بعد مجاميعه الشعرية الثلاث: (أشد الهديل) مدريد1999، و(خريف المآذن) عمّان 2002، و(أنا ثانية) منشورات دار بابل(جنيف بغداد) 2006، يعاود الشاعر العراقي المغترب (باسم فرات) الإتصال بالشعريّة العراقيّة عبر مجموعته الجديدة الرابعة: (بلوغ النهر)التي صدرت عن دار الحضارة في القاهرة 2012، لتمثل جزءاً من تجربته وهو يجوب أمكنة ليس من السهولة التحاور معها، أو التآلف مع أنساقها، ليس لأنها أمكنة بعيدة فحسب، بل لأنها أمكنة حاضنة لثقافات (مغايرة) لما اعتدنا من تقاليد،وسياقات ثقافية.
يواجه متلقي المجموعة عتبة العنوان التي لها موقع مائز على الغلاف يسهم في العبور الى متن المجموعة، ويعجّل في تلقي قصائدها، فضلاً عن أنّه -العنوان- يسمح ببزوغ أفكار تنهض بالدلالة السابحة وراء تراكيبها المعلنة: (بلوغ والنهر)، وما يكمن خلفها من رؤى، تظهر تأويلاً بعد أن تُمَسُّ قشرةُ نسيجها الأولى.
انفرد(علي بن خلف الكاتب)(بعد437هـ) من بين كلّ النقاد العرب القدماء حين شبه العنوان بـ(العلامة)( )، معوّلاً على ما في محموله الإشاري الذي يمتح من أنساق مضمرة فضاؤها ما يغيّب خلف العنوان نفسه، بمعنى أنّه يشكّل مكوّناً داخليّاً له قيمة دلاليّة ممثّلة لسلطة النص، وواجهته الإعلامية، فضلاً عن تأسيسه لنقطة انطلاق فعل التلقي، وهو مرجع يتضمن العلامة، والرمـز، ومساحة للإضافة، والتأويل، والفهم، والتفسير، فهو توظيف لآليات القراءة، مُقدّم للأحداث،ومُبيّن للمتن، مُعين على سُبُل الاتصال بين القارئ والنص( ).
وهذا يعني أنّ: (بلوغ النهر) بوصفه عنواناً متعيّناً على سطح الغلاف: (يتضمن بداخله العلامة والرمز، وتكثيف المعنى، بحيث يحاول المؤلف أن يثبت فيه قصده برمته كليّاً،أو جزئيّاً، إنّه النواة المتحركة التي خاط المؤلف عليها نسيج النص، دون أن تحقق الإشتمالية وتكون مكتملة، ولو بتذييل عنوان فرعي)( ).
ترى ما علامة هذه المجموعة؟، وما رمزها، وهل اشتمل نصّها على تكثيف يحيل على قصد الشاعر؟، وهل حقّاً كان العنوان نواة متحرّكة خاط المؤلف عليها نسيج نصه؟، هذه السؤالات، وغيرها تتقدم واجهة هذه (القراءة) لتكون أجوبتها مدخلاً واضحاً للبحث في شكل المجموعة،ومضمونها.
يتكئ عنوان المجموعة : (بلوغ النهر)على مرتكزين لسانيين يسهمان في تحديد دلالتها:
الأوّل: تركيبي فيه الخبر يضاف الى النهر ليكون معرفة تحيل على مبتدأ محذوف تقديره (هذا) ليكون العنوان: (هذا بلوغ النهر).
والآخر:دلاليّ يحيل المتلقي لأن يدرك أنّ: (بلغ) فعل ثلاثي يشير الى بلوغ الشيء، والوصول إليه، ثم الانتهاء، وتبلّغ بالشيء وصل إلى مراده، والبلاغ ما يتبلّغ به، ويتوصل إلى الشيء المطلوب، والبلاغة الفصاحة( )، وهي عند العرب في واحدة من تعريفاتها: وصول المعنى إلى القلب( ).
أمّا: (النَّهر) فهو في المعجم من مجاري المياه، والجمع أنهار، ونُهُرٌ، ونُهُورٌ، ونهر الماء إذا جرى في الأرض، وحفر البئر حتى نَهِرَ أي بلغ الماء( )، وبلوغ النهر حملاً على الدلالات السابقة: بلوغ البلوغ، فأي(نهر) أراد الشاعر أن يبلغه، وهو يتأبط أشعاراً استلها من خزين تجارب مختلفة يوحدها المكان بإطاره الإنساني المفارق؟، أهو نهر دجلة، أو نهر الفرات، أو نهر(ميكون)؟.
لا شكّ أنّ النهر بطقسيّته الجاثمة في ذاكرة الشاعر، واحد من أهم الرموز التي فُكّت مغاليقها في قراءات سابقة أشارت الى نهر بعينه: (الفرات) الذي اتخذ منه الشاعر اسماً يعرف من خلاله ليكون (معرفة) قائمة بين جمع من الموصوفات، فهل أراد الشاعر أن يبلغ الفرات في عنوانه ثانية؟.
سؤالات كثيرة تواجه متلقي المجموعة، غير أنّ التدقيق في مجاميع الشاعر السابقة يوحي للمتلقي، والسائل معاً أنّ الشاعر فيها كان يتّصل بالنهر اتصالاً حقيقيّاً مبنيّاً على النباهة، والاغتراف من فضاءي: الزمان والمكان بمعنى أنّ الإتصال وإن كان أسطوريّاً، ومأساويّاً استعاديّاً إلا أنّه كان يضع الشاعر في مواجهة نهر حقيقي ترسمه جغرافية الزمان، وتحدد أبعاد تجربته المكان.
في(بلوغ النهر) تنهض أنهار بعينها لتجري جرياناً حقيقيّاً في أرض لا جدال في حقيقة وجودها: نهر ميكون الذي يقطع جمهورية (لاوس) من الشمال الى الجنوب، ويشاطئ الصين ولاوس وبلدان أخرى، الذي تكرّرت الإشارة إليه أكثر من مرّة، ونهر الفرات أيضاً، وهذا يعني أنّ الشاعر يذكر تلك الأنهار لكنّه يريد نهراً آخر بديلاً فنيّاً يغرف من تضاريسه ليكون نهره الأوحد في عالم متعدد الأنهار، فالشاعر يتصل بالشعر بلوغاً، بمعنى أنّ (بلوغ النهر) في حقيقة أمره: (بلوغ الحافات الأولى للشعر)، وما بين(النهر) و(الشعر) جرس لفظي تستحسنه الأذن، وتصغي بانتباه إلى اختلاف دلالته المتصلة بالحياة.
(بلوغ النهر) عنوان يتصل بقراءات مختلفة كلٌ تقرؤه على وفق ذائقة خاصة، وما هذه القراءة إلا واحدة من قراءات تتصل بالمجموعة لتقول ما يبدو لها تحليلاً، أو تأويلاً لا شرحاً وتفسيراً، ولا سيّما أنّ قصائد المجموعة ليس من بينها قصيدة واحدة تحمل عتبة (العنوان) مما يعطي للمتلقي فرصة الاشتغال على التأويل، والنظر إلى العنوان بوصفه عتبة تكمن وراءها دلالات قد يكون منها: أنّ القصائد مسارب تتجمع لتشكل نهراً هو نهر الشاعر الذي أراد أن يبلغه بمعنى أنّ القصائد تمرّ مروراً هادئاً عبرالعتبة: النهر لتستقر استقرار الماء في القعر: قعر الشعر.
احتوت مجموعة (بلوغ النهر) على ثلاث وثلاثين قصيدة كُتبت أغلبها ما بين 2007-2011،وهي تنتمي الى قصائد الحياة التي تحتفي بالمكان الذي نسميه نحن بـ(المنفى)، أمّا الشاعر فينوّع في تسميته كما يريد، فهو مكان يتزحزح تحت أقدامه تبعاً لدرجةِ اهتزاز الذات، وتذبذب مجساتها:
هاأنذا.. قدمٌ في ميكون، وأخرى في الأمل
يرقد تاريخٌ في جعبتي
أنصت للموج بينما الريح تقفل أبوابها خجلى
وهو- المكان- في أحايين أخرى:
....مدن
تعبرنا ونعبرها
لتترك وشمها فينا
في إشارة كنائيّة تحيل على قلقه الدائم، وترحاله وعدم استقراره، فهو شاعر جوّال يمتطي مخيلة المكان،ويسعى الى إيجاد وشائج زمنيّة لسلسلة الإقامات التي يمر بها عجلاً،أو مقيماً،أو سائحاً بلا أهداف،أو هو مكان(وطنه الجديد) الذي لا مناص من الإقامة في أفيائه، والعيش فيه، والتصالح معه ليصير جزءاً منه ولو على لسان الآخرين:
أنصتُ للقلوب وهي تتغامز:
انظروا للغريب صار واحداً منا..
إلا أنّ تصالح (الغريب) مع المكان الخارجي سرعان ما يرتد بذاكرته الى الأصل، أي الى الزمن الأول المسترجع إليه بروح الطفولة الأولى التي لا تعرف فلسفة استبدال مكان بمكان:
ويجهش بالبكاء
حين تقبض عليه وحدته ملتبساً بالحنين.
قصائد المجموعة تنتمي إلى فضاء قصيدة النثر، هوية الشعريّة العراقيّة التي بزغت بشكل لافت منذ أواسط السبعينيات وإلى يومنا هذا، وهي تتفاوت في طولها، وقصرها تبعاً لتفاوت مضامينها، وانبجاس المخيّلة الشعريّة بما تحمل من رؤى، ففيها القصيدة التي يبلغ طولها طولاً اعتياديّاً، وقصائد الومضة التي تميل إلى الإقتصاد في اللفظ، والغزارة في المعنى كما في قصيدةحياة):
المونغيّة( )تئنّ
يسيل البياض على السرير.
فطول القصيدة وقصرها صار شيئاً معروفاً في الكتابة الشعريّة الحديثة، ولا سيّما في قصيدة النثر التي تميل دائماً إلى الإيجاز، والتكثيف، والبناء السردي. لهذا فإنّ الطول الذي أعنيه يبتعد كثيراً عن فضاء المطوّلة الشعريّة المعاصرة أيضاً، بمعنى أنّه حيّز يأخذ شكل قصيدة تحدّد أبعادها تجربة الكتابة نفسها، لا سلطة للشاعر عليها.
تحتفي قصائد المجموعة بالوصف، وهو يهيمن على مساحة كبيرة من فضاء المجموعة، والوصف الذي يعلن دائماً عن اشتغال حاسة البصر لتكون سلطة تكوين نسقي تحتفي بالمرئي لكي تحوله إلى شيء مكتوب يشير إلى تجربة متحولة طرفاها الرؤية، والكتابة كما في وصف (تمثال هيروشيما) الذي ذكّر الشاعر بـ(البراق) فالتذكر هنا يجمع بين موصوفين متباعدين زماناً ومكاناً لكن الطباق يجمع بين نسقيهما المختلفين نصّاً وثقافة ليشكّل قصيدة همّها اقتناص صورة المكان:
أمام قلعة هيروشيما
وحيداً
يقف البراقٌ
دون نبيّ يمتطيه .
وكذلك في وصف (ساموراي) المقاتل الياباني العنيد، ووصف الإمبراطور، وبوذا، والقلعة، وهناك الوصف المكاني الذي يجتاز المكان إلى حدود الزمان كما في قصيدة (الهَنَمي في هيروشيما)( ):
في احتفالات الهنمي
عليك أن تحتفي بالفرح
وتطرد أحزانك بعيداً .
وكذا في (شروق أطول من التاريخ):
الصفحة بيضاء
القصيدة تتشكل..
وأنت هنا محاط بألف بوذا...
ينهمرون برهبانهم وتراتيلهم
وكذلك وصف الحالة:حالة الترحال اليومي التي يعيشها موزعاً بين مكان وآخر:
أعبر أقاليم وإثنيات، وأزرع ذكرى
واقتسم الخبز والأمنيات مع قبائل التلال
وهي تشع أنهاراً وينابيع .
ففي قصائد أخرى ينهض الوصف حاملا سلطة التحسس البصري حيال جغرافيات متعددة تستفز الغريب في غربته كما هو الحال في: (عن الغريب الذي صار واحدا منهم)، و(سبادي)، أو وصف المكان الذي بداً في الشعر جديدا يومها: (وطن جديد)، و(هذه البلاد)، وغيرها من القصائد.
أمّا الزمن فيبدو واضحا في مفارقة (الاسترجاع): استرجاع نسق الحياة التي كان لها أن وسمت الشاعر بوسمها الحديدي، وها هو يلتقط الماضي تمثيلاً لوجوده الخاص في اللحظة الحاضرة في ضمن جو سرديّ تتم فيه استعادة ماضٍ جمعيّ كما في قصيدة (ميسوبوتاميا):
هناك...
حيث زرع أسلافي الحكمة
وحصدوا الألم
بنوا للآلهة عروشاً
وهناك أشياء أخرى تتعلّق بزوايا النظر التي ابتكرها الشاعر وهو يعاين حياة لا تشبه حياة أسلافه قدّمها بلغة الإيجاز التي تؤكّد سمة الشعر التي تريد أن تقرأ الحياة لتتّخذ موقفاً منها، في عشرات اللقطات الشعرية التي استلها الشعر من محيط الحياة اليابانية، والآسيوية ليعبّر من خلالها عن نمط الحياة هناك منها قصيدة (رجل من هيروشيما) التي أعدّها أنموذجا لتسامح الإنسان الياباني الخارج من أتون مذبحة القبيلة النووية إبان الحرب العالمية الثانية إزاء(عدو) ما من صداقته بدّ:
الذي فقد أباه
في السادس من آب 1945
وتشوهت أمه
الذي حمل عوقه
ستين عاماً
ولا يزال
قدم وردة لقاتليه
واحتفى بالحياة
واذا كانت المجموعة تنتمي إلى لغة شعريّة تنفتح على حقل اللغة الميسورة التي لا تحتفي بالملغّز، والمعمى فإنها تتيح للمتلقي أن يدخل مقاماتها، ويجس مساماتها التي تتحسس شكل الحياة التي تآلف معها الشاعر في بلاد تبدو لنا غريبة في طباعها، ونسق تواجدها اليومي في مشهد الحياة العابر.
لكنّ لغة المجموعة انفتحت على عشرات الألفاظ والتعبيرات التي تنتمي إلى جغرافية الجنوب الأسيوي، وشرقه المعمّد بالحكايات، والأساطير مما اضطر الشاعر إلى أن يشرح الكثير منها في هوامش كانت ضرورية لإدامة القراءة، وتداول أنساق الشعر.
واحتوت المجموعة على(إمضاءات) شعريّة بدت السياقات فيها منزاحة نحو تراسل الحواس الذي يبيح للشاعر أن يبادل في لغته بين وظائف حواسه كأن يسمع بنظره المبصرات، والمشمومات كما في قوله:
جلست أنصت للألوان والروائح
وأملأ روحي بأناشيد الكسبة
أو (إمضاءات) السرد المعمّد بالإيجاز المفضي إلى تشكيل صورة الشعر:
أحمل قربتي وأمضي...
الظمأ سرّة الوقت
الجنود على ضفة النهر
سأستدرجهم إلى الحانة
(بلوغ النهر)، تجربة جديدة لشاعر أراد عبرها أن يبلغ حافات الشعر الأولى، لتكون مستقره، ونقطة وثوبه نحو منطقة الشعر التي ظل يحلم بها وهو يعيش محنة وجوده بوصفه إنساناً حَسْبُ .
يواجه متلقي المجموعة عتبة العنوان التي لها موقع مائز على الغلاف يسهم في العبور الى متن المجموعة، ويعجّل في تلقي قصائدها، فضلاً عن أنّه -العنوان- يسمح ببزوغ أفكار تنهض بالدلالة السابحة وراء تراكيبها المعلنة: (بلوغ والنهر)، وما يكمن خلفها من رؤى، تظهر تأويلاً بعد أن تُمَسُّ قشرةُ نسيجها الأولى.
انفرد(علي بن خلف الكاتب)(بعد437هـ) من بين كلّ النقاد العرب القدماء حين شبه العنوان بـ(العلامة)( )، معوّلاً على ما في محموله الإشاري الذي يمتح من أنساق مضمرة فضاؤها ما يغيّب خلف العنوان نفسه، بمعنى أنّه يشكّل مكوّناً داخليّاً له قيمة دلاليّة ممثّلة لسلطة النص، وواجهته الإعلامية، فضلاً عن تأسيسه لنقطة انطلاق فعل التلقي، وهو مرجع يتضمن العلامة، والرمـز، ومساحة للإضافة، والتأويل، والفهم، والتفسير، فهو توظيف لآليات القراءة، مُقدّم للأحداث،ومُبيّن للمتن، مُعين على سُبُل الاتصال بين القارئ والنص( ).
وهذا يعني أنّ: (بلوغ النهر) بوصفه عنواناً متعيّناً على سطح الغلاف: (يتضمن بداخله العلامة والرمز، وتكثيف المعنى، بحيث يحاول المؤلف أن يثبت فيه قصده برمته كليّاً،أو جزئيّاً، إنّه النواة المتحركة التي خاط المؤلف عليها نسيج النص، دون أن تحقق الإشتمالية وتكون مكتملة، ولو بتذييل عنوان فرعي)( ).
ترى ما علامة هذه المجموعة؟، وما رمزها، وهل اشتمل نصّها على تكثيف يحيل على قصد الشاعر؟، وهل حقّاً كان العنوان نواة متحرّكة خاط المؤلف عليها نسيج نصه؟، هذه السؤالات، وغيرها تتقدم واجهة هذه (القراءة) لتكون أجوبتها مدخلاً واضحاً للبحث في شكل المجموعة،ومضمونها.
يتكئ عنوان المجموعة : (بلوغ النهر)على مرتكزين لسانيين يسهمان في تحديد دلالتها:
الأوّل: تركيبي فيه الخبر يضاف الى النهر ليكون معرفة تحيل على مبتدأ محذوف تقديره (هذا) ليكون العنوان: (هذا بلوغ النهر).
والآخر:دلاليّ يحيل المتلقي لأن يدرك أنّ: (بلغ) فعل ثلاثي يشير الى بلوغ الشيء، والوصول إليه، ثم الانتهاء، وتبلّغ بالشيء وصل إلى مراده، والبلاغ ما يتبلّغ به، ويتوصل إلى الشيء المطلوب، والبلاغة الفصاحة( )، وهي عند العرب في واحدة من تعريفاتها: وصول المعنى إلى القلب( ).
أمّا: (النَّهر) فهو في المعجم من مجاري المياه، والجمع أنهار، ونُهُرٌ، ونُهُورٌ، ونهر الماء إذا جرى في الأرض، وحفر البئر حتى نَهِرَ أي بلغ الماء( )، وبلوغ النهر حملاً على الدلالات السابقة: بلوغ البلوغ، فأي(نهر) أراد الشاعر أن يبلغه، وهو يتأبط أشعاراً استلها من خزين تجارب مختلفة يوحدها المكان بإطاره الإنساني المفارق؟، أهو نهر دجلة، أو نهر الفرات، أو نهر(ميكون)؟.
لا شكّ أنّ النهر بطقسيّته الجاثمة في ذاكرة الشاعر، واحد من أهم الرموز التي فُكّت مغاليقها في قراءات سابقة أشارت الى نهر بعينه: (الفرات) الذي اتخذ منه الشاعر اسماً يعرف من خلاله ليكون (معرفة) قائمة بين جمع من الموصوفات، فهل أراد الشاعر أن يبلغ الفرات في عنوانه ثانية؟.
سؤالات كثيرة تواجه متلقي المجموعة، غير أنّ التدقيق في مجاميع الشاعر السابقة يوحي للمتلقي، والسائل معاً أنّ الشاعر فيها كان يتّصل بالنهر اتصالاً حقيقيّاً مبنيّاً على النباهة، والاغتراف من فضاءي: الزمان والمكان بمعنى أنّ الإتصال وإن كان أسطوريّاً، ومأساويّاً استعاديّاً إلا أنّه كان يضع الشاعر في مواجهة نهر حقيقي ترسمه جغرافية الزمان، وتحدد أبعاد تجربته المكان.
في(بلوغ النهر) تنهض أنهار بعينها لتجري جرياناً حقيقيّاً في أرض لا جدال في حقيقة وجودها: نهر ميكون الذي يقطع جمهورية (لاوس) من الشمال الى الجنوب، ويشاطئ الصين ولاوس وبلدان أخرى، الذي تكرّرت الإشارة إليه أكثر من مرّة، ونهر الفرات أيضاً، وهذا يعني أنّ الشاعر يذكر تلك الأنهار لكنّه يريد نهراً آخر بديلاً فنيّاً يغرف من تضاريسه ليكون نهره الأوحد في عالم متعدد الأنهار، فالشاعر يتصل بالشعر بلوغاً، بمعنى أنّ (بلوغ النهر) في حقيقة أمره: (بلوغ الحافات الأولى للشعر)، وما بين(النهر) و(الشعر) جرس لفظي تستحسنه الأذن، وتصغي بانتباه إلى اختلاف دلالته المتصلة بالحياة.
(بلوغ النهر) عنوان يتصل بقراءات مختلفة كلٌ تقرؤه على وفق ذائقة خاصة، وما هذه القراءة إلا واحدة من قراءات تتصل بالمجموعة لتقول ما يبدو لها تحليلاً، أو تأويلاً لا شرحاً وتفسيراً، ولا سيّما أنّ قصائد المجموعة ليس من بينها قصيدة واحدة تحمل عتبة (العنوان) مما يعطي للمتلقي فرصة الاشتغال على التأويل، والنظر إلى العنوان بوصفه عتبة تكمن وراءها دلالات قد يكون منها: أنّ القصائد مسارب تتجمع لتشكل نهراً هو نهر الشاعر الذي أراد أن يبلغه بمعنى أنّ القصائد تمرّ مروراً هادئاً عبرالعتبة: النهر لتستقر استقرار الماء في القعر: قعر الشعر.
احتوت مجموعة (بلوغ النهر) على ثلاث وثلاثين قصيدة كُتبت أغلبها ما بين 2007-2011،وهي تنتمي الى قصائد الحياة التي تحتفي بالمكان الذي نسميه نحن بـ(المنفى)، أمّا الشاعر فينوّع في تسميته كما يريد، فهو مكان يتزحزح تحت أقدامه تبعاً لدرجةِ اهتزاز الذات، وتذبذب مجساتها:
هاأنذا.. قدمٌ في ميكون، وأخرى في الأمل
يرقد تاريخٌ في جعبتي
أنصت للموج بينما الريح تقفل أبوابها خجلى
وهو- المكان- في أحايين أخرى:
....مدن
تعبرنا ونعبرها
لتترك وشمها فينا
في إشارة كنائيّة تحيل على قلقه الدائم، وترحاله وعدم استقراره، فهو شاعر جوّال يمتطي مخيلة المكان،ويسعى الى إيجاد وشائج زمنيّة لسلسلة الإقامات التي يمر بها عجلاً،أو مقيماً،أو سائحاً بلا أهداف،أو هو مكان(وطنه الجديد) الذي لا مناص من الإقامة في أفيائه، والعيش فيه، والتصالح معه ليصير جزءاً منه ولو على لسان الآخرين:
أنصتُ للقلوب وهي تتغامز:
انظروا للغريب صار واحداً منا..
إلا أنّ تصالح (الغريب) مع المكان الخارجي سرعان ما يرتد بذاكرته الى الأصل، أي الى الزمن الأول المسترجع إليه بروح الطفولة الأولى التي لا تعرف فلسفة استبدال مكان بمكان:
ويجهش بالبكاء
حين تقبض عليه وحدته ملتبساً بالحنين.
قصائد المجموعة تنتمي إلى فضاء قصيدة النثر، هوية الشعريّة العراقيّة التي بزغت بشكل لافت منذ أواسط السبعينيات وإلى يومنا هذا، وهي تتفاوت في طولها، وقصرها تبعاً لتفاوت مضامينها، وانبجاس المخيّلة الشعريّة بما تحمل من رؤى، ففيها القصيدة التي يبلغ طولها طولاً اعتياديّاً، وقصائد الومضة التي تميل إلى الإقتصاد في اللفظ، والغزارة في المعنى كما في قصيدةحياة):
المونغيّة( )تئنّ
يسيل البياض على السرير.
فطول القصيدة وقصرها صار شيئاً معروفاً في الكتابة الشعريّة الحديثة، ولا سيّما في قصيدة النثر التي تميل دائماً إلى الإيجاز، والتكثيف، والبناء السردي. لهذا فإنّ الطول الذي أعنيه يبتعد كثيراً عن فضاء المطوّلة الشعريّة المعاصرة أيضاً، بمعنى أنّه حيّز يأخذ شكل قصيدة تحدّد أبعادها تجربة الكتابة نفسها، لا سلطة للشاعر عليها.
تحتفي قصائد المجموعة بالوصف، وهو يهيمن على مساحة كبيرة من فضاء المجموعة، والوصف الذي يعلن دائماً عن اشتغال حاسة البصر لتكون سلطة تكوين نسقي تحتفي بالمرئي لكي تحوله إلى شيء مكتوب يشير إلى تجربة متحولة طرفاها الرؤية، والكتابة كما في وصف (تمثال هيروشيما) الذي ذكّر الشاعر بـ(البراق) فالتذكر هنا يجمع بين موصوفين متباعدين زماناً ومكاناً لكن الطباق يجمع بين نسقيهما المختلفين نصّاً وثقافة ليشكّل قصيدة همّها اقتناص صورة المكان:
أمام قلعة هيروشيما
وحيداً
يقف البراقٌ
دون نبيّ يمتطيه .
وكذلك في وصف (ساموراي) المقاتل الياباني العنيد، ووصف الإمبراطور، وبوذا، والقلعة، وهناك الوصف المكاني الذي يجتاز المكان إلى حدود الزمان كما في قصيدة (الهَنَمي في هيروشيما)( ):
في احتفالات الهنمي
عليك أن تحتفي بالفرح
وتطرد أحزانك بعيداً .
وكذا في (شروق أطول من التاريخ):
الصفحة بيضاء
القصيدة تتشكل..
وأنت هنا محاط بألف بوذا...
ينهمرون برهبانهم وتراتيلهم
وكذلك وصف الحالة:حالة الترحال اليومي التي يعيشها موزعاً بين مكان وآخر:
أعبر أقاليم وإثنيات، وأزرع ذكرى
واقتسم الخبز والأمنيات مع قبائل التلال
وهي تشع أنهاراً وينابيع .
ففي قصائد أخرى ينهض الوصف حاملا سلطة التحسس البصري حيال جغرافيات متعددة تستفز الغريب في غربته كما هو الحال في: (عن الغريب الذي صار واحدا منهم)، و(سبادي)، أو وصف المكان الذي بداً في الشعر جديدا يومها: (وطن جديد)، و(هذه البلاد)، وغيرها من القصائد.
أمّا الزمن فيبدو واضحا في مفارقة (الاسترجاع): استرجاع نسق الحياة التي كان لها أن وسمت الشاعر بوسمها الحديدي، وها هو يلتقط الماضي تمثيلاً لوجوده الخاص في اللحظة الحاضرة في ضمن جو سرديّ تتم فيه استعادة ماضٍ جمعيّ كما في قصيدة (ميسوبوتاميا):
هناك...
حيث زرع أسلافي الحكمة
وحصدوا الألم
بنوا للآلهة عروشاً
وهناك أشياء أخرى تتعلّق بزوايا النظر التي ابتكرها الشاعر وهو يعاين حياة لا تشبه حياة أسلافه قدّمها بلغة الإيجاز التي تؤكّد سمة الشعر التي تريد أن تقرأ الحياة لتتّخذ موقفاً منها، في عشرات اللقطات الشعرية التي استلها الشعر من محيط الحياة اليابانية، والآسيوية ليعبّر من خلالها عن نمط الحياة هناك منها قصيدة (رجل من هيروشيما) التي أعدّها أنموذجا لتسامح الإنسان الياباني الخارج من أتون مذبحة القبيلة النووية إبان الحرب العالمية الثانية إزاء(عدو) ما من صداقته بدّ:
الذي فقد أباه
في السادس من آب 1945
وتشوهت أمه
الذي حمل عوقه
ستين عاماً
ولا يزال
قدم وردة لقاتليه
واحتفى بالحياة
واذا كانت المجموعة تنتمي إلى لغة شعريّة تنفتح على حقل اللغة الميسورة التي لا تحتفي بالملغّز، والمعمى فإنها تتيح للمتلقي أن يدخل مقاماتها، ويجس مساماتها التي تتحسس شكل الحياة التي تآلف معها الشاعر في بلاد تبدو لنا غريبة في طباعها، ونسق تواجدها اليومي في مشهد الحياة العابر.
لكنّ لغة المجموعة انفتحت على عشرات الألفاظ والتعبيرات التي تنتمي إلى جغرافية الجنوب الأسيوي، وشرقه المعمّد بالحكايات، والأساطير مما اضطر الشاعر إلى أن يشرح الكثير منها في هوامش كانت ضرورية لإدامة القراءة، وتداول أنساق الشعر.
واحتوت المجموعة على(إمضاءات) شعريّة بدت السياقات فيها منزاحة نحو تراسل الحواس الذي يبيح للشاعر أن يبادل في لغته بين وظائف حواسه كأن يسمع بنظره المبصرات، والمشمومات كما في قوله:
جلست أنصت للألوان والروائح
وأملأ روحي بأناشيد الكسبة
أو (إمضاءات) السرد المعمّد بالإيجاز المفضي إلى تشكيل صورة الشعر:
أحمل قربتي وأمضي...
الظمأ سرّة الوقت
الجنود على ضفة النهر
سأستدرجهم إلى الحانة
(بلوغ النهر)، تجربة جديدة لشاعر أراد عبرها أن يبلغ حافات الشعر الأولى، لتكون مستقره، ونقطة وثوبه نحو منطقة الشعر التي ظل يحلم بها وهو يعيش محنة وجوده بوصفه إنساناً حَسْبُ .