خريف المآذن المجموعة الشعرية الثانية للشاعر المغترب باسم فرات بعد مجموعته البكر (( أشدّ الهديل) ومايلفت نظر القاريء وجود ثلاث عتبات تأويلية تمهد لدلالات غير مألوفة تتساوق وتتضارب في آن وعنوان المجموعة هي العتبة الاولى التي تخلق انزياحا شعريا بين الخريف والمآذن فكلا اللفظين يشيران بدلالاتهما الى رمز مُحَلّق يوغل في مضامينه وكشوفاته فالمآذن رمز شاخص لمقدس خالد والخريف رمز متحرك يؤذن بالافول والزوال الذي يتبعه الموت فالولادة الجديدة والعتبة الثانية هي بطاقة الشاعر الشخصية التي سجلت بغرائبية تتشابك بدوالها فمنذ عام 1967 م الى 1999م ثمة حراك وصراع بين الخير والشر وقع في طريقه ضحايا وشهداء وصودرت عظام أسلاف مُقدّسَة وهُدّمتْ صوامع ومساجد الا ان الولادة الحقيقية للشاعر تمثلت في صدور ديوانه البكر ( أشَدّ الهَديل) هذه التواريخ المتسلسلة زمانيا والمختلفة مكانيآ تؤرخ للتكوين الثقافي والاجتماعي الذي خلق ابداعية الشاعر شخصياً وتحيلنا العتبة الثالثة ( الاهداء) الى تصادم صارخ بين رمزين ( جينيت) باعتبارها رمزا اموميا قادما من حضارة الغير و( أمّه) باعتبارها رمزاً خصوبياً تمثّل الأرض وأناة الشاعر فنحن ازاء لقاء بين حضارتين يقف الشاعر بينهما ليهدهد ماقد يحصل بين الجذور مركزاً والآخر هامشاً وصولاً الى تلاقح من خلال نصوصه.
ضروري لتحقيق معادلة الحياة كما يراها هو فأذا قيل( أن العنوان ثريا النص) فكيف وقد رافقته محطتان أخريتان تشبان بالغموض حيناً والوضوح أخرى ومابين الاثنين في أكثر التأويلات تحقيقاً لظاهر النصوص فهل حققت المجموعة هذه الرؤى؟.. وهل أستطاع باسم فرات خوض هذه الرؤيا شعرياً وشعورياً ؟ فقول نصوصه بما يؤكد صحة عتباته وبراعة منطقته وثراء تجربته , في المجموعة اثنتا عشر قصيدة او نصاً تحتفل جميعها بشعرية ضاجة وبلغة تتماهى وحساسية التجربة التي خاضها الشاعر ففي قصيدة( الى لغة الضوء أقود القناديل) ثمة صراع خفي في وطأة معاناة الشاعر في منفاه الداخلي واحتراقه لصنع وطن داخل منفاه لعل فيه فسحة من اقتراب يشكل لديه اقسارآ لذاته التواقة والمتشكلة بذواته وذوات الغير بدوالها المعروفة والمرموزة يقول
أي حلم يجفف طفولتي
أي حلم يشق صباحاتي
أنا الاخير في قافلة العزلة
صهيلي يتكيء على صحراء فاض حدادها
ويهرول بين الامطار وبين الشظايا
في هذا المقطع المفتتح يلخص الشاعر مايريده لاحقا وترد اشارة للحرب التي عاشها فلقد لمس الشظايا وشم دخانها ورآها تقتل اصدقاءه فمن أي طريق يقود قناديله العمياء الى لغة الضوء التي خنقها دخان الحروب وهل يشكل الشعر خلاصآ من قساوة الاخطاء التي عاشها العراقيون ؟وزهت من خلال قتلهم متسلسلة عبر الأصدقاء والأقر بين (أخطائي انا /أخطائي /أبي خطأ يتتاسل /امي خطا ينتظر خطأ من أجل خطأ /أنا خطأ يعدّ الخطى ،فيخطئ )ان سلسلة الاخطاء هذه هي التي صيرت القناديل عمياء ورغم التكلف الظاهر في هذه الجمل الا انها تشي وتشير الى مضامين خطيرة على مستوى التأويل الفردي والجماعي ،الأسري والمجتمعي فما جرى نتاج لتجربة العراق القاسية والإحساس بالخطأ وعي يؤسس لصيرورة جيدة ، في (ارسم بغداد) تقود الغنائية المعروفة بالبوح الى خذلان معلن فبغداد هنا رمز مقصي في تاريخ المقدس والمدنس لا يستطيع الشاعر وهو البعيد عنها ألا أن يراها مما لحق بها قسرا (أنا بلا متع بلا امجاد خذلـتني أحلامي / منعزلا في أقصى الضياع / ترثيني فاجعتي ويقودني حطامي )انه بلا حول ولا قوة الا قوة الكشف الكامنة في الشعر التي تحيل الأشياء إلى صبا بات منسكبة وصراخات تحطم مالوف الكلام ومرسوم الخطط في رقعة شطرنج اللعبة الدولية التي تريد لبغداد الموت؛ (هل استدعي اعوامي الثلاثين لأقي قامة النرجس فحولتي ) ولا خلاص له ألا في (واحتسي ثمالة كأس تتزاحم فيه مرايانا )والمرايا حلم زائل في أفق واقعة ألاغتراب ،غربته الجسدية عن جذور المقدس . في قصيدة ( عانقت برجا خلته مأذنة ) تصادم دلالي واع يتقصده الشاعر ليشير إلى اختلاط مفهوم ما يأتي واغتراب روحي ( بينما أحاول أن امسك بالنعاس /تخمش وجهي شمس تطارد فلول الليل / مثل جيش انهكتة الهزائم / يشرئب الأسى في خطواتي /فأصيح /كم من السنوات أعدت لكلام مُتشح بالسواد )أن العلاقة بين البرج والمئذنة تشكلها الثيمات الدلالية والبصرية لها وحين نتعمق في كشفها بين الدالين نرى الشاعر يتماهى بين الاثنين حلميا لاواقعيا ليشير من خلال ذلك إلى غربة تغتر الأشياء بلسانها الخاص وتقولها بمضامينها فلا مجال للمقارنة الشكلية المقصورة هنا فالتناص حاد بين دوال البرج والمئذنة مقدساً كان أم مدنساً في ( دلني أيها السواد ) سواد من نوع خاص بدلالاته الايحائية وبصوره التأويلية وانزياحات الفاظه وجمله نحو خلق رؤى وعلاقات مكثفة تعطي أحداثها تساوقا لفظيا واغرافا تمظهريا من زخم باشكاله وعمود نص قصير ومثير يؤكد ما للشاعر من قدرة على امساك لغة واجتراح مضامين جديدة في جمل قصيرة وعمود نص مختلف كليا عن نصوص المجموعة (مزدحماً /بانشغال الآس/ يلوّح بأصابعه للذين يمضون ومعهم أسئلة الوردة ) وكما قلت فهو سواد بسواد جديد يمثل لحظات انثيال صورية تتزاحم فيها المداليل وتتعانق بدوالها مفترقة قصدا وملتصقة عفويا فيكون سواد مختلف ألوانه (العراق /المرأة /الماضي / الحاضر /الغربة /الجنس /الحنين / إلى الرحم /الطفولة /الموت /الحياة ) يقول الشاعر ( دلني /كيف ارسم بروقي فوق سريرك / دلني / دلني أيها السواد ) فأي سواد هذا الذي يقود الضوء عميقاً واسى مضطرماً في عتمته
غربة ودهاليز اغتراب فيكون النص شاهداً على قساوة ما رأى الشاعر ( الذين أوقدوا شمعتك / آهلون بالنزيف ) فاذا كانت الشمعة انبعاثا طارئا تخلق من روح الشاعر فان صيرورتها تؤكد نزفها الدائم الذي سكنها فكانت اختصارا لزمن أكثر اشراقآ واعمق توصيلا وأشد ايغالآ بالنزيف الحقيقي للضوء , في ( عبرت الحدود مصادفة) يكون مفتتح النص اشارة الى حراكه الداخلي ( الحروب التي كنت خاسرها الوحيد) الا ان تجربة الحرب وماتؤطره في حياة من عاشها تخلق ذاكرة مثقوبة تسمح باختراق دائم القساوة للتجربة عبر اللاوعي الى الوعي وظلامة الكلام المفيد في الزمن غير المفيد ( البلاد فرت من أصابعي) وصولآ الى ارتكاز مبأر لطبيعة هذه التجربة ( من يمسك ظله ؟/ أخطاؤنا وطن يتكيء على حربه / وأحلامنا تنمو على الشرفات )/ فأية حدود ؟ اهي حدود الروح أم حدود الجسد؟ أم كلاهما وكيف تحافظ الشرفات المكشوفة على اسرار الشروع السري في جب الروح ، في ( عناق لايقطعه سوى القصف) تكون الحرب حاضرة رغم ابتعادها عن اطار الذاكرة المثقوبة الا انها مازالت تسير بالعروق والعظام وتنفلت احيانا من لاوعي الشاعر من خلال لفظة او صورة عابرة ( رماد أيامي نوافذ طويلة الامد) و( اتذكر اني بلا وطن) و ( بساطيل الحرس مسخت ذكرياتي / وكل مافي راحتي رماد) في ( اقول انثى ولااعني كربلاء) مازالت الحرب تفوح على شذاها في كلمات النص ( ارى دمي يتدحرج بين الحدود) و( انا لم اخبئ طفولتي في قميصي/ لكنها سرقتني من الحرب) الحرب تلقي بظلالها على كل خطواته لانها هوت المدنس الذي لايطهره الا الدم عبر ايقونات المقدس المتحجر في شوارع كربلاء في ( عواء ابن آوى ) فمن ابن آوى هنا ؟ اهي الحرب الذي دخلناها باكذوبة ام الماضي الذي تعكزنا عليه؟ ومازال صدى صرخاته ماكثة في اعماقنا من خلال هواجسنا وافعالنا بواقعة الطف مثلآ وماجرى فيها من ظلم وجور وقتل , ان ابن آوى هنا طالع من الحروف والكلمات والخجل يختصر مسافة الخديعة زمانا ومكانا ليقول ان تجاربنا التي خضناها كنا فيها اسرى صراخ القطيع وصدى عواء ابن آوى المتخفي بلباس ذئاب البراري متفجرا علينا اغتيالآ وزهوآ ونحن في طريقنا الى الامحاء عبر حروب كاذبة ومخططات سود عبر التاريخ في قصيدة ( خريف المآذن) تأكيد على ثوابت يراها الشاعر ويقر بانها منطلق متغيرات تحركها الفجيعة وتؤطرها الحروب وتغرسها احلام الخوف من قادم مجهول ( ولدرء براءتك من هشيم صرخات خمبابا/ يخضبون غبارك بالحناء ) والرموز هنا رموز استشهادية مدماة عبر الماضي والحاضر ( الحسين/ كربلاء/ الحلاج / قباب الله/ باب السلامة) والمكان الاستشهادي القربان مختصرا في عتبة كربلاء والمآذن في غفوتها الخريفية وانتظارها لربيع قادم تشكل مثابة لفهم جديد لمعاني هذه القرابين ودروسها الاستشهادية المستعادة على شوارع كربلاء وفي سراديب بيوتها واحراش بساتينها ومن هنا تتخلق كربلاء الجديدة المضرجة بالدماء ويشكل الفراغ المنقوط في آخرة النص مسكوتآ عنه ينسجم وحركته مع اصطفاف لرؤيا شعرية جديدة مفاجئة فعند كل شارع ( ثمة مفرزة تفتيش ) في ( جنوب مطلق) .. مازالت الذاكرة المثقوبة برصاص الحرب تتناسل آسى وتوالد جروحآ وتتماهى خطى محاصرة في الغربة والاغتراب ( بلا جواز سفر يشعل الفرات امواجه لي ) و ( وابادل الشظايا بالورود والقصائد) و ( لي من الحروب تذكار ومن البلاد اقصى الجراح) الجنوب هنا جنوب الروح الهائمة عبر الزمان والمكان تحلق في حروب مضت وسماوات مظلمة وبروق مميتة ومعارك لاهبة لاناقة لباسم فيها ولاجمل ومن صدى آهات قتلى الحرب يكون الجنوب جنوبا مطلقا يختصر الوطن كله لافتات سوداً و حداداً .
النص الاخير (( 1/3/1967م ) يختلف كليآ عن نصوص المجموعة فثمة صناعة واعية ومغادرة معلنة لعفوية الصورة المنضبطة في انزياحاتها وبدلا من الاحتفال في هذه القصيدة يحل الجنون اختزالآ لخلق القصيدة المسكونة بروح الحرب ايضا ( البلاد خريف طويل / سيل من الغثيان/ نهار يختبيء تحت القبعة) وهو مازال يغني الوردة محاصرآ بالحروب ان هذا النص على قصره يعبيء ذاكرة القصيدة عبر الغربة بمدلولاتها المكبوتة ( الحروف في بيتي /لكن القصيدة تتهيكل) وهو في بحث دائم عن فسحة امل تعطيه الحرية ف( لاأجد مسربآ للحرية) فهل الغربة بما تعطيه من حرية سجن جديد للشاعر؟.
ان الشاعر باسم فرات في هذه المجموعة مازال يعيش تجربة الحرب التي خاضها مرغما وكشف الخديعة التي وقع فيها العراقيون مبكرآ ومع ان الحرب انتهت فهي مازالت مكبوتة في اعماق النفوس تسير بصمت في دمائنا وتشير الى ماهو متوقع بعد سلسلة من التأريخ الظالم والمظلم عبر برمجة مقصودة لصنع سياسة الرب المترنم الذي لايفهم فعله الا عبر الاوامر العليا فهو بلا وعي للحاضر ولافهم للماضي , لقد استطاع الشاعر باسم فرات عبر لغة جميلة مكثفة وابتكارات رائعة وانزياحات أخاذة ان يؤكد جدارته في كتابة نص حديث يثير الاسئلة والشجن منطلقا في ذلك عبر نسق معلن في اشاراته عن الحرب ونسق مضمر في ادانته الصارخة لها وهذا هو الذي حدث في خريف المآذن.
ضروري لتحقيق معادلة الحياة كما يراها هو فأذا قيل( أن العنوان ثريا النص) فكيف وقد رافقته محطتان أخريتان تشبان بالغموض حيناً والوضوح أخرى ومابين الاثنين في أكثر التأويلات تحقيقاً لظاهر النصوص فهل حققت المجموعة هذه الرؤى؟.. وهل أستطاع باسم فرات خوض هذه الرؤيا شعرياً وشعورياً ؟ فقول نصوصه بما يؤكد صحة عتباته وبراعة منطقته وثراء تجربته , في المجموعة اثنتا عشر قصيدة او نصاً تحتفل جميعها بشعرية ضاجة وبلغة تتماهى وحساسية التجربة التي خاضها الشاعر ففي قصيدة( الى لغة الضوء أقود القناديل) ثمة صراع خفي في وطأة معاناة الشاعر في منفاه الداخلي واحتراقه لصنع وطن داخل منفاه لعل فيه فسحة من اقتراب يشكل لديه اقسارآ لذاته التواقة والمتشكلة بذواته وذوات الغير بدوالها المعروفة والمرموزة يقول
أي حلم يجفف طفولتي
أي حلم يشق صباحاتي
أنا الاخير في قافلة العزلة
صهيلي يتكيء على صحراء فاض حدادها
ويهرول بين الامطار وبين الشظايا
في هذا المقطع المفتتح يلخص الشاعر مايريده لاحقا وترد اشارة للحرب التي عاشها فلقد لمس الشظايا وشم دخانها ورآها تقتل اصدقاءه فمن أي طريق يقود قناديله العمياء الى لغة الضوء التي خنقها دخان الحروب وهل يشكل الشعر خلاصآ من قساوة الاخطاء التي عاشها العراقيون ؟وزهت من خلال قتلهم متسلسلة عبر الأصدقاء والأقر بين (أخطائي انا /أخطائي /أبي خطأ يتتاسل /امي خطا ينتظر خطأ من أجل خطأ /أنا خطأ يعدّ الخطى ،فيخطئ )ان سلسلة الاخطاء هذه هي التي صيرت القناديل عمياء ورغم التكلف الظاهر في هذه الجمل الا انها تشي وتشير الى مضامين خطيرة على مستوى التأويل الفردي والجماعي ،الأسري والمجتمعي فما جرى نتاج لتجربة العراق القاسية والإحساس بالخطأ وعي يؤسس لصيرورة جيدة ، في (ارسم بغداد) تقود الغنائية المعروفة بالبوح الى خذلان معلن فبغداد هنا رمز مقصي في تاريخ المقدس والمدنس لا يستطيع الشاعر وهو البعيد عنها ألا أن يراها مما لحق بها قسرا (أنا بلا متع بلا امجاد خذلـتني أحلامي / منعزلا في أقصى الضياع / ترثيني فاجعتي ويقودني حطامي )انه بلا حول ولا قوة الا قوة الكشف الكامنة في الشعر التي تحيل الأشياء إلى صبا بات منسكبة وصراخات تحطم مالوف الكلام ومرسوم الخطط في رقعة شطرنج اللعبة الدولية التي تريد لبغداد الموت؛ (هل استدعي اعوامي الثلاثين لأقي قامة النرجس فحولتي ) ولا خلاص له ألا في (واحتسي ثمالة كأس تتزاحم فيه مرايانا )والمرايا حلم زائل في أفق واقعة ألاغتراب ،غربته الجسدية عن جذور المقدس . في قصيدة ( عانقت برجا خلته مأذنة ) تصادم دلالي واع يتقصده الشاعر ليشير إلى اختلاط مفهوم ما يأتي واغتراب روحي ( بينما أحاول أن امسك بالنعاس /تخمش وجهي شمس تطارد فلول الليل / مثل جيش انهكتة الهزائم / يشرئب الأسى في خطواتي /فأصيح /كم من السنوات أعدت لكلام مُتشح بالسواد )أن العلاقة بين البرج والمئذنة تشكلها الثيمات الدلالية والبصرية لها وحين نتعمق في كشفها بين الدالين نرى الشاعر يتماهى بين الاثنين حلميا لاواقعيا ليشير من خلال ذلك إلى غربة تغتر الأشياء بلسانها الخاص وتقولها بمضامينها فلا مجال للمقارنة الشكلية المقصورة هنا فالتناص حاد بين دوال البرج والمئذنة مقدساً كان أم مدنساً في ( دلني أيها السواد ) سواد من نوع خاص بدلالاته الايحائية وبصوره التأويلية وانزياحات الفاظه وجمله نحو خلق رؤى وعلاقات مكثفة تعطي أحداثها تساوقا لفظيا واغرافا تمظهريا من زخم باشكاله وعمود نص قصير ومثير يؤكد ما للشاعر من قدرة على امساك لغة واجتراح مضامين جديدة في جمل قصيرة وعمود نص مختلف كليا عن نصوص المجموعة (مزدحماً /بانشغال الآس/ يلوّح بأصابعه للذين يمضون ومعهم أسئلة الوردة ) وكما قلت فهو سواد بسواد جديد يمثل لحظات انثيال صورية تتزاحم فيها المداليل وتتعانق بدوالها مفترقة قصدا وملتصقة عفويا فيكون سواد مختلف ألوانه (العراق /المرأة /الماضي / الحاضر /الغربة /الجنس /الحنين / إلى الرحم /الطفولة /الموت /الحياة ) يقول الشاعر ( دلني /كيف ارسم بروقي فوق سريرك / دلني / دلني أيها السواد ) فأي سواد هذا الذي يقود الضوء عميقاً واسى مضطرماً في عتمته
غربة ودهاليز اغتراب فيكون النص شاهداً على قساوة ما رأى الشاعر ( الذين أوقدوا شمعتك / آهلون بالنزيف ) فاذا كانت الشمعة انبعاثا طارئا تخلق من روح الشاعر فان صيرورتها تؤكد نزفها الدائم الذي سكنها فكانت اختصارا لزمن أكثر اشراقآ واعمق توصيلا وأشد ايغالآ بالنزيف الحقيقي للضوء , في ( عبرت الحدود مصادفة) يكون مفتتح النص اشارة الى حراكه الداخلي ( الحروب التي كنت خاسرها الوحيد) الا ان تجربة الحرب وماتؤطره في حياة من عاشها تخلق ذاكرة مثقوبة تسمح باختراق دائم القساوة للتجربة عبر اللاوعي الى الوعي وظلامة الكلام المفيد في الزمن غير المفيد ( البلاد فرت من أصابعي) وصولآ الى ارتكاز مبأر لطبيعة هذه التجربة ( من يمسك ظله ؟/ أخطاؤنا وطن يتكيء على حربه / وأحلامنا تنمو على الشرفات )/ فأية حدود ؟ اهي حدود الروح أم حدود الجسد؟ أم كلاهما وكيف تحافظ الشرفات المكشوفة على اسرار الشروع السري في جب الروح ، في ( عناق لايقطعه سوى القصف) تكون الحرب حاضرة رغم ابتعادها عن اطار الذاكرة المثقوبة الا انها مازالت تسير بالعروق والعظام وتنفلت احيانا من لاوعي الشاعر من خلال لفظة او صورة عابرة ( رماد أيامي نوافذ طويلة الامد) و( اتذكر اني بلا وطن) و ( بساطيل الحرس مسخت ذكرياتي / وكل مافي راحتي رماد) في ( اقول انثى ولااعني كربلاء) مازالت الحرب تفوح على شذاها في كلمات النص ( ارى دمي يتدحرج بين الحدود) و( انا لم اخبئ طفولتي في قميصي/ لكنها سرقتني من الحرب) الحرب تلقي بظلالها على كل خطواته لانها هوت المدنس الذي لايطهره الا الدم عبر ايقونات المقدس المتحجر في شوارع كربلاء في ( عواء ابن آوى ) فمن ابن آوى هنا ؟ اهي الحرب الذي دخلناها باكذوبة ام الماضي الذي تعكزنا عليه؟ ومازال صدى صرخاته ماكثة في اعماقنا من خلال هواجسنا وافعالنا بواقعة الطف مثلآ وماجرى فيها من ظلم وجور وقتل , ان ابن آوى هنا طالع من الحروف والكلمات والخجل يختصر مسافة الخديعة زمانا ومكانا ليقول ان تجاربنا التي خضناها كنا فيها اسرى صراخ القطيع وصدى عواء ابن آوى المتخفي بلباس ذئاب البراري متفجرا علينا اغتيالآ وزهوآ ونحن في طريقنا الى الامحاء عبر حروب كاذبة ومخططات سود عبر التاريخ في قصيدة ( خريف المآذن) تأكيد على ثوابت يراها الشاعر ويقر بانها منطلق متغيرات تحركها الفجيعة وتؤطرها الحروب وتغرسها احلام الخوف من قادم مجهول ( ولدرء براءتك من هشيم صرخات خمبابا/ يخضبون غبارك بالحناء ) والرموز هنا رموز استشهادية مدماة عبر الماضي والحاضر ( الحسين/ كربلاء/ الحلاج / قباب الله/ باب السلامة) والمكان الاستشهادي القربان مختصرا في عتبة كربلاء والمآذن في غفوتها الخريفية وانتظارها لربيع قادم تشكل مثابة لفهم جديد لمعاني هذه القرابين ودروسها الاستشهادية المستعادة على شوارع كربلاء وفي سراديب بيوتها واحراش بساتينها ومن هنا تتخلق كربلاء الجديدة المضرجة بالدماء ويشكل الفراغ المنقوط في آخرة النص مسكوتآ عنه ينسجم وحركته مع اصطفاف لرؤيا شعرية جديدة مفاجئة فعند كل شارع ( ثمة مفرزة تفتيش ) في ( جنوب مطلق) .. مازالت الذاكرة المثقوبة برصاص الحرب تتناسل آسى وتوالد جروحآ وتتماهى خطى محاصرة في الغربة والاغتراب ( بلا جواز سفر يشعل الفرات امواجه لي ) و ( وابادل الشظايا بالورود والقصائد) و ( لي من الحروب تذكار ومن البلاد اقصى الجراح) الجنوب هنا جنوب الروح الهائمة عبر الزمان والمكان تحلق في حروب مضت وسماوات مظلمة وبروق مميتة ومعارك لاهبة لاناقة لباسم فيها ولاجمل ومن صدى آهات قتلى الحرب يكون الجنوب جنوبا مطلقا يختصر الوطن كله لافتات سوداً و حداداً .
النص الاخير (( 1/3/1967م ) يختلف كليآ عن نصوص المجموعة فثمة صناعة واعية ومغادرة معلنة لعفوية الصورة المنضبطة في انزياحاتها وبدلا من الاحتفال في هذه القصيدة يحل الجنون اختزالآ لخلق القصيدة المسكونة بروح الحرب ايضا ( البلاد خريف طويل / سيل من الغثيان/ نهار يختبيء تحت القبعة) وهو مازال يغني الوردة محاصرآ بالحروب ان هذا النص على قصره يعبيء ذاكرة القصيدة عبر الغربة بمدلولاتها المكبوتة ( الحروف في بيتي /لكن القصيدة تتهيكل) وهو في بحث دائم عن فسحة امل تعطيه الحرية ف( لاأجد مسربآ للحرية) فهل الغربة بما تعطيه من حرية سجن جديد للشاعر؟.
ان الشاعر باسم فرات في هذه المجموعة مازال يعيش تجربة الحرب التي خاضها مرغما وكشف الخديعة التي وقع فيها العراقيون مبكرآ ومع ان الحرب انتهت فهي مازالت مكبوتة في اعماق النفوس تسير بصمت في دمائنا وتشير الى ماهو متوقع بعد سلسلة من التأريخ الظالم والمظلم عبر برمجة مقصودة لصنع سياسة الرب المترنم الذي لايفهم فعله الا عبر الاوامر العليا فهو بلا وعي للحاضر ولافهم للماضي , لقد استطاع الشاعر باسم فرات عبر لغة جميلة مكثفة وابتكارات رائعة وانزياحات أخاذة ان يؤكد جدارته في كتابة نص حديث يثير الاسئلة والشجن منطلقا في ذلك عبر نسق معلن في اشاراته عن الحرب ونسق مضمر في ادانته الصارخة لها وهذا هو الذي حدث في خريف المآذن.