثورة الفرنسية والبلشفية والأمريكية، ولا يعرف شيئاً عن تاريخ بلده الأكثر تعقيداً)
يذكرني هنا باسم فرات بقصة سارق النار، ( بروميثيوس) وهى أسطورة (ميثولوجية) حين رأى بروميثيوس البشرية تعيش في شقاء دائم بسبب جهلها بالمعرفة، فسرق شعلة المعرفة فكان أن حل عليه غضب زيوس فصلبه وأوحى لطائر الرخ أن ينهش كبده، حتى أنقذه أخوه هرقل من عذابه الأبدي.
فهل من هرقل جديد يوقف نزف الفرات، ويضمد جرحه الذي طاول عنان السماء؟.
لم تستطع المدن الآمنة المطمئنة أن تمنح الشاعر السكينة والهدوء وراحة البال، وهو كما يقول المتنبي (على قلق كأن الريح تحتي)، كلما تحسس طمأنيته تفتحت حقولاً من الأسى لتغرق فيها الأنهار
مُدنٌ
قايضتني بطمأنينةٍ
كلما تَحَسَّسْتُها
تنفتحُ أمامي حقولُ أسى
حقولٌ تغرقُ الأنهار فيها
كان جلجامش المشرئب فيه، يبحث عن عشبة الخلود، كان لديه مشروعه الشعري الذي سيخلده بعد أن طارده الزوال والفناء، فقرر أن يكون استثنائياً في زمن تشابه فيه الشعراء، كتشابه ورق الشجر في الغابات، ويكفيه فخراً ما ناله، عندما قال الشاعر سعدي يوسف:
"لقد وجد باسم فرات طريقه المتفرد في المشهد الشعري العراقي الرائع في المنفى" فهو يعني ما يقول لأن تجربة الشاعر باسم فرات اختمرت في المنفى وأينعت ثمارها تحت لهيب جمرته.).
لكن السؤال الذي يبزغ هنا، هل كان باسم فرات بحاجة أن ينفى ويصلب لتختمر تجربته الشعرية؟ أم أن السفر هو الذى ينضج التجربة ويقدح الرؤى ؟ أم أن الشعر العراقي لا يفيح طيبه إلا فى ظل الألم والنفي والتشريد؟.
لقد كان الشعر بالنسبة لشاعرنا رديفاً للخلود الذي يبحث عنه طوال عمره.
يحمل قيثارته، ويرتدى حكمة بوذا، ويسافر في الوجوه والعيون والقلوب، ليكتب شعراً نحت من الماء العذب, يغرس حروفه لتبزغ أقماراً تطرد وحشة الليل، وتؤانس وحدته الموغلة في الروح. "يحتاج الشعر أعماراً " حيوات كثيرة، حسب تعبير الشاعر الرائع سركون بولص ليقول كلمته الفصل
ما أقسى أن تكون وحيداً !
وأنت محاطٌ بآلاف الوجوه التي لا تعني لك شيئاً
وكأن وحدتك فتيل سراج يستمد ضوءه من حزنك الكبير، حزنك الجميل، حزنك الاخضر الذي تَفَتّحَ شعراً في زمن اللا شعر، يقول ( فرات) رداً على محاوره:
الشعر خلاصي وملاذي ومشروعي الأبهى، منذ ثلاثين عامًا أو أكثر وأنا معتكف في حضرته، مؤمن أن الإخلاص للشعر يمنحك الكثير، فبقدر إخلاصك للشعر يخلص لكَ الشعر."
لقد أمن الفرات بأن العراقيين تجرى في عروقِهِم دماء جميع الأقوام, التي مرت بالعراق وأن الثقافة العربية هي نتيجة تزاوج عشرات الثقافات، فلا فرق بين سومري وأكدي وبابلي وآرامي وكنعاني وعبري وفينيقى وسريانى وحثي وكشي وإغريقي ورومانى وفارسي وتركي وأرمني وأمازيغي وقبطي.هو الشاعر الذى آمن بالسلم والسلام العالميين، وتمنى السكينة لكل العالمين، لكن النتيجة كانت أن غرست الحروب راياتها في قلبه، ومدت أكفانها في كل حلم وارف له، واعلنت عليه حرباً ضروساً، وفتحت عليه النار لتضيق الخناق على جلنار الشعر في فمه الذي يلهج بالحب والتسامح والأخاء والسلام لكل الناس، بغض النظر عن لونهم ومعتقدهم وهويتهم. فقد قال رأيه صراحة في قاتله
(بدل أن نقتل عدونا، فلنقدم له وردة، ونحتفي بالحياة، ولا نجعلها دورة عنف لا تنتهي ننظر للمستقبل ونجعل من جراحنا وخيباتنا ومافعله العدو بنا دافعاً للتفوق عليه، بدل أن نركز على قتله والاقتصاص منه، وفوق هذا نحن لا نملك أية مقومات من مقومات نجاحه وتطوره التقني).
يقول الشاعر في نص ( رجل من هيروشيما) معبراً عن تسامحه مع كل البشر، حتى مع
قاتليه:
الذي فقد أباه
في السادسِ من آب 1945
وتشوهت أُمُّهُ،
الذي حَمَلَ عَوَقَهُ
ستينَ عاماً
ولا يزال،
قَدَّمَ وردةً لقاتليهِ،
واحتفى بالحياة.
مَن يسكت فورة القلق التى تعلو الفرات بين جزر ومد؟، مَن يوقف تدفق بصيرة (الرائي) الذى استعار حدقتي زرقاء اليمامة، فرأى ما لم يراه الآخرون، اسملوا عينيه ووضعوه فوق الرف، وضعوه في المتحف لأنه أصبح مستهلكاً وزائداً عن الحاجة.
كان بمحض الصدفة عثوري على كتاب (الرائي) وأنا أحاور النت ليلاً حين يجافينى النوم ويسلم قيادى للسهر. كتاب( الرائي) الصادر عن (الحضارة للنشر) ظهر مؤخراً في العاصمة المصرية القاهرة، هو الإصدار الرابع للكاتب والصحفي ناظم السعود وقد خصص(السعود) جل صفحاته للتجربة الشعرية الثرية للشاعر العراقي المنفيّ (باسم فرات).
يقع الكتاب في (262 ) صفحة من القطع المتوسط، وهو الكتاب الرابع للسعود بعد: الريادة الزرقاء / مدارات الأسئلة / سحر الإيقونة، وسوف يصدر له لاحقاً كتابه الخامس: (الآخرون أولا).
كتب مقدمته الشاعر عيسى حسن الياسري، أما الدراسة فهي للناقد فاضل ثامر ويحتوي الكتاب على مختارات شعرية للشاعر باسم فرات (غالبيتها لم ينشر في مجموعة سابقاً وبعضها لم ينشر في أية وسيلة اعلامية) ثم حوار جميل قاد زمامه الكاتب والاعلامى العراقي ناظم السعود، وقد خصص القسم الأخير من الكتاب ليحاور بتأني وحرص شديد الشاعر(فرات) معالجاً فيه مختلف مناحي التجربة الشعرية والفكرية والحياتية التي علقت بالشاعر وأسهمت بتخصيب شاعريته ودفعه لمنطقة الضوء العام كأحد أهم الشعراء العرب المعاصرين حتى كتبت حوله وعنه أكثر من مئة مقالة ودراسة، المقالات والدراسات من قبل أصوات عراقية وعربية وعالمية، بما يقربها من تشكيل مكتبة نقدية وبحثية تتسع على الدوام( جريدة المثقف العدد 1500 الاحد 29/08/2010)
يقول الياسري في فاتحة الكتاب:
(منذ ديوانه الأول "أشدّ الهديل" استطاع الشاعر "باسم فرات" أن يتخذ له منطقة شعرية خاصة به، أرضها الجغرافيا.. وما يغرسه فيها أحلام سائح متجول لا يرسم لنا خرائط نستدل منها على مساحات مجهولة كما يفعل السواح التقليديون بل يقوم بعملية تفكيك مكونات القارات التي مرت فوقها قدماه وإعادة تركيبها من خلال عناق مخيلته الشعرية مع عالمه الأرضي الذي اكتشفه عبر رحلته في بقاع عالم ظل مُغلفًا بأكثر الأسرار غموضًا.
لقد استطاعت اللغة ذات التشكيل المكثف والمتكئ على موروث ذاتي أن تلتقط كل ما هو يومي ومدرك ومعاش.. مدنًا وأسواقًا ومتاحف وشوارع وديانات ليتخذ منها معادلات نفسية ومكانية وزمانية تعود في إحالاتها النهائية على ما آلت إليه كنوز كبيرة أحبها الشاعر وآمن بها.)
لكن السؤال الذى يراودنا عن أنفسنا هنا: هل كان الشاعر يتكيء على موروث ذاتي أم موروث جمعي بالغ العظمة والقدم، خزين وارف لا حدود له، فكان كلما جاب البلاد ورأى عظمةَ الحضارات تذكر ميراثا من العظمة والكبر والتيه العراقي، فتئن في قلبه حمائم الدوح وتنهال عليه الأسئلة تحاصره: عما آل إليه الحال الآن ؟.
.يقول فاضل ثامر في معرض دراسته:
(تجربة الشاعر باسم فرات ليست استثناءً أو نبتًا شيطانيًّا في فضاء التجربة الشعرية الحداثية في العراق بشكل عام وتجربة شعراء المنفى بشكل أخص. إنها ولدت داخل هذا الرحم المتفجر والخصب والولود للشعرية العراقية، حيث التوهج الدائم للتجربة الإبداعية. ثم يختتم دراسته بقوله:
باسم فرات في كل ما دوّنَ شعريًّا، وفي سياحته بين المدن والأماكن، والتجارب التي نجح –في واحدٍ من المنافي العراقية القصية– أن يحفر له اسمًا بارزًا في التراجيديا العراقية وفي سِفْرِ الشعرية العراقية الحداثية.)
هل أنصف (ثامر) باسم فرات بهذه العجالة التى أكاد أجزم أنها لم تفِ شاعرنا حقه، ولا تليق بمنزلة الناقد الكبير فاضل ثامر الأدبية ومكانته النقدية، فهو ولج البحر لكنه لم يغص جيداً بين لآلئه، بل مر مروراً عابراً بين كروم الشعر لم تثمله العذوبة الخمرية المعتقة فكان النقص حظها في حين أن الشاعرية الوارفة كانت قدر الفرات وديدنه في كل حرف يتنفسه.
يطل علينا المهدي المنتظر من بين دفتي الكتاب يبزغ كهلال يبشر بالضوء وبالشعر وبالإنسان، محملاً بعطر العدل والرحمة والمغفرة ليداوي بها القلوب المعطوبة، ويملأ الدنيا محبة وأخاء ورحمة، هل كان الرائي ينظر من شرفة سماوية ويضرب ودع الشعر ليعري الحجب ويستنطق الجمادات، ثم يتركنا نستنشق شعراً جميلاً في زمن غص بالملوثات السمعية والبصرية ربما؟.
ختاما أقول: إن الشاعر العراقي باسم فرات هو نبي من أنبياء الشعر، غريب في قومه وجد في الغربة كنزاً دفيناً ينهل منه جدة من حيث الموضوع والمعنى، فهو مختلف بكل المقاييس عن مجايليه وأبناء جلدته، هنيئا للشعر به وهنيئا لنا به .