ثمة نصوص مطمئنة فهي كالمنبطحات والسهول تسير فيها وأنت ترى كلّ شيء ولا يريبك شيء، ليس فيها ما يحملك على خشية أو تردد أو تخمين، وهناك نصوص مخيفة بكل معنى الكلمة، تخشاها وتتهيبها وتتحاشاها لأنك تخاف إن اقتربت منها أن تعلق بها كما يعلق خطاف بشرك أو فراشة في أحبولة عنكبوت أو نحلة في زهرة آكلة. نصوص مسيجة بالأسرار، مليئة بالدهاليز والأقبية والأغوار، فيها مياه فائرة ووهاد وأودية. فيها من المعاني ما يقودك إلى غابات من المعنى فتتعب وأنت تمر من طبقة دلالية إلى أخرى ومن احتمال إلى احتمالات.
نصوص الشاعر العراقي باسم فرات هي من هذا النوع الثاني الذي يبعث فيك القلق وينزع عنك الطمأنينة يستحثك على رحلة في المعنى وسلالة اللفظ، يزرع فيك شجن الإنسان الباحث دومًا عن صفائه الأول ومنابعه الطفلة، الإنسان الذي يموت ليحيا ويحيا ليموت.
نص باسم فرات نص جماليّ، وهو لا شك مصنوع من حداثة أصيلة موغلة في العتاقة ولكنها منبجسة من القديم لتعلن عن جدة متجددة، ولكنه نص معرفة كذلك لأنك وأنت تقرأ شعره تشعر أنك تسافر وتلتقي حضارات وإثنيات مختلفة وتوغل في تفاصيل ثقافية وتضاريس طبيعية جديدة فتكاد تسمع لغات الشعوب وهدير الأنهار في الغابات والأدغال وتسمع تغريد طيور الاكوادور وكل البلاد التي مر بها الشاعر. ولكن هذا التهويم في بلاد العالم وحضاراته ليس يمنعك أبدًا من أن تتحسس مذاقات بلاد ما بين النهرين وكل ما تعرفه عن أساطير بابل وآشور وما ترسخ في خلدك عن عشتار وتموز وملحمة جلجامش العظيمة. إنه نص الإنسان بامتياز، الإنسان الذي يقطع رحلة الحياة ليبلغ نهر الخلود.
في شعره شيء من قلقي ومن قلق العالم، لم أشعر بالغربة وأنا أتخلل خيوط لغته، شممت فيها قصبًا وصوفًا وشايًا وتبغًا وخوخًا وحرقًا مختلفة. يا نسيت وبعض بن مسكوب على فحم صباحي أيام كان أبي حيًّا.
يكتب باسم فرات بحنين أنطولوجي جميل، تشعر من خلاله أنه يشتاق إلى العراق نخيلاً وترابًا وفراتًا ونجومًا وبشرًا وحجرًا وذكرياتٍ، لكن ذاك الحنين لا ينحصر في سلوك بشر عادي تغرب عن وطنه
بل ينزله في حنين إنساني جارف إلى الأصل إلى الينابيع الأولى التي هي الروح الأكبر في شفافيتها الكليانية المطلقة، الإنسان الذي يريد أن يصنع الجمال والحب والحقيقة والخير.
باسم فرات شاعر مختلف، والاختلاف عندي ليس يحتاج بالضرورة إلى تعليل أسلوبي أو دلالي أو إيقاعي بل أكتفي بالقول إن اختلافه يحدث في أديم نفسي ما يشبه التصدعات التي تحدثها أزهار القرنفل وهي تخرج من الأرض، يكتب بلغة لا تشبه إلا هو، وهي أكسير حياة وفن. إنها لغة تربت في ذاكرة عمرها آلاف السنين نهلت مما ترسخ في قاع دجلة من حكايا سومر وأكد وما فقس من بيض العظيم جلجامش، وما تراكم بعد ذلك من رحيق البُنّ في لهاث من صليل خيل العرب الفاتحين. لكن لغة باسم فرات لم تكتف بتلك التخوم ولم تقنع بتلك الضفاف، بل هي لغة ربت وفاضت وباتت تهدر كما النهر لأنها لغة اقتفت روح صاحبها الرحالة الذي خاض البحار وطوف في الآفاق يصافح بعينيه الأرض والوجوه والأبراج والغابات ووجوه الأطفال والحسان ليعتق ذلك في دنان قلبه وروحه ويسكب للقارئ بعد ذلك راحًا لها أرج الإنسان ومذاق الحياة.
الشعر شعر. يبدو التعريف ساذجًا وسخيفًا ومن قبيل تفسير الماء بالماء، لكنّ الشاعر وحده يدرك ما الشعر، يدركه قبل الناقد وقبل الملحّن وقبل أي إنسان آخر، الشعر ينزل عليك بلا مقدمات كالحب والموت، لا يستئذنان أبدًا، يفعلان فيك ما يريدان، يقتلك الموت مرة واحدة، ويقتلك الحب مرات، ويقتلك الشعر بنصل الموت والحب معًا مرارًا. الصدفة الرقمية هي التي جعلتني أقف على تخوم هذه التجرية الفنية الرائدة، وإن كان هذا المبدع العراقي الذي جمع في جرابه عدة مهارات له سيرة فنية مشهودة ورصيد من الكتب المتنوعة يشهد أنه لم يدخل الميدان أمس وإنما هو اسم له رنين وقامة فارهة في عالم الفن والإبداع.