انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

    سعد التميمي:ديستوبيا الذاكرة في ديوان "خريف المآذن"

    avatar
    Admin
    Admin


    المساهمات : 533
    تاريخ التسجيل : 14/09/2010

    سعد التميمي:ديستوبيا الذاكرة في ديوان "خريف المآذن" Empty سعد التميمي:ديستوبيا الذاكرة في ديوان "خريف المآذن"

    مُساهمة  Admin الخميس أكتوبر 14, 2021 4:31 am

    خريف المآذن، مجموعتي الشعرية الثانية، والمدللة مع النقاد والشعراء والكُتّاب، كُتب عنها عشرات المقالات والقراءات، لا أقول شارفت على المائة، بل حتمًا فوق الخمسين كثيرًا، حتى ديواني "بلوغ النهر لم يصل عدد ما كُتب عنه، إلى ما وصل إليه ديوان "خريف المآذن"، لكن "بلوغ النهر حظي بدراسات طويلة، ما يجعل عدد كلماتها مجتمعة، أكثر من عدد كلمات ما كُتب عن "خريف المآذن"، على الرغم من أن عددًا من المقالات كُتبت عن الديوان المحتفى به اليوم لم أحصل عليها. وها هو الناقد الأكاديمي الأستاذ الدكتور سعد التميمي، يُشرفني بمقالة جديدة نُشرت اليوم في صحيفة الصباح العراقية، فَلَهُ الشكر والتقدير. طيًّا المقالة لمن يودّ أن يتكرم بقراءتها.
    ...................................................................................
    ديستوبيا الذاكرة في ديوان "خريف المآذن"
    للشاعر باسم فرات
    أ.د.سعد التميمي
    تشكل الذاكرة بنية مؤسسة في التجربة الشعرية للشاعر باسم فرات الذي عرف بأدب الرحلات، فهو في غربته وتجواله في المدن، تثقل كاهله ذاكرة حية وفاعلة لم تفارقه وكانت توقظ في نفسه بين الحين والآخر الحزن والأسى على أحداث ومحطات حفرت جروحا عميقة ليس من السهل تجاوزها، وهذا مانجده في ديوانه (خريف المآذن) إذ لم تستطع مساحات الجمال التي صادفها في غربته على مستوى الطبيعة والإنسان وتفاصيل الحياة، أن تمحو من ذاكرته صور الألم والخراب والحزن، التي كانت تتسرب بين الحين والآخر إلى قصائده، لتشكل الذاكرة ديستوبيا تصور الخراب في واقع مرير برؤية يختلط فيها الواقعي بالخيالي ليعيد صور الخوف والرعب من مخلفات الحروب والحصار بأشكاله المختلفة في مجتمع تسوده الفوضى ويتلاشى فيه الأمن والجمال، وإذا كانت الديستوبيا تشكل عالـمًا وهمـيًّا خياليًّا يتلاشى فيها الخير، يخلقه الشاعر ليعكس تشاؤمه من المستقبل، فإنّه عند الشاعر باسم فرات يمثل واقعًا مر به وبقي عالقًا في ذاكرته، ويتجلى ذلك في قصيدة (جَنــوبٌ مُطـلَق) التي يقول فيها:
    ... وَأَقُولُ: في الأَقَاصِي البَعِيدَة
    ثَمَّـةَ مَا يَدْعُو لِلتَّذَكُّرِ
    في الْمُدُنِ الَّتِي أَنْهَكَـهَا البَحْـرُ
    أَردِمُ أَحْلامِي
    لِي مِنَ الْحُـرُوبِ تِذْكَارٌ
    وَمِنَ البِلادِ أَقْصَى الجِـرَاحِ
    لِي مِنَ الأَسَى دُمُوعُ المَشَاحِيفِ وَارْتِبَاكُ القَصَبِ
    تَأَوُّهَاتُ النَّخْلِ
    بَـوْحُ البُرْتُـقـالِ
    دَمُ الآسِ
    هَناكَ...
    تَرَكْتُ عَلَى خَارِطَةِ الطُّـفُـولَةِ،
    بَرَاءَةً ثَقَّـبَـتْـهَا عُفُونَـة ُالعَسْـكَرِ
    وَمِنَ البَيْتِ سَرَقَـتْـنِي الثُّـكُـنَاتُ
    وَرَمَـتْـني إِلَى الْمَنْـفَى
    أَنَا والسَّـماءُ وَحِيدَانِ
    ثَمَّـةَ أَبَدِيَّـةٌ تَسْــتَظِلُّ بِي
    ثَمَّـةَ نِسْـيانٌ يُغَـادِرُني
    تَارِكًا رَائِحَـةَ القَصْـفِ في مَمَـرَّاتِ عُـمْري
    فعنوان القصيدة يشير إلى تلازم الألم والخراب والموت بالجنوب، وعزز ذلك تنكير(جنوب) ويأتي الوصف (مطلق) ليؤكد هذا التلازم، وهذا ما يؤكده الشاعر في مكان آخر من القصيدة (ثمة أبدية تستظل بي/ثمة نسيان يغادرني ) أما النقاط التي تسبق الجملة الأولى من القصيدة فقد جاءت لتعبر عن حجم المعاناة، وبالعودة إلى المعجم الشعري في هذه القصيدة الذي لا يختلف عن قصائد الديوان الأخرى، فإنه جاء ليرسم ملامح دستوبيا الذاكرة بما تحمله من وجع بقي حاضرًا في حله وترحاله، (التذكر، أنهك، أردم، أحلام، حروب، تذكار، الجراح الأسى، الدموع، الارتباك، تأوهات، بوح، دم، عفونة، العسكر، الثكنات، المنفى، القصف، القَتَلَى، الجُـوعَ، تَحْتَـطِبُ، سَـخَّمَ، الفَـقْـرُ، اليُـتْـمُ، الْمَنَافِي، القَذَائِفُ، الحِصَارِ) إذ ترسم هذه المفردات من خلال من ينتج عنها من صور تقوم على الانزياح تارة والمفارقة تارة أخرى، عالم مرعب مخزون في ذاكرة تعاود للشاعر بين الحين والآخر، فإسناد الفعل (أردم) إلى (الأحلام) التي يشير فيها ياء المتكلم إلى الشاعر يحول الأحلام المعنوي إلى أنقاض يردمها الشاعر للتخلص منها لما تحمله من مآسٍ وانكسارات في مفارقة فاعلة، ويأتي إسناد شبه الجملة (لي من الحروب) إلى (تذكار) وإحالة ضمير المتكلم (الياء) إلى الشاعر ليحيل إلى صورة الواقع في زمن غادره الشاعر دون أن تغادر الأحداث ذاكرته، ليشكل ديستوبيا يرسم ملامحها الشاعر في صور متعددة، مستثمرًا التركيب الإضافي الذي يقوم على خرق القاعدة، محققًا الانزياح على مستوى التركيب مثل (دُمُوعُ المـَشَاحِيفِ، ارْتِبَاكُ القَصَبِ، تَأَوُّهَاتُ النَّخْلِ، بَـوْحُ البُرْتُـقـالِ، دَمُ الآسِ، خَارِطَةِ الطُّـفُـولَةِ، عُفُونَـة ُالعَسْـكَر) فالشاعر في هذه الصور التي يرسم فيها ديستوبيا ذاكرته، يسقط مشاعره ومخاوفه وقلقه على الجمادات والطبيعة تعميقًا لحجم الانكسار والألم لما عاشه في جنوب مثقل بالمآسي.
    فعندما تذرف المشاحيف التي تحيل للجنوب، ويرتبك القصب، ويتأوه النخل، ويبوح البرتقال بأوجاعه، ويصبح للآس دم يسيل من جراحاته، وتكون للطفولة خارطة مثخنة بالأحزان تتضح ديستوبيا الذاكرة في صورة مركبة تتشكل من صور عديدة كلها تصب في هدف واحد، ولا ينسى الشاعر أن يصور عسكرة المجتمع التي سادت وقذفت به في المنفى، من خلال إسناد الفعلين (سرق، رمى) إلى (الثكنات) في إحالة على العسكرة، ثم يأتي إسناد الفعل (يغادر) إلى (النسيان) ليؤكد حضور الذاكرة في صورتها الفاسدة وواقعها المرير الذي تسوده الفوضى والخراب النفسي والجسدي، فطفولة الشاعر التي مزقها الفقر واليتم ما تزال تسخر منه بعد أن فعلت الحرب فعلها في الروح والجسد.
    وعلى الرغم من أن الديستوبيا عالم يتجرد فيه الإنسان من إنسانيته وتهيمن على المجتمع الصراعات والانتهاكات ويتحكم فيه الشر بأشكاله المختلفة ويعم فيه الخراب، والقتل والقمع والفقر والمرض، على عكس اليوتوبيا المكان الفاضل الذي تعم فيه العدالة والخير، وارتباط الاثنين في الغالب بالمستقبل وارتباطهما بالأعمال الروائية والمسرحية، إلا إن ذلك لا يلغي حضورهما في الشعر والذاكرة وهذا ما وجدناه في ديوان (خريف المآذن) ففي قصيدة (خَرِيفُ المـَآذِنِ..رَبِيعُ السَّـوادِ.. دَمُنا..!!) التي اختار الشاعر منها عنوان الديوان يعود باسترجاع الذاكرة ليصور عشقه لمدينته كربلاء مدينة القباب الذهبية في صور حلمية أقرب إلى اليوتوبيا دون أن تخلو من الديستوبيا إذ يقول:
    مِنْ شَــيْخُوخَةِ الدَّهْرِ
    وَأُخْرَى تَصْـفُـو مَعَ الحُـزْنِ وَالـبَرَدِ
    عبَاءَاتٌ تَكْنِسُ الغُـزَاةَ
    فَيَطْعَنُهَا ضَابِطُ الأَمْنِ
    شَـوَارِعُ تَتَوَالَدُ فِي الأَزِقَّةِ
    فَتَنْمُو التَّـكايَا
    بَسَاتِينُ اتَّـكَأَتْ عَلَى خَاصِـرَةِ المَدِينَـةِ
    وَحُـقُـولٌ رَاحَتْ تَحْـلُمُ مُدَاعِبَـةً أَصَابعَـهَا
    لِـحًى خَـذَلَـتْـهَا طِيبَـتُها
    أَسْـوَاقٌ تَـتَـنَاسَـلُ...
    ......................
    وَتَـنْـتَـبِـهُ فِي آخِـرَةِ الرَّايَاتِ السُّـودِ..
    ثَمَّةَ مَفْرَزَةُ تَفْتِيش.
    إذ يحلم الشاعر بمدينته التي أضحت أيقونة الحزن والبكاء، أما الحداد فقد أصبح رمزًا للحرية والعدالة والإصلاح (شَـوَارِعُ تَتَوَالَد، تـكايَا تَنْمُوُ، بَسَاتِينُ اتَّـكَأَتْ عَلَى خَاصِـرَةِ المَدِينَـة، وَحُـقُـولٌ رَاحَتْ تَحْـلُمُ) وهذه الصور الحلمية (اليوتوبيا) للمدينة التي عشقها الشاعر لا تخلو من خراب؛ كان الغزاة والأنظمة المتسلطة أداة للخراب (الديستوبيا) الذي عبر عنه الشاعر في ثنايا هذه القصيدة من خلال عدد من الصور الشعرية (عبَاءَاتٌ تَكْنِسُ الغُـزَاةَ، يَطْعَنُهَا ضَابِطُ الأَمْنِ، ثَمَّةَ مَفْرَزَةُ تَفْتِيش) الضمير (الهاء) يحيل إلى المدينة التي تتعرض للانتهاك من قبل السلطة الغاشمة التي يرمز إليها الشاعر بـ(ضابط الأمن) ويختم القصيدة بـ(مفرزة تفتيش ) في إشارة إلى الظلم وانتهاك الحرية في صورة يستحضرها الشاعر من ديستوبيا الذاكرة.
    #سعد_محمد_التميمي
    #باسم_فرات
    #خريف_المكان
    #صحيفة_الصباح
    14 تشرين الأول 2021 ميلادية.
    الخميس

      الوقت/التاريخ الآن هو الأحد مايو 19, 2024 9:07 am