عادة ما يجد الشاعر نفسه في منفى أختاره هو أو أجبر على إختياره لظروف قاهرة وقد يمنح المنفى الشاعر الحياة والحرية وكل ما يتوق له الإنسان في وطنه سوى الشعر إذ تسرقه الحياة أحيانًا، فيكون الأدب ترفًا أو شيئًا ثانويًا يأتي أو لا ياتي لا فرق، وعلى عكس ذلك نجد من منحه المنفى وهجًا وغذى فيه تلك النار المقدسة فغمرته عطايا تلك الموهبة التي زادت إشراقًا وتوهجًا وما زالت تصل إلينا قصائد عيسى حسن الياسري التي ازدادت إبداعًا وشبابًا مع السنوات، كذلك ما زالت مخيلة سعدي يوسف تنتج الكثير ولم يجف حبر تلك الموهبة العظيمة التي شغف بها أغلب الشعب العراقي كذلك يواصل نصيف الناصري وسعد جاسم وأديب كمال الدين والكثيرون من شعرائنا الكبار إنتاجهم بنفس العزيمة والإصرار والمثابرة والطموح.
وباسم فرات واحد من هذه الأسماء العراقية التي شغفت بالسفر والرحيل إلى مدن العالم وعواصمه وآثاره، وتركت تلك الأمكنة أثرها على روح وقصائد هذا الشاعر الشاب الذي نجد للمنفى إذا صح التعبير أثرا كبيرا على تجربته الشعرية، وهو يتجول في مدنه الغريبة والتي لم تعد غريبة بالنسبة له بل قد تبدو أشدّ التصاقًا به من مدينته ذاتها كربلاء التي تبرز في ثنايا القصائد، ويفوح الفرات من بين الأسطر التي التقط ماساتها من جبال وأمطار وثلوج ومتاحف المدن التي تركت أثرها على روح الشاعر الجوال الذي تحسس كل شيء يراه بصدق وحميمية. هذا الفتى الفراتيّ الذي حمل ترابه المقدس وغادر محطاته الأولى ماحيًا ما تمكن له أن يمحى من آثار، تنام لتنبثق حارة طازجة في ثنايا قصائده التي يطوق بها جيد كل مدينة يلتقيها، وهو في مجموعته الجديدة بلوغ النهر والتي كتبت أغلب قصائدها في مدن اليابان متأثرا بجراح هيروشيما ولاوس وكمبوديا ونكازاكي وغيرها.في بلوغ النهر يقترح باسم فرات نوعًا من الشعر هو لذة الإكتشاف، من خلال الرحيل إلى مدن العالم وهي ليست سياحة عادية، فهو يتأمل ما يرى بعين الشاعر ويتحسس الآلام والنكبات التي عاشتها هذه المدن من خلال مشاهد تجنح به نحو الشعر، ورغم ما يراه من جراح تدين الماضي لكنه يبدو سعيدًا بلذة الإكتشاف.
وقد تبرز مدينته من بين أسطر القصيدة لتقول إنني هنا ومن خلال مقاطع وجمل شعرية تعيش في مخيلته (يا سيوف اتركيني) والتي يعكس فيها مقولة الحسين عليه السلام يا سيوف خذيني، أو قصيدة قربة أيضًا. يعمد إلى قاموسه الكربلائي فيستل منه ما يشاء (تستفيق الغاضرية على امتداد حقول القصيدة) هكذا يصطحب الشاعر مدينته ويحملها معه في رحيله الدائم.
وكما جعل رامبو مركبه يتكلم بلسان الأنا كذلك فعل باسم فرات مع جبل تَرَناكي في نيوزيلندا فقد منحه القدرة على الكلام والتعبير عن رؤيته الكونية في قصيدة جبل تَرَناكي:
وحيدًا أقف أمام البحر
هكذا يبدا جبل تَرَناكي قصيدته
رأيتك تقطرين الفرات في مخيلة ميكون
جمل تنهمر من مخيلة الشاعر الجوال لتبرهن أنه سائح يعيش القصيدة ويمارسها بل يقول منحازًا إلى فراته ودجلته:
أنهارك لا تشبه الفرات
أراها تتعرق أمام تبغدد دجلة
ولكن كيف انبثقت هذه التسمية (بلوغ النهر) إذ عادة ما يعنون الشعراء مجاميعهم بإسم أحدى قصائد المجموعة التي تهيمن أكثر من غيرها على مخيلة الشاعر بينما لا نجد في هذه المجموعة قصيدة واحدة بهذا الإسم، فما هو النهر الذي بلغه باسم فرات، هل هو نهر ميكون الذي تكلم عنه وخصه بقصيدة أم هو الفرات ...إن ميكون مجرد مكبّ للنفايات كما يقول الشاعر ولا يمكن مقارنته بالفرات الذي يختزن موجه في أعماقه ويجعلها تتدفق كلما أراد ذلك. إن الفرات وعذوبته يبقى بمنآى عن المقارنة مع أي نهر آخر وصله الشاعر، بل يهيمن على ما يختزن الشاعر من حنين غامض يشدّه لذلك النهر رغم سعادته بإكتشافاته الرائعة وما يراه ويعيشه في جولاته التي لا تنتهي إلاّ لتبدأ من جديد.
من أين إذن صاغ الشاعر عنوان مجموعته من نهره العريق المتدفق بأعماقه المرافق له في الذهاب والأياب، أم من تلك الأنهار المريضة بالحروب والكوارث والنفايات التي تراكمت على مر التاريخ الحافل بالمآسي والانقلابات التي عاشتها تلك المدن فتركت وشمها على الحياة بكل ما فيها من موجودات أنهار وجبال وبشر.
في قصيدة لا قارب يجعل الغرق يتلاشى فلا يستطيع القارئ أن يفصل بين المرأة في خيال الشاعر وبين المدينة وأيهما ذابت في الأخرى، كذلك في (مطر في قبضتك) لا يفرق بين المرأة والمدينة وأيهما أكثر إتساعًا في مخيلة الشاعر وأكثر إغواءً وفتنة من الأخرى.
لا قارب يجعل الغرق يتلاشى تبدو عدة قصائد في قصيدة واحدة تنبع الصوفية من كلماتها وتحضر كربلاء رغم أنف الشاعر بمريديها وأنوارها ومن خلال مفردات هذه القصيدة (عرش، أنوار، مريديك ، حضرتك، عرشك المجيد، أيقونة، كوكبها الدريّ، ملائكة، صلواتها، يرتل) وكلها مفردات لها نفحة دينية مشتقة من القرآن الكريم والمدينة المقدسة التي تحضر في وجدان الشاعر سواء أراد ذلك أم لم يرد وهو في رحيله هذا إنما يعيش الحلم فيقول (الأحلام سحابة أخرى للعبور إليك) وقد يعود الضمير (الكاف) هنا على المدينة وعلى المرأة التي تغنى بها ومجّد جمالها إذ يقول في (مطر في قبضتك: كنت معي تتجولين على مساحة قلب وقصيدة) حتى تبدو قصائد المجموعة مكملة لبعضها وكأنها قصيدة واحدة.
مر دوخ وأحيقار وزقورة أور وآشور والبراق وهي مصطلحات من الحضارة السومرية ومن العراقية وأخرى لها طابع صوفي تهيمن وتكوّن هذه المجموعة، التي خلد فيها الشاعر جولاته وسفرياته.