أستقريت كبحار في نومةٍ هادئة، استيقظت على الأمواج وقد رمتني بعيداً نحو صخرة ناتئة، أدركت أن لا مجال إلاَّ المواجهة، نزعت عني كل الماضي وأخذت اغتسل بالفجر الذي قادني لصحوه، حمّلتني قناعات تقود للنجاة، حينها ظهر صندوق قادم من عمق البحر ورسى عند حافة سفينتي المنزوية عند تلك الصخرة، مثل مسافر أضاع خطة هدفه، حملت الصندوق لعلي أعثر على ما يهديني للإبحار ثانية فإذا بي أجد أوراق مخطوطة بحبر ثقيل، لزوجة الفرحة بوجود كلمات تعينني على قتل الوقت زادت من شعوري بالسعادة في عثوري على هذا الكنز (خريف المآذن / باسم فرات). بعد قرأءة الديوان امتلكتني رغبة عميقة في تأمل الانسان وهمه الذي يخلق معه رغم اختلاف الظروف والزمكان، وكيف يبقى معتقداً أنه لا أحد يفهم مدى طموحاته ورغباته التي يملكها، لذا هو مثقل دائماً خاصة إذا عاش المحنة، حينها قلت لنفسي: أيضاً اعيش المحنة، وأصلها أنني أرفض بشدة كل ما هو مسيس ويحز في نفسي التمنطق السلطوي أياً كان يجري وفي عروقه تعاقب التعصب، يتمثل السؤال بقدر من المغالطة لفهم مشكلة الارتباط الذي يقود للإندثار، أما الشاعر باسم فرات له رؤية مختلفة جاءت من عدة زوايا شامخة منها المآذن، تذكرت كم من المآذن شيدت في هذا العصر من الحديد المصبوغة باللون الاخضر؟!، إذن المآذن ليس في خريفها بألوانها الخضراء، أين الخريف في مآذن باسم فرات؟، قد يكون في الاندثار الذي يعيشه العراق!، عراق شرد ابناءه في البلاد، طمر منهم الثرى، سوس لبعضهم بالذل وتمجيد الظلم، وابناء يعيشون محنة العراق في أقصى حركة يؤديها بندول الزمن، وتساقطت شواهق تلك الشواهد وطعن مناخ العراق المليء بالمآذن، حتى وصل الامر أنه كلما ذاب في تيزاب الحرب شاب يافع نصب مكانه مئذنة، فقد تحول حلمه إلى طيات الخريف الموحي بالخراب والموت، لأن هناك سلطة لسانها طويل وذراعها اخطبوط يعمر المدافع لتصيح المزيد المزيد من لحوم البشر ودخانها عمَّ فوضى تلك الايام، الشاعر باسم فرات أعطى لمفهوم المآذن صفة جديدة، لما من وقع في نفس كل مؤمن للمئذنة وطفل وأم وانسان لم يدخل ذهنه لحظة أن للظلم خريف قاحل يسود عموم الحياة ويمحق كل جمال وذكرى مخلدة في معتقده وعقله، استقرت المآذن في ذاكرة باسم فرات تطارد خيالاته تريد البرهان عن اسئلة ولدت من عناصر عاشها، اب غيور، سلطة قامعة، حرب عمياء، مآذن لا حولة لها ولا قوة، تلاحقه أصواتها بين أم حنون وطفولة خجلة معمرة بالحرمان ومجتمع ضاقت به السبل، يرسم في منظر جمالي لوحاته بألوان غامقة لكنها فتية كأيام عمره المعذبة، فنجده في قصيدة " إلى لغة الضوء أقود القناديل، يقول:
أي حلم يخفف طفولتي
أي حلم يشق صباحاتي
أنا لا خير في قافلة العزلة
صهيلي يتكئ على صحراء فاض حدادها
في مقطع آخرمن نفس القصيدة يقول:
أنا السومري
المدجّجُ بالاحلام والإسئلة
متلكئاً
أنفض الحنين عن أصابعي .
أما قصيدة " أرسم بغداد " ففيها بالفعل يرسم مفاهيم أكثر حرية في أطياف سماء أنعشها التصفح في خياله عن تفكك عضلات الذهن حين يربط في فكره بين عباءة أمه وعباءة النخيل والخراب يرتعش فوق كل ما يحمل صفة الخير والحنان، وكل تناغم تهبه الحياة الصافية، لكنه يجد في بغداد الندوب والاكفان والسواد واسئلة أخرى تتهاوى وتعلوا في رأسه حيث يقول:
ماشئت شئت
أسكب الفجر في تلمس ليلٍ غارق بعماه
أكتبُ تاريخَ جنوبيين فوقَ عباءة أمي
وعبثاً أمسحُ أكفان الأيام المنسدلة من شعرِها
مقبرة السنوات تتمدّدُ فوق اسفلت ذاكرة مليئةٍ بندوبِ الحروب .
وفي مقطع آخر من نفس القصيدة يقول:
بينما الوقت يُطرّزُ منفى لعباءات النخيل
أفك أزرارهُ أقرأ: الطفولة اسئلة لا تنتهي- تتشعب-
أو أسئلة تنمو فوق طحلب الايام .
بينما نراه في مقطع آخرمن نفس القصيدة يقول:
خذلتني أحلامي
منعزلاً في أقصى الضياع
ترثيني فاجعتي
ويقودني حطامي .
أصبح في ذاكرته مصطلح خاص لدلالاته اللغوية ومفاهيم يحملها أينما حل وارتحل، نجد ذلك في قصيدة " عانقت برجا خلته مئذنة " في هذه القصيدة يحمل اجوبة لمرآة مكسورة، لتكفكفها الدموع المتساقطة بسخونة الإنصهار عند اقتراب الافكار حيث يقول:
هكذا
لكي أجتاز الوصول
لم التفت لجراحي
ثيابي أطعمتها للنهر
وعيناي تتهجى رائحة غيابي
لم اتحسس غير انتظارهم .
في مقطع آخر من نفس القصيدة يقول:
الصهيل يحفر بئراً لإيوائي
أسراب الضياء تتخفىّ بين جفني ّ
بحر من الامنيات يغادر رأسي .
وفي مقطع آخر من نفس القصيدة يقول:
فأرضعتني بكاءها وأحلام اليابسة .
باسم فرات لا يكتفي بالإلتصاقات ليسدل على الانسجام باقتناص المفردة واسلوبه الجمالي في قصيدة " دلني أيها السواد " بقوله:
مزدحماً بأحلامي
هي أيضاً منشغلة برتق جنونها
وفيما الأمواج تتدلى من قميصي
ومن راحتي تتساقط نجوم
في مقطع آخر من نفس القصيدة يقول:
دلني.....
كيف أرسم بروقي فوق سريرك
دلني
دلّني أيها السواد .
قصيدة " آهلون بالنزيف " تتسم بوجع الشاعر، اذ يكمن في هذه القصيدة البعيد من معركة الغربة وتسارع عالم لا يقبل الجدل، ويكتنفه انتصاب أسد في صقيع، بقوله:
يخضب سنواتي بذبول مسن
يُطرّز جداولي بنجوم ما لهن ظلال
الذين أشعلوا أحلامهم بالمنافي
قصيدة " عبرت الحدود مصادفة " حملته أدوات خطاب جديد حيث لا يوجد كربلاء ولا عباءات الأمهات الحنونات ولا أهوار ونخيل ولا مناخ ممتلئ بالخضرة والجداول، بل وجد كل شيء في زمكانيته المشتعلة هي الأخرى بما لها من وجه مختلف، كأن كل شيء فيها متصحر حد الجنون، إذ يقول:
من حفرة في الغيوم
وأوزع سنواتي على الصحف
سنواتي المجففة كالزبيب
رمادها- هذه الحروب- أغلق روحي
وَجَفّفَ زيت طفولتي عند الباب .
وفي المقطع الأخير من نفس القصيدة يقول:
أمي ترمم النجوم التي اختلطت بشعرها
وتشرب شاياً تذوب فيه أحزانها
الطرقات تسيل على قدمي
الأشجار
تتدلى ثمارها على الافق
- الافق وهم لوقف العين-
من يمسك بظله؟
أخطاؤنا وطن يتكئ على حربه
وأحلامنا تنموعلى الشرفات .
يحاول في قصيدة " عناق لا يقطعه سوى القصف " أن يقترب بالحروف المرسومة كمئذنة يستدل بها على جذره لعل ذهنه عند اللجوء إليها أن يمنحه شيء من السكينة، فيعمم استجاباته على نافذة التوازن وتنوعات مشرقة تهضم حزنه، بقوله:
مأخوذاً بما ستطلقه يداي
من محبة وذكريات، جففها الحصار
أيامي تتناسل سواداً
ها أنا ذا
أطلق المطر والخضرة من خريفي
بينما الحروب تتفاقم فيَّ
تبتل ذاكرتي بالمنافي
بين الرصيف وقلبي .
وفي مقطع آخر من ذات القصيدة يقول:
رماد أيامي
نوافذ طويلة الأمد
كسرت صمتها لتطل ملائكة تغسل الهواء من صخب المدى .
باسم فرات شاعر يحمل أكثر من هم وأكثر من قضية تتباعد عند خصائصها المفاهيم للحرية وتتواجد في أبداعه قضايا سياسية برؤى عاشها ويعيشها تدحض حقيقة نظام، وتتشكل في قضايا أخرى لمجتمع عاش فيها محنة تشرنق جذر قضيته، وقد حاول في قصيدة " أقول أنثى... ولا أعني كربلاء " أن يجسد شيئاً من التشدد الموجود في موروث وتراث، الثقافة العربية ويؤيد الاحتفاء المفرط في موقفه من الارتباط بالأنثى، أما التبعيات الكبيرة التي تؤسس للكراهية وتزيح معاني الإنسانية في كربلاء التي أصلاً أُسست من أجلها، نجده مثل بيكاسو يحمل روحاً مختلفة لكل منظور جمالي وحيوي أتبع طريق الابتعاد ليس خوفاً بل للتأكيد أن العالم لا يعيش فقط على الالغاز ورموزه إن لم تدفعه لإتجاهات الحياة، إذن هي ستقيده وتقوده إلى الموت، حيث يقول:
استدرج أحلامي إلى موقد
تترنح فيه اصابعي
مرهقة أبواب الدار من الصراخ
وعباءة أمي راية تلوح بلا أمل
وبلا أمل ٍ ستجوب الأزمان خطواتي
يتآكل الحنين في لساني
ومن لاذ بالصمت لا يستبيح ظلي
ويحرر غاباتي برمله
النرجسُ يتناسلُ في يدي
ولا زبدٌ في مياهي
أوقد الغيوم
وأعرف أن للذكرى قوارير شائكة
أحرث السماء بالبحر
وأعرف أن الدمعَ أكثر زرقة
من بهجتي
أرقب حماقاتي بشغف لترِث َ
العصافير متاهتي
أنصت للذين يأوون الحروب
من سباتها
فأرى دمي يتدحرج بين الحدود
أتوسل بالكلمات أن تجمعه
على الورقة .
في قصيدة " عواء إبن آوى " نلاحظ استخداماً عالي الحساسية في لغته الشعرية التي يدخلها ميتافيزيقا الروح بين أستئصال حالتين جمالية شعرية معبقة بالابداع المنشطر من قاعدة النفس المعذبة بإنبعاث لا يقبل التوقف عند حد، ورفض قبول بعض الرؤية للآخرين وتجسيداتهم المهزوزة ومنها مشروع الفشل، فشل الحرب،سوف آخذ من بعض مقاطع القصيدة وليس كلها، بقوله:
أمي آيات حناء يغالبها العشق
فترملت
. . . . .
غصن رمان ينكسر من فرط أساه
. . . . .
وإذ يقتل أبي ويحز رأسه
. . . . .
زيَّنت أمي وجه الخليفة ببصاقها
. . . . .
كان في جسده سبعون طريقاً
. . . . .
على القباب المذهبة تراتيل الملائكة السلام
في قصيدة " خريف المآذن.. ربيع السواد..دمنا " تحكي شواهد لا ينكرها التاريخ ولا يقبل رفضها اي كربلائي، تتجسد فيها معان ٍ كثيرة وطقوس كبيرة، حفرت قدسيتها بعمق السنين في قلوب مؤمنة بما يحف سماءها من بخور وأنوار ودماء زكية هي كربلاء وكربلاء هي، حيث يقول:
أبوابهم مشرعة
ونوافذهم أشاخها الانتظار
قست عليها رياح الشمال
أي سلسبيل قباب الربّ ومآذنه
أو كلما ابتعدتُ عنكِ أزددتُ قربا ً
أحمل بوصلتي
فلا تشتهي سوى أن ترتل اسمك
أفتح كتابي فتشير كلماته الى زخرفك السماويّ
قناديلي تغمس ضياءها في قبابك المذهبة
أنتِ فرودس الدموع
وبهجة النشيج .
في قصيدة " جنوب مطلق " الشاعر باسم فرات يمازح الألم ، يقبل كل ثغرة مبتهجة، كونه عراقي وكونه ليس صامتاً، ولأنه عراقي حمل إثم عراقيته، حتى انه أصبح يجد أن خالقه وحده من يفهم عمق تجربته وامتداد التوسع الغارق فيه، سجل صورة صادقة لمظاهر الاستبداد ومعاني جميلة بنظرة فاحصة في محاولة التغيير في زمن تلفه الحيرة والظنون المستمدة من الشعور بالعودة والخلاص، إذ يقول:
... وأقول : في الأقاصي البعيدة
ثمة ما يدعو للتذكر
في المدن التي أنهكها البحر
أردم أحلامي
لي من الحروب تذكار ٌ
ومن البلاد أقصى الجراح
لي من الأسى دموع المشاحيف وارتباك القصب
تأوهات النخل
بوح البرتقال
دم الآس
هناك...
تركتُ على خارطة الطفولة
براءة ً ثقبتها عفونة العسكر
ومن البيت سرقتني الثكنات
ورمتني إلى المنفى .
أنا والله وحيدان
ثمةابدية تستظل بي
ثمة نسيان يغادرني
تاركاً رائحة القصف في ممرات عمري .
أما قصيدة " 1/3/ 1967 " فتجلس متلبسة في ماضي أيامه ملتاعة مثله للفراق الذي أخذ يناصفه عمره، قصيدة مأساوية يعبر فيها عن تنوعات إحتشدت داخله، ورغم كل شيء هي جاثية في دقائق أيامه الممشطة بالفراق تبحث عن نوارس وصقور في غربة يعيش بدايتها خطأ، سعت في اضاعة وجود الاقارب والاهل والاحباب، لولا أنه يملك قوة من الايمان المرصع بعظامه لأضاعته هو أيضاً، قصيدته تحمل هم الابتسامات لحقول فتية غادرها وطموحات لصباحات عراقية تبشر بالأمل وتغرس مفاتيح السرور في ابواب الشوق، قصيدة تحمل الألم بل آلآم كبيرة يعيشها شاعرنا وعاشها، هذه القصيد هي باسم فرات وباسم فرات هي، حيث يقول:
ياله من جنون يختزل القصيدة
أعني أنتِ
يداي تفعلان كل شيء بحرية مطلقة
عيناي تسهبان
وعلى شفتي إنكسارات
أمجاد حروب لغيري
لا أدنو، لكن قلبي يجف
السرفات سحقت ذاكرتي
والزنازين جعلتني قميصا ً متهرئاً
على كتفي تسيل المنافي
وفي الشبابيك أسئلة الغائب
في سلة الألم تنكسر شموسي
وصهيلي يسيل هو الآخر قبل أن يصل
أنا باسم فرات ... يا الله ...أتعرفني ؟!
المخافر موشومة على جلدي
وأمي لم تلتفت للشظايا
حين مشطت صباي
فأهالت الشمع والآس فوق صباحي
( ياامي اذكريني
من تمر زفة شباب
من العرس محروم
حنتي دمي الخضاب
شمعة شبابي من يطفيها
حنتي دمي والكفن ذرات التراب )
بعباءتها التي تشبه أيامي تماماً
كانت تكنس الطائرات
لترسمني كما تشتهي
ألأني كنت احمل الوطن في جيب قميصي
وتحت لساني نهران يهدران
أركض خلف موتي وجُثتي تتبعني
والبلادُ خريفٌ طويلٌ
سيلٌ من الغثيان
نهارٌ يختبئ تحت القبعة
وعلى صدرك تتفتح الأسئلة
أُغني للوردة
بينما يحاصرني الحزن
أنت لا تدركين
ماذا يعني أن نترك قبلاتنا
فوق الرخام
وينزلق الهواء بين ركبتينا
من يمسك بالصدفة يمسك بكل شيء
كان الأفق يرتد
ويدي تمر فوقه باردة
أضيق بالبحر
فتسقط نجمة أخرى اسفل الحلم
1/3/1967 سرقتُ من أبي الخلافة
وضربتُ فحولته فتدلى الخراب من فمه
1980 مشيتُ خلف جثتي
كنت هرماً و طرقاتي يثقبها الحنين
بين جبلين يتيمين تركوني ومضوا
لمحت خطاهم تتثاءب ، لم يلتفتوا إلى ندى قميصي
وهو يفرك عن عينه النعاس
كانت صرخاتهم تسبقهم
لماذا قلبي معطف
وبين شفتيك تستيقظ الحكمة
ويبتهج القمر
لماذا لم تدرك القبّرات سرّ رحلينا
ولماذا ضاقت الحقول
وبدأت أعمارنا تسعل
ومرايانا تبصق مراياها
لا تنحني
هذياني
نوافذ أوسع من أفق
وأعلى من غيم مسّراتنا
رايات مخذولين
العبق المنتشر كدبيبٍ فوق ساقيك
الحروف في بيتي
لكن القصيدة تتهيكل
من أعطى المدينة هذا الفم
لتبتلع القصائد والحقول
فلا أجد مسرباً للحرية.
في قصائد الشاعر باسم الفرات مساحات من الاحتجاج يرتفع صوته فيها أحيانا حد الشهقات المتلبسة بالمديات المثلثة الحادة الزاوية وأحيانا تصل أبعد نقطة من شرايين الماضي، كلها يفوح منها مسك الابداع المنبثق من عمق تجربته الحياتية هي ليست تجربة عادية، بل متفردة خرجت من عائلة متعمقة في اصول العلم والمعرفة ، اسرته تحمل ثقافات فتحت أبوابها لفهم البعد الثالث لعالم يندرج فيه الجهل والامية، فوالدته تقرأ وتناقش ماتقرأه مع ولدها الشاب الطموح، اقرباؤه اصدقاؤه ينعمون بروح البحث في عوالم المعرفة، انصهر كل ذلك في جسد يافع حمله باسم فرات من مكتبات عامرة بكتب التاريخ والعلوم الاخرى تتلمذ على يد العارفين في بيئته الكربلائية وشعرائها واصطاد من اجواء كربلائه كل معالم التوادد الانساني ، كربلاء لم تبخل عليه بفنون الحياة ، كربلاء وما تحمله من مقدسات تجذب اليها كل انواع البشر من العالم لمشاهدة ذهب قبابها ورياض صحونها ومواكب موتاها واحزان أفرادها وان نقوش مبانيها ضياء مساءاتها تسحر الشاهد على ثوابت شعائرها، مدن الجنوب العراقي من عهد بابل وجنائنها المعلقة تذيب القلوب بشغف مفاتنها وظلالها البهية لابد من حضور حالة الخشوع وانت بين اطلالها تجوب اسواقها شوارعها وما تحمل من تحف نادرة نساؤها الفاتنات وعطر أجواء مباخرها وشموعها المعبقة بالمسك والعنبر، كيف لإنسان يولد بين كل هذه الشواهد ولا يتلبس بالعمق الانساني، حملته مدينته واخرجته لرحم الحياة وترعرع حاملاً ذهن متحلق بكل هذه الاجواء، ثم أتت الحرب وقادته من ثكناتها إلى مشارق عوالم جديدة أنعشت داخله الحنين إلى كل ذرة تركها مرغماً واصبحت جاثية في جوانب روحه وعقله ونفسه متمسكة بتلك الشواهد وهو يتنقل مثل سندباد ليس بحثا عن مغامرة أو تجارة أوصيد ثمين بل عن معرفة ومعلومة وكل كلمة تعزز داخله العدم من الحضور في واقع آخر لم يلمس وجهه إلاَّ عندما تباين وجوده في المكان، فيعود لنفسه متسائلاً: بين هل انا؟ أم هل أنا حقيقة، بقصيدة يشعرها وتشعره أنه هو هو فعلاً والكل من حوله خواء أوشيء منه، هو الانسان الذي وجد ليكون ويحدد معالم الماضي الثر في داخله، والعالم الحاضر في وجوده المسمى غربة وليس وطن، الوطن بعيد في الظاهر ولكنه يحمله كطفل يلعب ويخربش ويعاكس ويشاكس رغم اختلاف الموقع الجغرافي/ هذا باسم الفرات في مآذنه وخريفها وكربلائه وثباتها وعصاميته الدائمة الإقامة في جوانح نفسه وعقله وذهنه وخياله وروحه العذبة كفراته.
أي حلم يخفف طفولتي
أي حلم يشق صباحاتي
أنا لا خير في قافلة العزلة
صهيلي يتكئ على صحراء فاض حدادها
في مقطع آخرمن نفس القصيدة يقول:
أنا السومري
المدجّجُ بالاحلام والإسئلة
متلكئاً
أنفض الحنين عن أصابعي .
أما قصيدة " أرسم بغداد " ففيها بالفعل يرسم مفاهيم أكثر حرية في أطياف سماء أنعشها التصفح في خياله عن تفكك عضلات الذهن حين يربط في فكره بين عباءة أمه وعباءة النخيل والخراب يرتعش فوق كل ما يحمل صفة الخير والحنان، وكل تناغم تهبه الحياة الصافية، لكنه يجد في بغداد الندوب والاكفان والسواد واسئلة أخرى تتهاوى وتعلوا في رأسه حيث يقول:
ماشئت شئت
أسكب الفجر في تلمس ليلٍ غارق بعماه
أكتبُ تاريخَ جنوبيين فوقَ عباءة أمي
وعبثاً أمسحُ أكفان الأيام المنسدلة من شعرِها
مقبرة السنوات تتمدّدُ فوق اسفلت ذاكرة مليئةٍ بندوبِ الحروب .
وفي مقطع آخر من نفس القصيدة يقول:
بينما الوقت يُطرّزُ منفى لعباءات النخيل
أفك أزرارهُ أقرأ: الطفولة اسئلة لا تنتهي- تتشعب-
أو أسئلة تنمو فوق طحلب الايام .
بينما نراه في مقطع آخرمن نفس القصيدة يقول:
خذلتني أحلامي
منعزلاً في أقصى الضياع
ترثيني فاجعتي
ويقودني حطامي .
أصبح في ذاكرته مصطلح خاص لدلالاته اللغوية ومفاهيم يحملها أينما حل وارتحل، نجد ذلك في قصيدة " عانقت برجا خلته مئذنة " في هذه القصيدة يحمل اجوبة لمرآة مكسورة، لتكفكفها الدموع المتساقطة بسخونة الإنصهار عند اقتراب الافكار حيث يقول:
هكذا
لكي أجتاز الوصول
لم التفت لجراحي
ثيابي أطعمتها للنهر
وعيناي تتهجى رائحة غيابي
لم اتحسس غير انتظارهم .
في مقطع آخر من نفس القصيدة يقول:
الصهيل يحفر بئراً لإيوائي
أسراب الضياء تتخفىّ بين جفني ّ
بحر من الامنيات يغادر رأسي .
وفي مقطع آخر من نفس القصيدة يقول:
فأرضعتني بكاءها وأحلام اليابسة .
باسم فرات لا يكتفي بالإلتصاقات ليسدل على الانسجام باقتناص المفردة واسلوبه الجمالي في قصيدة " دلني أيها السواد " بقوله:
مزدحماً بأحلامي
هي أيضاً منشغلة برتق جنونها
وفيما الأمواج تتدلى من قميصي
ومن راحتي تتساقط نجوم
في مقطع آخر من نفس القصيدة يقول:
دلني.....
كيف أرسم بروقي فوق سريرك
دلني
دلّني أيها السواد .
قصيدة " آهلون بالنزيف " تتسم بوجع الشاعر، اذ يكمن في هذه القصيدة البعيد من معركة الغربة وتسارع عالم لا يقبل الجدل، ويكتنفه انتصاب أسد في صقيع، بقوله:
يخضب سنواتي بذبول مسن
يُطرّز جداولي بنجوم ما لهن ظلال
الذين أشعلوا أحلامهم بالمنافي
قصيدة " عبرت الحدود مصادفة " حملته أدوات خطاب جديد حيث لا يوجد كربلاء ولا عباءات الأمهات الحنونات ولا أهوار ونخيل ولا مناخ ممتلئ بالخضرة والجداول، بل وجد كل شيء في زمكانيته المشتعلة هي الأخرى بما لها من وجه مختلف، كأن كل شيء فيها متصحر حد الجنون، إذ يقول:
من حفرة في الغيوم
وأوزع سنواتي على الصحف
سنواتي المجففة كالزبيب
رمادها- هذه الحروب- أغلق روحي
وَجَفّفَ زيت طفولتي عند الباب .
وفي المقطع الأخير من نفس القصيدة يقول:
أمي ترمم النجوم التي اختلطت بشعرها
وتشرب شاياً تذوب فيه أحزانها
الطرقات تسيل على قدمي
الأشجار
تتدلى ثمارها على الافق
- الافق وهم لوقف العين-
من يمسك بظله؟
أخطاؤنا وطن يتكئ على حربه
وأحلامنا تنموعلى الشرفات .
يحاول في قصيدة " عناق لا يقطعه سوى القصف " أن يقترب بالحروف المرسومة كمئذنة يستدل بها على جذره لعل ذهنه عند اللجوء إليها أن يمنحه شيء من السكينة، فيعمم استجاباته على نافذة التوازن وتنوعات مشرقة تهضم حزنه، بقوله:
مأخوذاً بما ستطلقه يداي
من محبة وذكريات، جففها الحصار
أيامي تتناسل سواداً
ها أنا ذا
أطلق المطر والخضرة من خريفي
بينما الحروب تتفاقم فيَّ
تبتل ذاكرتي بالمنافي
بين الرصيف وقلبي .
وفي مقطع آخر من ذات القصيدة يقول:
رماد أيامي
نوافذ طويلة الأمد
كسرت صمتها لتطل ملائكة تغسل الهواء من صخب المدى .
باسم فرات شاعر يحمل أكثر من هم وأكثر من قضية تتباعد عند خصائصها المفاهيم للحرية وتتواجد في أبداعه قضايا سياسية برؤى عاشها ويعيشها تدحض حقيقة نظام، وتتشكل في قضايا أخرى لمجتمع عاش فيها محنة تشرنق جذر قضيته، وقد حاول في قصيدة " أقول أنثى... ولا أعني كربلاء " أن يجسد شيئاً من التشدد الموجود في موروث وتراث، الثقافة العربية ويؤيد الاحتفاء المفرط في موقفه من الارتباط بالأنثى، أما التبعيات الكبيرة التي تؤسس للكراهية وتزيح معاني الإنسانية في كربلاء التي أصلاً أُسست من أجلها، نجده مثل بيكاسو يحمل روحاً مختلفة لكل منظور جمالي وحيوي أتبع طريق الابتعاد ليس خوفاً بل للتأكيد أن العالم لا يعيش فقط على الالغاز ورموزه إن لم تدفعه لإتجاهات الحياة، إذن هي ستقيده وتقوده إلى الموت، حيث يقول:
استدرج أحلامي إلى موقد
تترنح فيه اصابعي
مرهقة أبواب الدار من الصراخ
وعباءة أمي راية تلوح بلا أمل
وبلا أمل ٍ ستجوب الأزمان خطواتي
يتآكل الحنين في لساني
ومن لاذ بالصمت لا يستبيح ظلي
ويحرر غاباتي برمله
النرجسُ يتناسلُ في يدي
ولا زبدٌ في مياهي
أوقد الغيوم
وأعرف أن للذكرى قوارير شائكة
أحرث السماء بالبحر
وأعرف أن الدمعَ أكثر زرقة
من بهجتي
أرقب حماقاتي بشغف لترِث َ
العصافير متاهتي
أنصت للذين يأوون الحروب
من سباتها
فأرى دمي يتدحرج بين الحدود
أتوسل بالكلمات أن تجمعه
على الورقة .
في قصيدة " عواء إبن آوى " نلاحظ استخداماً عالي الحساسية في لغته الشعرية التي يدخلها ميتافيزيقا الروح بين أستئصال حالتين جمالية شعرية معبقة بالابداع المنشطر من قاعدة النفس المعذبة بإنبعاث لا يقبل التوقف عند حد، ورفض قبول بعض الرؤية للآخرين وتجسيداتهم المهزوزة ومنها مشروع الفشل، فشل الحرب،سوف آخذ من بعض مقاطع القصيدة وليس كلها، بقوله:
أمي آيات حناء يغالبها العشق
فترملت
. . . . .
غصن رمان ينكسر من فرط أساه
. . . . .
وإذ يقتل أبي ويحز رأسه
. . . . .
زيَّنت أمي وجه الخليفة ببصاقها
. . . . .
كان في جسده سبعون طريقاً
. . . . .
على القباب المذهبة تراتيل الملائكة السلام
في قصيدة " خريف المآذن.. ربيع السواد..دمنا " تحكي شواهد لا ينكرها التاريخ ولا يقبل رفضها اي كربلائي، تتجسد فيها معان ٍ كثيرة وطقوس كبيرة، حفرت قدسيتها بعمق السنين في قلوب مؤمنة بما يحف سماءها من بخور وأنوار ودماء زكية هي كربلاء وكربلاء هي، حيث يقول:
أبوابهم مشرعة
ونوافذهم أشاخها الانتظار
قست عليها رياح الشمال
أي سلسبيل قباب الربّ ومآذنه
أو كلما ابتعدتُ عنكِ أزددتُ قربا ً
أحمل بوصلتي
فلا تشتهي سوى أن ترتل اسمك
أفتح كتابي فتشير كلماته الى زخرفك السماويّ
قناديلي تغمس ضياءها في قبابك المذهبة
أنتِ فرودس الدموع
وبهجة النشيج .
في قصيدة " جنوب مطلق " الشاعر باسم فرات يمازح الألم ، يقبل كل ثغرة مبتهجة، كونه عراقي وكونه ليس صامتاً، ولأنه عراقي حمل إثم عراقيته، حتى انه أصبح يجد أن خالقه وحده من يفهم عمق تجربته وامتداد التوسع الغارق فيه، سجل صورة صادقة لمظاهر الاستبداد ومعاني جميلة بنظرة فاحصة في محاولة التغيير في زمن تلفه الحيرة والظنون المستمدة من الشعور بالعودة والخلاص، إذ يقول:
... وأقول : في الأقاصي البعيدة
ثمة ما يدعو للتذكر
في المدن التي أنهكها البحر
أردم أحلامي
لي من الحروب تذكار ٌ
ومن البلاد أقصى الجراح
لي من الأسى دموع المشاحيف وارتباك القصب
تأوهات النخل
بوح البرتقال
دم الآس
هناك...
تركتُ على خارطة الطفولة
براءة ً ثقبتها عفونة العسكر
ومن البيت سرقتني الثكنات
ورمتني إلى المنفى .
أنا والله وحيدان
ثمةابدية تستظل بي
ثمة نسيان يغادرني
تاركاً رائحة القصف في ممرات عمري .
أما قصيدة " 1/3/ 1967 " فتجلس متلبسة في ماضي أيامه ملتاعة مثله للفراق الذي أخذ يناصفه عمره، قصيدة مأساوية يعبر فيها عن تنوعات إحتشدت داخله، ورغم كل شيء هي جاثية في دقائق أيامه الممشطة بالفراق تبحث عن نوارس وصقور في غربة يعيش بدايتها خطأ، سعت في اضاعة وجود الاقارب والاهل والاحباب، لولا أنه يملك قوة من الايمان المرصع بعظامه لأضاعته هو أيضاً، قصيدته تحمل هم الابتسامات لحقول فتية غادرها وطموحات لصباحات عراقية تبشر بالأمل وتغرس مفاتيح السرور في ابواب الشوق، قصيدة تحمل الألم بل آلآم كبيرة يعيشها شاعرنا وعاشها، هذه القصيد هي باسم فرات وباسم فرات هي، حيث يقول:
ياله من جنون يختزل القصيدة
أعني أنتِ
يداي تفعلان كل شيء بحرية مطلقة
عيناي تسهبان
وعلى شفتي إنكسارات
أمجاد حروب لغيري
لا أدنو، لكن قلبي يجف
السرفات سحقت ذاكرتي
والزنازين جعلتني قميصا ً متهرئاً
على كتفي تسيل المنافي
وفي الشبابيك أسئلة الغائب
في سلة الألم تنكسر شموسي
وصهيلي يسيل هو الآخر قبل أن يصل
أنا باسم فرات ... يا الله ...أتعرفني ؟!
المخافر موشومة على جلدي
وأمي لم تلتفت للشظايا
حين مشطت صباي
فأهالت الشمع والآس فوق صباحي
( ياامي اذكريني
من تمر زفة شباب
من العرس محروم
حنتي دمي الخضاب
شمعة شبابي من يطفيها
حنتي دمي والكفن ذرات التراب )
بعباءتها التي تشبه أيامي تماماً
كانت تكنس الطائرات
لترسمني كما تشتهي
ألأني كنت احمل الوطن في جيب قميصي
وتحت لساني نهران يهدران
أركض خلف موتي وجُثتي تتبعني
والبلادُ خريفٌ طويلٌ
سيلٌ من الغثيان
نهارٌ يختبئ تحت القبعة
وعلى صدرك تتفتح الأسئلة
أُغني للوردة
بينما يحاصرني الحزن
أنت لا تدركين
ماذا يعني أن نترك قبلاتنا
فوق الرخام
وينزلق الهواء بين ركبتينا
من يمسك بالصدفة يمسك بكل شيء
كان الأفق يرتد
ويدي تمر فوقه باردة
أضيق بالبحر
فتسقط نجمة أخرى اسفل الحلم
1/3/1967 سرقتُ من أبي الخلافة
وضربتُ فحولته فتدلى الخراب من فمه
1980 مشيتُ خلف جثتي
كنت هرماً و طرقاتي يثقبها الحنين
بين جبلين يتيمين تركوني ومضوا
لمحت خطاهم تتثاءب ، لم يلتفتوا إلى ندى قميصي
وهو يفرك عن عينه النعاس
كانت صرخاتهم تسبقهم
لماذا قلبي معطف
وبين شفتيك تستيقظ الحكمة
ويبتهج القمر
لماذا لم تدرك القبّرات سرّ رحلينا
ولماذا ضاقت الحقول
وبدأت أعمارنا تسعل
ومرايانا تبصق مراياها
لا تنحني
هذياني
نوافذ أوسع من أفق
وأعلى من غيم مسّراتنا
رايات مخذولين
العبق المنتشر كدبيبٍ فوق ساقيك
الحروف في بيتي
لكن القصيدة تتهيكل
من أعطى المدينة هذا الفم
لتبتلع القصائد والحقول
فلا أجد مسرباً للحرية.
في قصائد الشاعر باسم الفرات مساحات من الاحتجاج يرتفع صوته فيها أحيانا حد الشهقات المتلبسة بالمديات المثلثة الحادة الزاوية وأحيانا تصل أبعد نقطة من شرايين الماضي، كلها يفوح منها مسك الابداع المنبثق من عمق تجربته الحياتية هي ليست تجربة عادية، بل متفردة خرجت من عائلة متعمقة في اصول العلم والمعرفة ، اسرته تحمل ثقافات فتحت أبوابها لفهم البعد الثالث لعالم يندرج فيه الجهل والامية، فوالدته تقرأ وتناقش ماتقرأه مع ولدها الشاب الطموح، اقرباؤه اصدقاؤه ينعمون بروح البحث في عوالم المعرفة، انصهر كل ذلك في جسد يافع حمله باسم فرات من مكتبات عامرة بكتب التاريخ والعلوم الاخرى تتلمذ على يد العارفين في بيئته الكربلائية وشعرائها واصطاد من اجواء كربلائه كل معالم التوادد الانساني ، كربلاء لم تبخل عليه بفنون الحياة ، كربلاء وما تحمله من مقدسات تجذب اليها كل انواع البشر من العالم لمشاهدة ذهب قبابها ورياض صحونها ومواكب موتاها واحزان أفرادها وان نقوش مبانيها ضياء مساءاتها تسحر الشاهد على ثوابت شعائرها، مدن الجنوب العراقي من عهد بابل وجنائنها المعلقة تذيب القلوب بشغف مفاتنها وظلالها البهية لابد من حضور حالة الخشوع وانت بين اطلالها تجوب اسواقها شوارعها وما تحمل من تحف نادرة نساؤها الفاتنات وعطر أجواء مباخرها وشموعها المعبقة بالمسك والعنبر، كيف لإنسان يولد بين كل هذه الشواهد ولا يتلبس بالعمق الانساني، حملته مدينته واخرجته لرحم الحياة وترعرع حاملاً ذهن متحلق بكل هذه الاجواء، ثم أتت الحرب وقادته من ثكناتها إلى مشارق عوالم جديدة أنعشت داخله الحنين إلى كل ذرة تركها مرغماً واصبحت جاثية في جوانب روحه وعقله ونفسه متمسكة بتلك الشواهد وهو يتنقل مثل سندباد ليس بحثا عن مغامرة أو تجارة أوصيد ثمين بل عن معرفة ومعلومة وكل كلمة تعزز داخله العدم من الحضور في واقع آخر لم يلمس وجهه إلاَّ عندما تباين وجوده في المكان، فيعود لنفسه متسائلاً: بين هل انا؟ أم هل أنا حقيقة، بقصيدة يشعرها وتشعره أنه هو هو فعلاً والكل من حوله خواء أوشيء منه، هو الانسان الذي وجد ليكون ويحدد معالم الماضي الثر في داخله، والعالم الحاضر في وجوده المسمى غربة وليس وطن، الوطن بعيد في الظاهر ولكنه يحمله كطفل يلعب ويخربش ويعاكس ويشاكس رغم اختلاف الموقع الجغرافي/ هذا باسم الفرات في مآذنه وخريفها وكربلائه وثباتها وعصاميته الدائمة الإقامة في جوانح نفسه وعقله وذهنه وخياله وروحه العذبة كفراته.