لأن قصيدة النثر الحديثة ـ وأقول الحديثة بعد أن سخرت في محاولاتها مفاهيم مدارس شعرية عدة سابقة في "إرادية" واعية تضمينا وشكلا لتوهجها الحاضر ـ بنيت على مبدأ فوضوي ومدمر لقوانين الأسلاف "لغة، وعروضا، وبلاغة" بدأت تؤكد تعويضها عن هذه القوانين من خلال تفسيرها وتنظيمها لعوالم غامضة وسرية ينوء بثقلها الشاعر نفسه الذي يكشف عن عطائه باستخدام لغة تتجذر وتنزاح لنتائج شاعريته...
ولكن هذا ليس كما يفهمه البعض على انه طموح واهم الى خلق "شكل" على انقاض تحطيم "الأشكال" السالبة، والغوص الى ما وراء اللغة التي تستخدم على غير ما تفسره المفردات، وإنما الطموح في كشف الغريب والسري غير المعلن لذات الشاعر، وفي مناطق مجهولة ومحرمة تبعا لفسحة الحرية التي يقتنص.
بيد ان ذاك يختلف في حضوره عند شعراء قصيدة النثر. فمنهم من يرى في البناء تعقيدا فيستسلمون لانثيال اللا شعور، وفنتازيا الخيال اعتمادا على قدراتهم اللغوية. والبعض الآخر الذي يحث الخطى بعناد للتأمل والبحث عن أصوب الطرق لتطويق الرؤية في خلق فني تتوهج معه القصيدة.
والقصائد الاثنتا عشرة التي ضمتها المجموعة الشعرية الثانية "خريف المآذن" للشاعر العراقي المغترب باسم فرات، خلقت رؤيتها بغير تعقيد وبوحدة يتجاذبها الهم والاهتمام بما هو محلي، خشية أن تفقد سمتها. فهي تنسق جماليتها وتقول أشياءها بعفوية الشاعر المنتمي. وترسم حدودها بعيدا عن المباشرة على الرغم من انفتاح أبوابها على عوالم الذات المغلقة.
إن القصيدة لديه بيان اتجاهات الرؤى وتسجيل كل ما من شأنه أن يطلق عنان الأسى والألم في فضاء الحنين والغربة، كتنفيس عن ورم الذات. وكل تلك العناصر تشغل حيزها وتلتف حول محور اتجاه الغاية خارج المتن في "لا زمكان" التطواف. واعني عرض تلك السلسلة من الأفعال التي تغوص في الذاكرة وتنتمي الى طفولتها، لتصبح في زمن ومكان آخرين، حقيقة يرسم أبعادها في حدود القصيدة:ـ
"وأنا أعدّ حرائق أيامي
أعدّ نتوءاتها في ذاكرتي
لي لغة النيازك
وشهوة أرخبيلات
تضيق بهن القصائد
لا دليل لبوصلتي غير الأسى" ص11.
ان استسلامه لهذيان الذاكرة ولفنتازيا خيال الطفولة يشعره بالألم. ومن خلال تلك الفوضى المحررة يخلق سبب وجوده ويعدها من أخطاء الماضي:
"أخطائي... انا
أخطائي
أبي ... خطأ يتناسل
أمي خطأ ينتظر خطأ من اجل خطأ
أنا خطأ يعدّ الخطى فيخطىء" ص12
وعلى امتداد ذلك الخط يرسم بغداد من بعيد ومن ذاكرة ظلت تمده بمونتاج الأحداث في تداع صوري مشذب وتربطه بعناصر التجربة والصراع الداخلي، ومن خلال ذلك الإحساس يطفو أحيانا على سطح اناقة المفردات، معتقدا انه بذلك يؤسس لخلق عالم ملئ بالتأزم والصراع وكشف خبايا عالمه المغرق بالسرية!. ان ذاك الانفعال الجاد وكثافة الضغط النفسي أكسبته انتقالات وطفرات سريعة عبر لمساته المنبهرة في قصيدة واحدة. وهي تصلح لالتقاطات قصائد.
فيظل يسهب في تلمس أسباب إحباطه. وتلك النكسات التي تلم بمدينة عريقة تحيط رؤيته. ولكنه اكسبها شيئا من الفته الدافئة للمكان في إحاطته لعملية الخلق الفني. وهو يعرف ان تلك العملية ليست طريقا لا حبا، ويدرك مطبات الدهشة الآنية، فيلجا الى تلمس خطاه بفعل ما تسهم به الذاكرة في أغناء النص:ـ
"مزيدا من الاندهاش
أمام فخاخ النص
مزيدا من الاندهاش
أمام مراثي السكارى
عندما يطل الغسق
استدرجيني لأراقب عربة النخيل
واحتسي ثمالة كأس
تتزاحمُ فيه مرايانا" ص21
قصائد "عانقت برجا خلته مئذنة" ص22. "دلني أيها السواد" ص28. "آهلون بالنزيف" ص30. "عبرت الحدود مصادفة" ص32 "عناق لا يقطعه سوى القصف" تخلق مناخها وطقسها الشعري احتفاء بانفعال مترسب في ذات الشاعر، كاشفة عن سخط بإثارة التساؤلات والاستنكار. تتحرك بوعي ملتزم بقيم المنطق الحسي. ندركها من خلال رسم المشاهد الكلية. يعني: بتقديمها الصورة العريضة. مستعيرة أدوات الحداثة باللجوء الى المتخيل والانزياحات اللغوية. فالشاعر يفهم وظيفة الشعر من خلال التصاقه الوثيق بهم وتطلعات الكائن!. وعلى الرغم من استغراقها في الوجد الذاتي ولكنها دعوة للكشف ومعانقة سر ذلك الغامض المسبب في تضييق الخناق على حرية الإنسان. ان الشاعر يواجه صدمته في انفصاله عن المكان، فيرتد الى الداخل. الى تجربته الكبرى، ولكن دون تقوقع يعزله عن قضاياه التي يشترك فيها مع الآخر:ـ
"الحروب التي تشتهيني دائما ً
تعلق قميصي مجداً لغيري
لم تنسلّ هاربة ً
لطلاء طفولتي بالفحم
أمام الله، أظل وحيدا
أحصي أخطائي" ص39.
مسألة في غاية الأهمية، تستوقفني في عدد كبير من قصائده التي ضمها الديوان، وتكون بمثابة المهيمن الذي لا يستطيع فكاكا منه، فما ان يؤسس لفكرة ما ـ وهي لا تبتعد عما ينوء بثقله من الآلام ـ حتى تنبري لتكون إحدى عناصر البناء. وهو لا يبتأس من جعلها لازمة لشجنه. إنها سطوة الأمومة. لان جل عالمه الطفولي خرج من عباءتها، وافتقاده للمسات الأب في سن مبكرة حيث "أطلق احتجاجه الأخير وهو في سن مبكرة في الخامسة والعشرين دفاعا عن جارته" كما يقول الشاعر في تقديمه لنفسه. وبذا أصبحت الوظيفة في استشعار الأشياء التي باتت تؤرقه، وبرز الجانب السلبي فوق السطح كمرادف ثقيل لأحلامه، وظل يتنازع المتناقضات عند تواصل الرؤية امتدادها:ـ
"عباءة أمي راية تلوّح بلا أمل
وبلا أمل ستجوب الأزمان خطواتي" ص41
"أمي آيات حناء يغالبها العشق
فترملت" ص47
"المرأة بأعوامها الأربعين
تجهل تماما ً
ان أبي أكثر القتلى بشاشة ً
بطولاته أورثتنا الجوعَ
واحتفاء الآخرين" ص59
"المخافر موشومة على جلدي
وأمي لم تلتفت للشظايا
حين مشطت صباي" ص65
إن الشاعر باسم فرات في مجموعته "خريف المآذن" يظل يؤكد صورة الشاعر الطفل التي يضيئها ويتأملها باستمرار في جميع قصائده، في رحلة صراع ينغمس فيها ولا ينفك في ترتيلها، وقد أصبحت ممارسة حياتية في رؤاه. وهي ظاهرة حياتية اتسمت بخصائص تعبيرية أكدت وضوحه في هذا الاتجاه.
ولكن هذا ليس كما يفهمه البعض على انه طموح واهم الى خلق "شكل" على انقاض تحطيم "الأشكال" السالبة، والغوص الى ما وراء اللغة التي تستخدم على غير ما تفسره المفردات، وإنما الطموح في كشف الغريب والسري غير المعلن لذات الشاعر، وفي مناطق مجهولة ومحرمة تبعا لفسحة الحرية التي يقتنص.
بيد ان ذاك يختلف في حضوره عند شعراء قصيدة النثر. فمنهم من يرى في البناء تعقيدا فيستسلمون لانثيال اللا شعور، وفنتازيا الخيال اعتمادا على قدراتهم اللغوية. والبعض الآخر الذي يحث الخطى بعناد للتأمل والبحث عن أصوب الطرق لتطويق الرؤية في خلق فني تتوهج معه القصيدة.
والقصائد الاثنتا عشرة التي ضمتها المجموعة الشعرية الثانية "خريف المآذن" للشاعر العراقي المغترب باسم فرات، خلقت رؤيتها بغير تعقيد وبوحدة يتجاذبها الهم والاهتمام بما هو محلي، خشية أن تفقد سمتها. فهي تنسق جماليتها وتقول أشياءها بعفوية الشاعر المنتمي. وترسم حدودها بعيدا عن المباشرة على الرغم من انفتاح أبوابها على عوالم الذات المغلقة.
إن القصيدة لديه بيان اتجاهات الرؤى وتسجيل كل ما من شأنه أن يطلق عنان الأسى والألم في فضاء الحنين والغربة، كتنفيس عن ورم الذات. وكل تلك العناصر تشغل حيزها وتلتف حول محور اتجاه الغاية خارج المتن في "لا زمكان" التطواف. واعني عرض تلك السلسلة من الأفعال التي تغوص في الذاكرة وتنتمي الى طفولتها، لتصبح في زمن ومكان آخرين، حقيقة يرسم أبعادها في حدود القصيدة:ـ
"وأنا أعدّ حرائق أيامي
أعدّ نتوءاتها في ذاكرتي
لي لغة النيازك
وشهوة أرخبيلات
تضيق بهن القصائد
لا دليل لبوصلتي غير الأسى" ص11.
ان استسلامه لهذيان الذاكرة ولفنتازيا خيال الطفولة يشعره بالألم. ومن خلال تلك الفوضى المحررة يخلق سبب وجوده ويعدها من أخطاء الماضي:
"أخطائي... انا
أخطائي
أبي ... خطأ يتناسل
أمي خطأ ينتظر خطأ من اجل خطأ
أنا خطأ يعدّ الخطى فيخطىء" ص12
وعلى امتداد ذلك الخط يرسم بغداد من بعيد ومن ذاكرة ظلت تمده بمونتاج الأحداث في تداع صوري مشذب وتربطه بعناصر التجربة والصراع الداخلي، ومن خلال ذلك الإحساس يطفو أحيانا على سطح اناقة المفردات، معتقدا انه بذلك يؤسس لخلق عالم ملئ بالتأزم والصراع وكشف خبايا عالمه المغرق بالسرية!. ان ذاك الانفعال الجاد وكثافة الضغط النفسي أكسبته انتقالات وطفرات سريعة عبر لمساته المنبهرة في قصيدة واحدة. وهي تصلح لالتقاطات قصائد.
فيظل يسهب في تلمس أسباب إحباطه. وتلك النكسات التي تلم بمدينة عريقة تحيط رؤيته. ولكنه اكسبها شيئا من الفته الدافئة للمكان في إحاطته لعملية الخلق الفني. وهو يعرف ان تلك العملية ليست طريقا لا حبا، ويدرك مطبات الدهشة الآنية، فيلجا الى تلمس خطاه بفعل ما تسهم به الذاكرة في أغناء النص:ـ
"مزيدا من الاندهاش
أمام فخاخ النص
مزيدا من الاندهاش
أمام مراثي السكارى
عندما يطل الغسق
استدرجيني لأراقب عربة النخيل
واحتسي ثمالة كأس
تتزاحمُ فيه مرايانا" ص21
قصائد "عانقت برجا خلته مئذنة" ص22. "دلني أيها السواد" ص28. "آهلون بالنزيف" ص30. "عبرت الحدود مصادفة" ص32 "عناق لا يقطعه سوى القصف" تخلق مناخها وطقسها الشعري احتفاء بانفعال مترسب في ذات الشاعر، كاشفة عن سخط بإثارة التساؤلات والاستنكار. تتحرك بوعي ملتزم بقيم المنطق الحسي. ندركها من خلال رسم المشاهد الكلية. يعني: بتقديمها الصورة العريضة. مستعيرة أدوات الحداثة باللجوء الى المتخيل والانزياحات اللغوية. فالشاعر يفهم وظيفة الشعر من خلال التصاقه الوثيق بهم وتطلعات الكائن!. وعلى الرغم من استغراقها في الوجد الذاتي ولكنها دعوة للكشف ومعانقة سر ذلك الغامض المسبب في تضييق الخناق على حرية الإنسان. ان الشاعر يواجه صدمته في انفصاله عن المكان، فيرتد الى الداخل. الى تجربته الكبرى، ولكن دون تقوقع يعزله عن قضاياه التي يشترك فيها مع الآخر:ـ
"الحروب التي تشتهيني دائما ً
تعلق قميصي مجداً لغيري
لم تنسلّ هاربة ً
لطلاء طفولتي بالفحم
أمام الله، أظل وحيدا
أحصي أخطائي" ص39.
مسألة في غاية الأهمية، تستوقفني في عدد كبير من قصائده التي ضمها الديوان، وتكون بمثابة المهيمن الذي لا يستطيع فكاكا منه، فما ان يؤسس لفكرة ما ـ وهي لا تبتعد عما ينوء بثقله من الآلام ـ حتى تنبري لتكون إحدى عناصر البناء. وهو لا يبتأس من جعلها لازمة لشجنه. إنها سطوة الأمومة. لان جل عالمه الطفولي خرج من عباءتها، وافتقاده للمسات الأب في سن مبكرة حيث "أطلق احتجاجه الأخير وهو في سن مبكرة في الخامسة والعشرين دفاعا عن جارته" كما يقول الشاعر في تقديمه لنفسه. وبذا أصبحت الوظيفة في استشعار الأشياء التي باتت تؤرقه، وبرز الجانب السلبي فوق السطح كمرادف ثقيل لأحلامه، وظل يتنازع المتناقضات عند تواصل الرؤية امتدادها:ـ
"عباءة أمي راية تلوّح بلا أمل
وبلا أمل ستجوب الأزمان خطواتي" ص41
"أمي آيات حناء يغالبها العشق
فترملت" ص47
"المرأة بأعوامها الأربعين
تجهل تماما ً
ان أبي أكثر القتلى بشاشة ً
بطولاته أورثتنا الجوعَ
واحتفاء الآخرين" ص59
"المخافر موشومة على جلدي
وأمي لم تلتفت للشظايا
حين مشطت صباي" ص65
إن الشاعر باسم فرات في مجموعته "خريف المآذن" يظل يؤكد صورة الشاعر الطفل التي يضيئها ويتأملها باستمرار في جميع قصائده، في رحلة صراع ينغمس فيها ولا ينفك في ترتيلها، وقد أصبحت ممارسة حياتية في رؤاه. وهي ظاهرة حياتية اتسمت بخصائص تعبيرية أكدت وضوحه في هذا الاتجاه.