إذا كان من المألوف أن يسكن الوجع الإنسان العراقي العادي جدا لأسباب أضحت معروفة للقاصي والداني ، فكيف بهذا الإنسان إذا كان متلبسا بالشعر ومحتدما بعشق الوطن الذي ليس له من وجوده إلا التذكر، ومزحوما بالانفلات من قسوة المفارقة حين يتذكر أن لا وطن له: .
آه
أتذكر أنني بلا وطن
وان الحروب ما زالت تحتفي وتغير أشكالها
والشظايا سعالي المزمن
بساطيل الحرس مسخت ذكرياتي
كل ما في راحتي رماد
أين سأحفظ قبلات النهر الذي دخل المدينة ذات يوم متنكرا بهيئة صبي
فاغتصبه الجنود...........المجموعة 39))
إذن من المؤكد إن مفارقات الحياة بحزنها وقلقها وتمردها واغتراباتها ، ستعصف بهذا الإنسان، وسوف تتلاطم أمواج واقعه المؤلم في رؤية شعرية تمتلك من التقانات ما يؤهلها لأن تبقينا في متعة التلصص بـ((مزيد من الاندهاش أمام فخاخ النص.........المجموعة21))
ولأننا أطرنا مقاربتنا بالاستعارة التنافرية سندع المهيمنات الاسلوبية الاخرى في المحموعة لفرص قادمة .
تعد الاستعارة التنافرية تقانة من تقانات الكتابة الحداثية التي يوظفها الشعراء لغرض خلق التوازن الداخلي الذي يفتقدونه خارجيا، فهي لا تولد من فراغ ،وإنما هي وليدة موقف نفسي وثقافي (1) وتقوم في جزء كبير منها على المفارقة، ونجدها تقرب المتنافرات، وتجبر أبعد الأشياء عن بعضها على التقارب والترابط في سياق فني جديد يثير المتعة والدهشة والجمال (2) لا بل تجاوز الأمر عند الشعراء الحداثيين إلى(( مزج المتناقضات في كيان واحد يعانق في إطاره الشيء نقبضه، ويمتزج به مستمدا منه بعض خصائصه ومضيفا إليه بعض سماته تعبيرا عن الحالات النفسية والأحاسيس الغامضة المبهمة، التي تتعانق فيها المشاعر المتضادة وتتفاعل))(3)
وعند مقاربتنا لمجموعة( خريف المآذن) للشاعر باسم فرات وجدنا إن الاستعارة التنافرية تشكل إحدى التقانات التي ارتبطت تمظهراتها بتجربة الشاعر وهو يعيش النفي بكل سطوته وقسوته فضلا عن معايشته لفضاء الحروب وخراباتها الموبوءة بالمعاناة والدموع التي وشمتنا جميعا بوصفنا عراقيين:
سلاما عباءات الدموع التي هي تاريخنا بلا شك............المجموعة 11
وإذا كانت هذه الجملة الشعرية تستفز المتلقي لثقل حمولتها الدلالية وتتعبه في البحث عن مكامن التدليل فإن جملة:
سلاما مناديل الوداع التي جففها مطر الانتظار..................المجموعة 11
تثير المتلقي في إقامة علاقات لا منطقية أبدا بين الأشياء بوساطة السعي الى خلخلة العلاقات المألوفة بينها تبعا لرؤية الشاعر التي من مهمتها ترتيب الأشياء حسب رؤيتها الداخلية وليس حسب الواقع المعيش والحقيقة الثابتة، لذا خلق لنا الشاعر مفارقة اعتمدت على ثنائية الجفاف/ الندى فهل من المعقول أن يجفف المطر أي شيء ؟ طبعا هذا لا يحدث إلا في العلاقات اللامنطقية التي بنيت على مرتكز شبه منطقي وهو أن الوداع يحتاج إلى انتظار وبذلك استطاع الشاعر ان يخلق لنا فجوة تتغير فيها العلاقة بين الدال والمدلول
أنت وحدك
تملأ الأنهار أغان وذكريات
وتعري الموجة من هذياناتها
تزهو بحطامك.................12
إن اجترار الوحدة والذكريات والهذيانات قد منح الشعراء التفرد في القول الشعري، كل حسب طاقته الإبداعية، وهنا يعاملنا الشاعر باسم فرات بوعي شعري مؤثث بالتقانات الجمالية التي تمنح النص طاقة إضافية ومنها الاستعارة التنافرية في (تزهو بحطامك) ولا أدري كيف يستطيع الإنسان الزهو بحطامه في الواقع؟ نعم يحث مثل هذا الحدث غير المتوقع أبدا ولكن في التعبير الشعري الخلاق فحسب.
انا
السومري
المدجج بالأحلام والأسئلة متلكئا
أنفض الحنين عن أصابعي
أرتجف داخل حياتي
عبثا أنزع الخوف عن وسادتي
أمسد عذوبة الغابات
أواري خجل البحر
أمام رعونة الموج
أقود القناديل إلى الضياء..............13
وهل يحتاج الضياء إلى قناديل ؟ نعم فالضياء في رؤية الشاعر هو ليس الضياء في رؤيتنا نحن لذا حين ينزع الخوف عن وسادته ويمسد عذوبة الغابات، ويواري خجل البحر، لحظتها سيعمل على قيادة القناديل إلى الضياء وهنا تكمن المفارقة الديوجينية في البحث عن المقاومة أمام الخنوع والشجاعة أمام الخوف والهدوء أمام الصخب، كل هذا يحدث لكي يستطيع الأسى أن يفتح أزرار انكساراتنا مبتهجا، فالانكسار والبهجة مفردتان تتعالقان بالتوتر النفسي والحسي للشاعر وقد أضفى السياق الشعري عليهما سمة الخلق المرتكز في الطاقة السحرية للغة.
ليعبر الجنوب ترفع أثوابها الفصول
الأسى ذاته يفتح أزرار انكساراتنا مبتهجا .............19
كما يستخدم الشاعر نوعا آخر من الاستعارة التنافرية وهي الاستعارة اللونية وعلى الرغم من أن استخدام هذه التقانة ليس بجديد إلا ان لكل شاعر استخدامه الخاص وقد جعل الشاعر هنا لون الندى أحمر ليخول معرفتنا الاتجاه نحو تعليل هيمنة اللون الأحمر وتبدو واضحة جدا دون المساس بشاعريتها
هل لي لأرتب موعدا أستضيف الأصدقاء
بلا بهرجة الندامى أو زخرف الملائكة
وبلا ندى أحمر يبلل رائحة المنفى ...................20
وعلى الرغم من كثرة استخدام مثل هذه الإستعارة من قبل الشعراء؛ إلا إن الاستخدام المنفرد لكل شاعر يعطي خصوصية تضاف إلى منجزه الشعري وهذا ما حدث مع الشاعر باسم فرات إذ استطاع أن يعبر في العلاقة بين الدال والمدلول بوساطة خلق مسارات استدلالية تتجاوز المسار التقليدي المجتر لتناسب العلاقات وتكراراتها وتخلخل توقع المتلقي متخلصة من شوائب التقريرية والمباشرة إلى الشعرية التي تتغلغل في النص وتتوسع تبعا للعبث بالعلاقات القائمة بين الدال والمدلول
يدي مدماة بثلج يتلعثم كلما قشر الضباب رئتي .............21
كيف لي أن أقول انثى
ولا اعني كربلاء واقول مدينة ولا تشرئب أمي متشحة بكل
الليل بيضاء .............45
فالثلج الأبيض في الواقع يتحول إلى ثلج أحمر في المتخيل الشعري وسواد الليل يتحول إلى بياض وهكذا تستمر هذه التقانة بخلخلة كل ما هو طبيعي ومستند إلى القاموس المعجمي.
الهوامش:
(1) جماليات الأسلوب والتلقي ، دراسة تطبيقية ، أ.د موسى ربابعة مؤسسة حمادة للدراسات الجامعية والنشر والتوزيع ، أربد-الأردن ط1 2000م: 11.
(2) ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحديث ، عبد الغفار مكاوي، الهيئة المصرية العامة للكتاب القاهرة 1972م، ج1: 230
(3) سعن بناء القصيدة العربية الحديثة، علي عشري زايد ، دار الضحى، القاهرة،1977م: 84.
آه
أتذكر أنني بلا وطن
وان الحروب ما زالت تحتفي وتغير أشكالها
والشظايا سعالي المزمن
بساطيل الحرس مسخت ذكرياتي
كل ما في راحتي رماد
أين سأحفظ قبلات النهر الذي دخل المدينة ذات يوم متنكرا بهيئة صبي
فاغتصبه الجنود...........المجموعة 39))
إذن من المؤكد إن مفارقات الحياة بحزنها وقلقها وتمردها واغتراباتها ، ستعصف بهذا الإنسان، وسوف تتلاطم أمواج واقعه المؤلم في رؤية شعرية تمتلك من التقانات ما يؤهلها لأن تبقينا في متعة التلصص بـ((مزيد من الاندهاش أمام فخاخ النص.........المجموعة21))
ولأننا أطرنا مقاربتنا بالاستعارة التنافرية سندع المهيمنات الاسلوبية الاخرى في المحموعة لفرص قادمة .
تعد الاستعارة التنافرية تقانة من تقانات الكتابة الحداثية التي يوظفها الشعراء لغرض خلق التوازن الداخلي الذي يفتقدونه خارجيا، فهي لا تولد من فراغ ،وإنما هي وليدة موقف نفسي وثقافي (1) وتقوم في جزء كبير منها على المفارقة، ونجدها تقرب المتنافرات، وتجبر أبعد الأشياء عن بعضها على التقارب والترابط في سياق فني جديد يثير المتعة والدهشة والجمال (2) لا بل تجاوز الأمر عند الشعراء الحداثيين إلى(( مزج المتناقضات في كيان واحد يعانق في إطاره الشيء نقبضه، ويمتزج به مستمدا منه بعض خصائصه ومضيفا إليه بعض سماته تعبيرا عن الحالات النفسية والأحاسيس الغامضة المبهمة، التي تتعانق فيها المشاعر المتضادة وتتفاعل))(3)
وعند مقاربتنا لمجموعة( خريف المآذن) للشاعر باسم فرات وجدنا إن الاستعارة التنافرية تشكل إحدى التقانات التي ارتبطت تمظهراتها بتجربة الشاعر وهو يعيش النفي بكل سطوته وقسوته فضلا عن معايشته لفضاء الحروب وخراباتها الموبوءة بالمعاناة والدموع التي وشمتنا جميعا بوصفنا عراقيين:
سلاما عباءات الدموع التي هي تاريخنا بلا شك............المجموعة 11
وإذا كانت هذه الجملة الشعرية تستفز المتلقي لثقل حمولتها الدلالية وتتعبه في البحث عن مكامن التدليل فإن جملة:
سلاما مناديل الوداع التي جففها مطر الانتظار..................المجموعة 11
تثير المتلقي في إقامة علاقات لا منطقية أبدا بين الأشياء بوساطة السعي الى خلخلة العلاقات المألوفة بينها تبعا لرؤية الشاعر التي من مهمتها ترتيب الأشياء حسب رؤيتها الداخلية وليس حسب الواقع المعيش والحقيقة الثابتة، لذا خلق لنا الشاعر مفارقة اعتمدت على ثنائية الجفاف/ الندى فهل من المعقول أن يجفف المطر أي شيء ؟ طبعا هذا لا يحدث إلا في العلاقات اللامنطقية التي بنيت على مرتكز شبه منطقي وهو أن الوداع يحتاج إلى انتظار وبذلك استطاع الشاعر ان يخلق لنا فجوة تتغير فيها العلاقة بين الدال والمدلول
أنت وحدك
تملأ الأنهار أغان وذكريات
وتعري الموجة من هذياناتها
تزهو بحطامك.................12
إن اجترار الوحدة والذكريات والهذيانات قد منح الشعراء التفرد في القول الشعري، كل حسب طاقته الإبداعية، وهنا يعاملنا الشاعر باسم فرات بوعي شعري مؤثث بالتقانات الجمالية التي تمنح النص طاقة إضافية ومنها الاستعارة التنافرية في (تزهو بحطامك) ولا أدري كيف يستطيع الإنسان الزهو بحطامه في الواقع؟ نعم يحث مثل هذا الحدث غير المتوقع أبدا ولكن في التعبير الشعري الخلاق فحسب.
انا
السومري
المدجج بالأحلام والأسئلة متلكئا
أنفض الحنين عن أصابعي
أرتجف داخل حياتي
عبثا أنزع الخوف عن وسادتي
أمسد عذوبة الغابات
أواري خجل البحر
أمام رعونة الموج
أقود القناديل إلى الضياء..............13
وهل يحتاج الضياء إلى قناديل ؟ نعم فالضياء في رؤية الشاعر هو ليس الضياء في رؤيتنا نحن لذا حين ينزع الخوف عن وسادته ويمسد عذوبة الغابات، ويواري خجل البحر، لحظتها سيعمل على قيادة القناديل إلى الضياء وهنا تكمن المفارقة الديوجينية في البحث عن المقاومة أمام الخنوع والشجاعة أمام الخوف والهدوء أمام الصخب، كل هذا يحدث لكي يستطيع الأسى أن يفتح أزرار انكساراتنا مبتهجا، فالانكسار والبهجة مفردتان تتعالقان بالتوتر النفسي والحسي للشاعر وقد أضفى السياق الشعري عليهما سمة الخلق المرتكز في الطاقة السحرية للغة.
ليعبر الجنوب ترفع أثوابها الفصول
الأسى ذاته يفتح أزرار انكساراتنا مبتهجا .............19
كما يستخدم الشاعر نوعا آخر من الاستعارة التنافرية وهي الاستعارة اللونية وعلى الرغم من أن استخدام هذه التقانة ليس بجديد إلا ان لكل شاعر استخدامه الخاص وقد جعل الشاعر هنا لون الندى أحمر ليخول معرفتنا الاتجاه نحو تعليل هيمنة اللون الأحمر وتبدو واضحة جدا دون المساس بشاعريتها
هل لي لأرتب موعدا أستضيف الأصدقاء
بلا بهرجة الندامى أو زخرف الملائكة
وبلا ندى أحمر يبلل رائحة المنفى ...................20
وعلى الرغم من كثرة استخدام مثل هذه الإستعارة من قبل الشعراء؛ إلا إن الاستخدام المنفرد لكل شاعر يعطي خصوصية تضاف إلى منجزه الشعري وهذا ما حدث مع الشاعر باسم فرات إذ استطاع أن يعبر في العلاقة بين الدال والمدلول بوساطة خلق مسارات استدلالية تتجاوز المسار التقليدي المجتر لتناسب العلاقات وتكراراتها وتخلخل توقع المتلقي متخلصة من شوائب التقريرية والمباشرة إلى الشعرية التي تتغلغل في النص وتتوسع تبعا للعبث بالعلاقات القائمة بين الدال والمدلول
يدي مدماة بثلج يتلعثم كلما قشر الضباب رئتي .............21
كيف لي أن أقول انثى
ولا اعني كربلاء واقول مدينة ولا تشرئب أمي متشحة بكل
الليل بيضاء .............45
فالثلج الأبيض في الواقع يتحول إلى ثلج أحمر في المتخيل الشعري وسواد الليل يتحول إلى بياض وهكذا تستمر هذه التقانة بخلخلة كل ما هو طبيعي ومستند إلى القاموس المعجمي.
الهوامش:
(1) جماليات الأسلوب والتلقي ، دراسة تطبيقية ، أ.د موسى ربابعة مؤسسة حمادة للدراسات الجامعية والنشر والتوزيع ، أربد-الأردن ط1 2000م: 11.
(2) ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحديث ، عبد الغفار مكاوي، الهيئة المصرية العامة للكتاب القاهرة 1972م، ج1: 230
(3) سعن بناء القصيدة العربية الحديثة، علي عشري زايد ، دار الضحى، القاهرة،1977م: 84.