في «جماليات المكان»، يشير غاستون باشلار إلى أنه «حين يقدم شاعر بعدا جغرافيا، فهو يعرف بشكل غريزي أن هذا البعد يجري تحديده في نفس اللحظة، بسبب كونه مغروسا في قيمة حلمية ما». قد لا ينطبق هذا القول تماما على تجربة الشاعر العراقي باسم فرات في مجموعته الأخيرة «بلوغ النهر» (الحضارة للنشر ــ القاهرة ــ 2012) بقدر ما يتضاد معه في جزئية صغيرة سوف نعرج عليها، لكنه يصلح مع ذلك لأن يكون منطلقا نحو استنطاق قصائد المجموعة التي كتبت في نيوزلاندا، اليابان، لاوس، تايلند، فيتنام، وكمبوديا «مدن/ تلقفتني كالمحطات/ علي أن أترجل/ في كل محطة». فأصداء الأمكنة الأليفة «عراقيا» والمغروسة في ذاكرة الشاعر ووجدانه، لا تطفو بأسمائها الصريحة على سطح النصوص، غير أنها تتناوح في أغوارها السحيقة، بقدر ما يجهد الشاعر في تسخير لغة الأمكنة الجديدة التي تنقل بينها بألفة وحنين مزدوج، وداوم على شحنها بانزياحات النأي وأنفاس التباريح، حيث يولد كل تفصيل مكاني ترجيعات انفعالية ومختمرة في ماضيه وتاريخه الشخصي « أنا المثقل بالتباريح/ بلادي تطرق الباب كل ليلة». كذلك هي حالة إخضاع الذات للتكيف مع أكثر من مكان ومحطة اغترابية لا يمكن التخلص من أثرها وسطوتها بسهولة «هي مدن/ تعبرنا ونعبرها/ لتترك وشمها فينا»
المكان، والحالة هذه، حجر أساس من مكونات البناء النصي بالمجمل، وسبب من أسباب نزوع الشاعر نحو السرد بوجه خاص للاستفادة من عناصره، خشية الوقوع في غنائية جوفاء وإيقاعات صارخة، بينما يتراكم الشعور بالاغتراب والضنى أثناء تماهيات الذات المتعددة في الجغرافيا البديلة، ومحاولة اقتناص عين الشاعر للتفاصيل الدقيقة في تلك الجغرافيا، مستحضرا قاموسها المكاني لطرحه بجرأة في القصيدة التي تغدو عالمه الخاص والجديد واللانهائي، كما هو الحال مثلا مع قصيدته «الهنمي في هيروشيما» التي يستوحي أجواءها من «الهنمي»، وهي احتفالات اليابانيين بتفتح زهرة الكرز «عليك أن تحتفي بالفرح/ وتطرد أحزانك بعيدا/ تحت أشجار الساكورا/ تنادم ضحكات الجميع/ وتمنح النسيان فرصة أن يتسلل إليك»، فيما يظل الشاعر ذلك الغريب الباحث في أحلامه عن مرآة «تستفيق الذكرى بعد أن تخلت عن الألم/ الستائر تفتح النوافذ على السؤال/ والغريب يزيح المجهول إلى الماضي/ باحثا في أحلامه عن مرآة»
الشاعر يختبرنا قرائيا في دعوته إلى زيارة الأماكن التي تستضيفها نصوصه، وخوض التجربة كما نراها ونتأملها نحن، لا كما يراها ويواجهها ويريدها بحساسية شعرية. هي بالمحصلة أماكن جامدة في حالتها المجردة، لكنها ليست محض جمادات خالصة بقدر ما تنطوي ــ ضمن موقعها في الطبيعة واعتباراتها في عين الشاعر ــ على سحر مكنون وجماليات متوارية لا يخفي تحيزه الشديد لها. كما يجرب في قصيدته استنطاقها وإجراء حوارات مباشرة وجانبية معها، مسقطا عليها بين فينة وأخرى ما يتخطفه من آلام وآمال، كأن لكل مكان ما يوازيه عراقيا في مخياله. وأحسب أن الإصرار على إدراج الأماكن المتعددة بأسمائها ليس استعراضا مهاريا لشاعر «رحالة»، بقدر ما هو تثبيت وتعزيز لمركزية الاغتراب عطفاً على انعدام روابط الحنين بينه وبينها، لكنها تولد بالمقابل انفعالات متباينة تمنحه قدرا من التعويض المكاني ليس إلا «يخبر أصحابه عن وطنه الجديد/ عن المدن التي استقبلته/ عن شلالات بعدد أيام خدمته العسكرية/ عن معابد تنطق أيقوناتها بالبخور/ وأشجار شيعت سبعين ملكا/ وما زالت تلثغ بالربيع». مع هذا، فهو «يجهش بالبكاء/ حين تقبض عليه وحدته متلبسا بالحنين»
لا يكاد يخلو نص من الإشارة إلى أسماء شخوص أو معالم وطقوس واحتفالات وإثنيات يجهلها القارئ العربي على الأغلب (ميكون، الساكورا، البوهوتوكاوا، هندوري، طلات تن كان خام، شيفا، شنتوي...الخ)، ولا يحل لغزها ودلالاتها سوى الاستعانة بالهوامش المثبتة. بيد أن الوقوف المتكرر أثناء القراءات القصيرة والطويلة لالتقاط تلك الهوامش قد يقطع خيط الاندغام ويربك الإلهام القرائي. من هنا، تبدو القراءة الثانية متطلبا أكثر صلاحية وإمتاعا للخروج من هذه الورطة الصغيرة، وأكثر إنهماكا في شعرية النص وعوالمه دون الهوامش والإشارات الفرعية التي تكون قد رسخت واستقرت سلفا أثناء وبعد القراءة الأولى، ما يمنح النص بالمحصلة حقه القرائي من جهة، والقارئ وجبته الشعرية المتكاملة من جهة أخرى.
باسم فرات لا يترك المكان على حاله، بل يسعى إلى تأثيثه وإعادة تشكيله كما يراه من زاويته الخاصة، بحكم طبيعة علاقته به وظروف نشأتها، حيث كل نص، بهذا المعنى، مسكون بما يرفع من رصيده التأملي، خاصة أن عنوان المجموعة «بلوغ النهر» يبدو مخادعا بقدر ما يحمله من تناقض، حيث «بلوغ» الشيء يعني الوصول إليه كمبتغى ومآل نهائي، فيما الشاعر يصل «النهر» دائم الجريان ليبدأ عنده نقطة انطلاق ورحلة أخرى، يتابع فيها رصد المكان وتفاصيله واحداً تلو آخر، كأن بلوغه للنهر ليس سوى تمهيد لبداية أخرى، وكأن كل رحلة هي فصل جديد من فصول سيرته الذاتية وتحولاتها. إنها أمكنة شعرية بالدرجة الأولى ترافق باسم فرات في رحلة التيه التي يلخصها بقوله ««في رحلة التيه هذه/ أيقنت أن مصيري معلق بين شفتيك/ لا قارب يجعل الغرق يتوارى/ وما علي سوى أن أبعثرني فيك لأنجو»، فيما تواصل الأمكنة صخبها داخل النصوص، واتخاذ «قيم التمدد» حسب تعبير باشلار.
جريدة عكاظ السعودية
الخميس 05/06/1433 هـ
26 نيسان 2012 م
العدد : 3966
http://www.okaz.com.sa/new/Issues/20120426/PrinCon20120426497845.htm
المكان، والحالة هذه، حجر أساس من مكونات البناء النصي بالمجمل، وسبب من أسباب نزوع الشاعر نحو السرد بوجه خاص للاستفادة من عناصره، خشية الوقوع في غنائية جوفاء وإيقاعات صارخة، بينما يتراكم الشعور بالاغتراب والضنى أثناء تماهيات الذات المتعددة في الجغرافيا البديلة، ومحاولة اقتناص عين الشاعر للتفاصيل الدقيقة في تلك الجغرافيا، مستحضرا قاموسها المكاني لطرحه بجرأة في القصيدة التي تغدو عالمه الخاص والجديد واللانهائي، كما هو الحال مثلا مع قصيدته «الهنمي في هيروشيما» التي يستوحي أجواءها من «الهنمي»، وهي احتفالات اليابانيين بتفتح زهرة الكرز «عليك أن تحتفي بالفرح/ وتطرد أحزانك بعيدا/ تحت أشجار الساكورا/ تنادم ضحكات الجميع/ وتمنح النسيان فرصة أن يتسلل إليك»، فيما يظل الشاعر ذلك الغريب الباحث في أحلامه عن مرآة «تستفيق الذكرى بعد أن تخلت عن الألم/ الستائر تفتح النوافذ على السؤال/ والغريب يزيح المجهول إلى الماضي/ باحثا في أحلامه عن مرآة»
الشاعر يختبرنا قرائيا في دعوته إلى زيارة الأماكن التي تستضيفها نصوصه، وخوض التجربة كما نراها ونتأملها نحن، لا كما يراها ويواجهها ويريدها بحساسية شعرية. هي بالمحصلة أماكن جامدة في حالتها المجردة، لكنها ليست محض جمادات خالصة بقدر ما تنطوي ــ ضمن موقعها في الطبيعة واعتباراتها في عين الشاعر ــ على سحر مكنون وجماليات متوارية لا يخفي تحيزه الشديد لها. كما يجرب في قصيدته استنطاقها وإجراء حوارات مباشرة وجانبية معها، مسقطا عليها بين فينة وأخرى ما يتخطفه من آلام وآمال، كأن لكل مكان ما يوازيه عراقيا في مخياله. وأحسب أن الإصرار على إدراج الأماكن المتعددة بأسمائها ليس استعراضا مهاريا لشاعر «رحالة»، بقدر ما هو تثبيت وتعزيز لمركزية الاغتراب عطفاً على انعدام روابط الحنين بينه وبينها، لكنها تولد بالمقابل انفعالات متباينة تمنحه قدرا من التعويض المكاني ليس إلا «يخبر أصحابه عن وطنه الجديد/ عن المدن التي استقبلته/ عن شلالات بعدد أيام خدمته العسكرية/ عن معابد تنطق أيقوناتها بالبخور/ وأشجار شيعت سبعين ملكا/ وما زالت تلثغ بالربيع». مع هذا، فهو «يجهش بالبكاء/ حين تقبض عليه وحدته متلبسا بالحنين»
لا يكاد يخلو نص من الإشارة إلى أسماء شخوص أو معالم وطقوس واحتفالات وإثنيات يجهلها القارئ العربي على الأغلب (ميكون، الساكورا، البوهوتوكاوا، هندوري، طلات تن كان خام، شيفا، شنتوي...الخ)، ولا يحل لغزها ودلالاتها سوى الاستعانة بالهوامش المثبتة. بيد أن الوقوف المتكرر أثناء القراءات القصيرة والطويلة لالتقاط تلك الهوامش قد يقطع خيط الاندغام ويربك الإلهام القرائي. من هنا، تبدو القراءة الثانية متطلبا أكثر صلاحية وإمتاعا للخروج من هذه الورطة الصغيرة، وأكثر إنهماكا في شعرية النص وعوالمه دون الهوامش والإشارات الفرعية التي تكون قد رسخت واستقرت سلفا أثناء وبعد القراءة الأولى، ما يمنح النص بالمحصلة حقه القرائي من جهة، والقارئ وجبته الشعرية المتكاملة من جهة أخرى.
باسم فرات لا يترك المكان على حاله، بل يسعى إلى تأثيثه وإعادة تشكيله كما يراه من زاويته الخاصة، بحكم طبيعة علاقته به وظروف نشأتها، حيث كل نص، بهذا المعنى، مسكون بما يرفع من رصيده التأملي، خاصة أن عنوان المجموعة «بلوغ النهر» يبدو مخادعا بقدر ما يحمله من تناقض، حيث «بلوغ» الشيء يعني الوصول إليه كمبتغى ومآل نهائي، فيما الشاعر يصل «النهر» دائم الجريان ليبدأ عنده نقطة انطلاق ورحلة أخرى، يتابع فيها رصد المكان وتفاصيله واحداً تلو آخر، كأن بلوغه للنهر ليس سوى تمهيد لبداية أخرى، وكأن كل رحلة هي فصل جديد من فصول سيرته الذاتية وتحولاتها. إنها أمكنة شعرية بالدرجة الأولى ترافق باسم فرات في رحلة التيه التي يلخصها بقوله ««في رحلة التيه هذه/ أيقنت أن مصيري معلق بين شفتيك/ لا قارب يجعل الغرق يتوارى/ وما علي سوى أن أبعثرني فيك لأنجو»، فيما تواصل الأمكنة صخبها داخل النصوص، واتخاذ «قيم التمدد» حسب تعبير باشلار.
جريدة عكاظ السعودية
الخميس 05/06/1433 هـ
26 نيسان 2012 م
العدد : 3966
http://www.okaz.com.sa/new/Issues/20120426/PrinCon20120426497845.htm