ثماني عشرة مقالة في السيرة دونها الشاعر باسم فرات في كتاب جديد بعنوان (دموع الكتابة)، محاولاً فيها توضيح علاقته بالشعر والقراءة والمؤثرات والمهيمنات التي شكلت تجربته الشعرية.
يشير فرات في مقدمته للكتاب إلى أن همه الأول في هذه المقالات تدوين جزء من حياته، "تبقى عملية تدوين تفاصيل فترة الثمانينيات وحتى هجرتي إلى زي الجديدة (نيوزلندا) في التاسع عشر من آيار 1997 بحاجة إلى الكتابة عن الأشخاص أنفسهم، اي أصدقاء وزملاء تلك الفترة التي امتدت إلى خمسة عشر عاماً". فرات تعلم من التاريخ الكثير؛ على حد قوله، لهذا، مثلما أفرد فصلاً عن الثمانينيات ومن ثم علاقته بالشعر والكتابة، كان هناك فصل بعنوان (ماذا تعلمت من التاريخ؟) حاول فيه تتبع علاقته بالتاريخ و"ماذا قرأت وماذا تعلمت منه، وكيف عصمتني هذه القراءة من تكرار أخطاء طالما وقع فيها غيري، وفي مقدمتها معاداة الحركة القومية العربية بكل أطيافها والنظر إلى القومي العروبي على أنه صدام حسين وعلي حسن المجيد، بينما لا ينظر إلى من يعمل تحت إمرة قوميين غير عرب أو يتعاون معهم على أنه انتهازي أو متخاذل، بل هو وطني".
المقالات كانت سياحة جميلة في وادي الثقافة العراقية، وهو فضلاً عن ذلك يمكن عده ككتاب رحلة متميز، إذ تحدث فيه فرات عن أسفاره المتعددة وتنقلاته التي تعلم منها الكثير واستفاد من ثقافاتها المتغيرة في بناء ثقافته ونصه الشعري.
ربما يكون العنوان غريباً، فـ(دموع الكتابة) تثير إشكاليات كثيرة، إلا أن فرات يجيب عن هذا التساؤل قائلاً: "وهل يمكن أن تكون الكتابة غير سعادة تنجينا من العذابات؟ السعادة متأخرة على الألم في حالة الكتابة، ولولا الألم لما حصلنا على السعادة، فهي؛ أي الكتابة، حاصل تحصيل عذابات ومعاناة وما على الكاتب سوى تدوين تجاربه بطريقته، إن من خلال قصيدة أو قصة أو رواية أو سيرة ذاتية، حينها نجد خلاصنا في التدوين". مؤكداً أنه اشتغل في هذا الكتاب على سيرة ذاتية، تناول فيها بداياته والحِرَف التي عمل فيها والنساء اللواتي لهن الدور الأكبر في حياته، مركزاً في عدة مقالات على خلفية قصائده، مرحلة بلوغ النهر وما بعدها، من خلال تأثير المكان والثقافات الجديدة، حيث هناك "مسألة مهمة انتبهت لها قبل سنوات، وهي ملازمة لي، فمنذ طفولتي كنتُ أرفض التقليد في كل شيء، ولا أميل إلى الشعراء الذين لا يملكون أصواتهم الخاصة، كذلك لا أميل إلى كل مقلّد، وفي الاعدادية أقامت أحدى مدرساتنا معرضًا للرسم، لم أستسغه لأنه عبارة عن تقليد للوحات عالمية، فقلت لزملائي وأين خيالها وتجربتها، اتذكر هذا الكلام وأنا في
الاعدادية". ركز فرات حين قرأ سير كبار الشعراء والأدباء والفلاسفة على أمرين، خلفياتهم الثقافية وتجاربهم الحياتية، فكانت جميعًا مختلفة سوى في أمرين الأول هو هضمهم لتراث وتاريخ ثقافتهم وأوطانهم والثاني تفرّد تجاربهم، و"من هنا أردت أن أكون نفسي فلم تغرني يومًا لندن وباريس وبيروت ولا بقية مدن العالم التي طالما اشتهرت بأدباء وشعراء ولدوا فيها أو سكنوها، بل طالما تمنيت أن تكون تجربتي مختلفة قراءة وسلوكًا ووعيًا وخبرات"، وقد حرص على تحقيق ذلك، فلم يلتفت لهوس الشعراء بالرواية،
أو هوس بعضهم بالتشكيل أو السينما أو المسرح، وإنما جذبه تاريخ الثقافات، لغات وعقائد وحوامل اجتماعية ومنظومات معرفية، وانتابته أسئلة كثيرة في ما يخص ما نحن فيه، وآلمه جهلنا بتنوعنا بحيث راح بعضنا يردد كالببغاء ما يقوله المستشرقون، حتى عن العرب أنفسهم الذين في الحقيقة هم سكان العراق الأصليون مع بعض السريان،
وما يقوله من الفئات الأخرى التي تشكل المجتمع العراقي ومجتمع الهلال الخصيب، متطرفوها ممن تماهى تأكيد الهوية مع الخيال لديهم بحيث تاهت عنهم الحقيقة، فصدقوا تخيلات عن المجد الغابر، الذي لم يكن يومًا، والمشكلة أنهم اقتنعوا به وحشدوا الجهود للدفاع عن منجزهم الحضاري وتاريخهم المنصرم، الذي نسجوه من بنات خيالهم وراحوا يتهمون كل مَن لا يوافق على أوهامهم وما يُصوّره لهم خيالهم المستمد قاعدته من الجلاد. و"عليه كانت هذه القراءات مع العيش الحيّ؛ أي الاندماج، في المجتمعات التي عشت فيها (الأردن، زي الجديدة "نيوزلندا"، اليابان، لاوس وجنوب شرق آسيا، الأكوادور) خير دافع لي لأن أؤمن بالتنوع".
اشتغل فرات في كتابه على الطفولة ومدينته كربلاء، ومن ثم مقاهي الأدب والثقافة، والمرأة التي شغلت حيزاً كبيراً في حياته، ومن ثم تحدث عن الموت والتاريخ والحنين إلى جسر المسيب، وأفرد فصولاً أو مقالات للقصيدة الحياتية والمعرفية والخيال والتجربة والانتماء إلى جيل القصيدة والكتابة باللغات الأخرى.
ربما كانت تجربة نيوزلندا هي الأكثر وقعاً في هذه السير المتعددة التي جمعها الكتاب، فمن خلال هذه التجربة تعلم فرات أنه لا يوجد شاعر جيد وشاعر رديء، بل يوجد شاعر مثابر وآخر غير ذلك، "ولمعرفة الشاعر الجيد علينا أن نؤمن بأن النشر في المواقع الرقمية لا يعني شيئاً مهما تكرر، قياساً بمجلة مختصة بالشعر، أو مجلة أدبية لها سمعتها ومكانتها وتقاليدها في النشر، وأن تعليقات موقع التواصل الاجتماعي وبقية المواقع الرقمية، مهما وصلت فهي بمجملها تعد نكرة أمام اختيار الشاعر ضمن دراسة جامعية أو ملف منشور، لأناس لا ينتمون إلى هويته الضيقة أو مدينته".
16 كانون الأول 2013
جريدة الصباح العراقية
http://www.alsabaah.iq/ArticleShow.aspx?ID=60298