يخبر أصحابه عن ( وطنه الجديد)
عن المدن التي استقبلته
عن شلالات بعدد أيام خدمته العسكرية
عن معابد تنطق أيقوناتها بالبخور
وأشجار شيعت سبعين ملكاً
ومازالت تلثغ بالربيع
عن أنهار تهطل منها
نجوم وشموس
يخبرهم عن غابات
تقود الحكايا للبحارة
وقوارب تطل على البحر
كنسر متأهب لأنثاه
عن نسوة يقشرن الجمال بلثغتهن
وعيد دائم الخضرة
ينهل الأطفال منه براءتهم
وبتقدم الشاعر نحو بلوغ النهر حيث الغربة مساحة من الخضرة والمياه والموت والحرب ، كان لا بد له من العودة إلى جنة الأسلاف الجوفاء في ( ميسوبوتاميا ص 75) للتزود بالأسى والاستعطاف السرقي الموغل بالتاريخ
هناك.....
حيث زرع أسلافي الحكمة
وحصدوا الألم
بنوا للآلهة عروشاً
وزينوها بأمانيهم
عمدوا الماء بشهوتهم
والطين جعلوا منه قرطاساً ومأوى
أسلافي وقد
أتخذوا من غضب النهر تقويماً لأيامهم
ليعلموا بدء التاريخ
وما بين بلاد الشاغر الغابرة التي محتها الشمس وأكلتها الحروب والبلاد الجديدة تكمن متعة التجول والمعرفة حيث البوصلة تؤشر لمصبات أخرى لنهر الحلم الذي لا يحميه الأنبياء ، ففي ( البراق يصل إلى هيروشيما ص 5) يخيل للشاعر المشبع بسلطة النبوة إن الفرس المجنح الذي ينتصب كتمثال قبالة قلعة هيروشيما في اليابان هو براق ضل عنه نبيه وهذه إشارة ذكية منه لانتزاع القدسية الإلهية عن عالم فان تعرض لدمار بشري مروع
أمام قلعة هيروشيما
وحيداً
يقف البراق
دون نبي يمتطيه
حاملاً أحلاماً
فقدت صلاحيتها
يجري النهر تحته
نزقاً ينبض بالجنون
كثيرون مروا من أمامه
يرتقون انشغالاتهم
ولم يرفعوا رؤوسهم بعد
متجاهلين الغبار وقد بنى
مستعمرات على جناحيه
ترى بعد الذي جرى للشاعر من غوص في فضاء الغربة الممتع هل يصح له أن يعود أدراجه نحو بلقع عالمه الذي انتزع قلبه منه ؟! والجنة الغريبة المقلقة على بعد نهر وقفزة في الحلم وها لي هوب واغماضة عين وفتح أخرى حتى يصبح قصة ( عن الغريب الذي صار واحداً منهم ص 13) مع النهر الذي يجمع بلدان شرقي أسيا ( ميكون) وصورة الأفعى الأسطورية ذات الرؤوس التي تظلل بوذا
هاأنذا - - قدم في ميكون وأخرى في الأمل
يرقد تاريخ في جعبتي
أنصت للموج بينما الريح تقفل أبوابها خجلى
وفينجان خلفي
تحمل غبارها وابتسامات عابري الطريق والرغبات
الكسبة يبيعون أنين أيامهم بأوراق الموز
صلوات الرهبات تغلف سقوف المعابد
مع أنغام الطبول
حتى تتشابك فوق شجرة يجلس تحتها بوذا
مانحة الطمأنينة لناغا
هاأنذا - - قدم في ميكون وأخرى في الأمل
أتأمل قوارب الصيادين
يدلني صمتهم على مراس نخرها الأبد
ووسط عالم الشرق القصي يهرع الشاعر باسم فرات الفتى العراقي المزمل بالتاريخ الاستبدادي صوب الطبيعة التي تغالب التاريخ في ( شروق أطول من التاريخ ص25)
الصفحة بيضاء
القصيدة تتشكل
وأنت هنا محاط بألف بوذا
ينهمرون برهبانهم وتراتيلهم
وبخورهم
تستنشق آلامهم المستعادة
تتدفق المياه حولك
لكن أصوات الكائنات تربك زهوك
علق أبيض ، أخضر ، أحمر ، أسود
وأعلاق أطفأتها الريح
إبتهالات تتواشج
فتسقط اللغات عنها ويبقى الندم
أضحية لم يمسسها الغفران
تسيل معابد وأطفالاً حفاة
ويبدأ الشاعر تجواله من اليابان ليقف أمام شاعرها الأكبر ( باشو )معلم شعر الهايكو بلا منازع ، وبارع في شعر النثر الياباني ( هايبون ) وهو أيضاً يشكل أحد أعمدة الأدب الياباني في الفترة التي عرفت ب( قرن أوساكي الذهبي )كما يذهب إلى ذلك لشاعر باسم فرات في هوامشه ، لأن هذا الشاعر على ما يبدو هو مفتاح الشعر الصوفي البوذي الخلاب الذي سلب باسم فرات لبه وتركه قاب قوسين من الشعور بالمرارة من جنة عدنه التي حسبها في العراق بينما هي هناك في اليابان ولاوس وفيتنام وبقية بلدان شرق أسيا حيث بلوغ نهر ميكون أسهل ما يكون
ها أنت ذا في حضرة باشو
مترنماً بالنقاء
وممسكاً بعذوبة
طالما جد إليها غيرك
أصابع بوذا تمسد روحك
ما تبحث عنه لن تجده كاملاً
تحب العزلة أحياناً
وربما تزدريها في أحايين أخرى
لكنك تعيشها
وتملأ ذاكرتك
بطقوس رهبان
يبخرون حيواتهم بقصائد باشو
وما خلفه الرائي العظيم
من تعاليم وحكم
ها أنت ذا في حضرته
استنشق هواء مفعماً بالشعر
ومن المتع التي يحوز عليها المتجول في تلك البلاد العجيبة سوق شعبي يذكر الشاعر بالأسواق العربية اسمه هندوري بني على أنقاض الشارع الرئيسي في هيروشيما بعد الحرب العالمية الثانية في نص ( تلاميذ هندوري ص 43)حيث تعج بهذا السوق مئات الحضارات المتراكمة
هندوري يتمدد في رحم المدينة
في ورق الهدايا يبيع التاريخ
يعرض الفلسفة على رفوف السؤال
والذكريات مباحة للجميع
نداءات الباعة توقظ في عاطفة هذا البلد العتيق
صباحاً يدخل التلاميذ هندوري
ظهراً يغازلون ويلهون ويتزوجون
عصراً يحملون أطفالهم للتسوق أو للتسول
مساء يمشون على عكازهم بأسنان تخبئ مستودعات للنيكوتين
تفضحها أبوابها حين يضحكون
وفي الليل يحملون بيوتهم على ظهورهم
يلتقطون ما يجود به النسيان
ولعل الخراب الذي حل في مدن الشرق الأوسط قد تناهى لمدن الشرق الأقصى ، فعمت الطامة على جنان الأرض فأين المفر ؟! إن لعنة الغربة تسحب بالشاعر إلى أرض يباب ثانية وهذا ما يصوره النص هيروشيما ومدن أخرى ص 53) من خراب قد وقع في مدن مثل بابل وأور ونينوى ونفر بالعالم القديم يماثلها بالعالم المعاصر هيروشما ناغاساكي كيوتو كويه ونارا
هي مدن
تعبرنا ونعبرها
لتترك وشمها فينا
مدن نطوف بها كالمجاذيب
نعلق ذكرياتنا فيها
أهالوا نهاراتها على الليل
مدن التيه والدهشة
يوشي باعتها وحواتها
بجمال المطر
ولعل هيروشيما تظل جنة عدن الخربة المعادلة لجنة عدن العراقية المفقودة منذ زمن ، التي يحدو الشاعر الأمل في العثور عليها هناك كما كان ذلك الـ( رجل من هيروشيما ص59).
الذي فقد أباه
في السادس من آب1945
وتشوهت أمه
الذي حمل عوقه
ستين عاماً
ولا يزال
قدم وردة لقاتليه
واحتفى بالحياة
هذا النموذج الجريء من جنة الشرق القصي يقابله الشاعر من (قرية ص61) جنته بالمثل فيعكس ثقافة المغلوبين إزاء همجية الغالبين
أحمل قريتي وأمضي
الظمأ سرة الوقت
الجنود على ضفة النهر
سأستدرجهم إلى الحانة
لكن الجنان الأرضية قد ملأها الغزاة بدماء الضحايا وبات في حكم المؤكد إنها تتعرض للزوال في هجمة بربرية طاحنة ، وها هي الصورة البشعة التي لن تمحي في ( مدرسة تشاوفوني بات ص71) حيث الجنة تتحول إلى أنقاض بفعل غادر جبان
بقع الدماء جفت منذ سنين
ومازال صراخ الضحايا يملأ الحجرات
وعلى جوانبها القيود الصدئة
اخضرت الحرية
التلاميذ اقتيدا بعيداً عن الدرس
والمعلمون إلى مقبرة جماعية
رماد الكتب
يشير لماض ليس بالبعيد
الأسرة اليتيمة لا تكف عن البوح
كذلك الحيطان والشبابيك المحجبة
بينما سبورة الصف
أسمال شبكة منسية
ويتقبل الشاعر باسم فرات وطناً آخر هو قدره القسري يبينه في نص ( هنا حماقات هناك - - هناك تبختر هنا - ص 79) يصلح به خيبته في تلك البلاد المصاقبة لبلاده في الخراب
أوترا أوترا
منفاي الجميل
شوارعك النحيفة كخصور النسوة
مزدحمة بأشجار تجيد الرقص
حدائقك تعيدني إلى الجنائن المعلقة
تستلقي على ذاكرتي
تتعرى بطريقة تثير اشمئزاز
حبيبتي التي استوطنها المسيح
أنهارك لا تشبه الفرات
أراها تتعرق أمام تبغدد دجلة
فتهطل شعراء ونواقيس
جبالك تحملني إلى آشور والآلهة الأربعة
أحاول أن أزيح عطب التاريخ
وهكذا بلغ الشاعر النهر ولم يبلغه، في الحلم بلى ، بينما في الصدق احتل الخراب جنان العالم ولا نجاة من الفناء ف(لا قارب يجعل الغرق يتلاشى ص97).
في رحلة اللاعودة من حبك
استوقفني بوذا وسلمني كتاباً تتقدمه قناديل عظيمة
فتحته فوجدتني أفتح أبواباً تلج إلى أبواب
وعلى كل واحدة نقش اسمك مرصعاً بابتسامتك
وجدت البحر يتوسلك عند بوابة مزينة بكلمات
عرفت أنها قصائدك التي تنكرينها تماما
هذه هي الغربة التي ألقت بالشاعر عند تخوم شرق يشبه شرقه لكن البوصلة تختلف والقسمات والملامح لا تلتقي مطلقاً بينما يكون بلوغ النهر القاسم المشترك للجميع.
تاريخ النشر 17/07/2012 08:34 PM
http://www.almashriqnews.com/inp/view.asp?ID=23967