أنا وبغداد.. نجلسُ معاً على شاطيءٍ نعرفه.. نحتسي خرابنا..
حين تكون السلطة المركزية مقتدرة وقوية في وطن من الأوطان، فإن المواطنين أجمعين يشعرون بنعمة الأمان.. أما حين تفقد هذه السلطة هيبتها وقوتها أو تتهاوي وتنهار، فإن قطاع الطريق ومحترفي الاجرام يتناسلون ويتكاثرون كما يتكاثر الذباب فوق طبق مملوء ببقايا طعام، وهنا يتبخر الإحساس بالأمان من قلب المواطن العادي الذي لا يطمح إلا في تأمين ما يتكفل باستمراره في الحياة، وبدلا من هذا الإحساس الجميل بالأمان، يحل الخوف ويتفشي الذعر لمجرد حركة عابرة أو نظرة غير مقصودة!
لم تكن السلطة المركزية في العراق خلال زمن الرئيس صدام حسين ضعيفة أو خائرة، بل كانت مقتدرة وقوية، لكن الحرب التي امتدت ثماني سنوات في العراق وإيران أحدثت ما أحدثت من شروخ وآثار سلبية، وهكذا أخذ ألوف من العراقيين يخرجون من الوطن تباعاً، بحثاً عن الخلاص الفردي لكل منهم، أو طمعاً في تحقيق طموح مشروع أو غير مشروع في المستقبل حين تنضج الظروف وتتهيأ الأجواء لتحقيقه. وبعد أن خمدت حرب الثماني سنوات، حاولت الإمبراطورية الأمريكية ان تذيق السلطة المركزية في العراق مدارات الإذلال وطعم الهوان، فلجأت إلي الحصار الجائر علي امتداد سنوات، وهو الحصار الذي عمق مأساة الإنسان العراقي البسيط، لكن السلطة لم تسقط، فكان لابد من اختراع أكاذيب وابتكار أضاليل، تتهيأ بها اجواء العالم لاحتلال العراق بالقوة المسلحة، وهكذا دخلت طلائع قوات المارينز الأمريكية بغداد الرائعة والعريقة منذ الثامن من أبريل سنة 2003 دون أن يعرف الساسة الأمريكيون أن الشعب العراقي شعب أبي، يقاوم أي احتلال أجنبي، مهما تكن قوته وقسوته، ولهذا فوجيء هؤلاء الساسة بضربات المقاومة البطولية، وبأنهم قد كرروا الخطأ الفادح الذي سبق أن ارتكبوه بحماقاتهم في فيتنام.
العراقيون منذ الاحتلال الأمريكي اصبحوا يعيشون تحت وطأة جحيمين، جحيم العيش فوق تراب الوطن، وجحيم الخروج إلي أي مكان، يمكن أن يتحقق فيه أي قدر من الأمان، وقد اختار الذين يستطيعون الخروج ان يرتحلوا، وهؤلاء يعدون ويحصون بالملايين، وقد توزعوا في مختلف بقاع الأرض عبر المنافي الاختيارية أو الاضطرارية، القريبة من الوطن أو البعيدة، فهناك عراقيون في سوريا والأردن ومصر وأقطار عربية أخري، وهناك عراقيون في دول أوروبا كلها، وعراقيون آخرون ارتحلوا إلي استراليا ونيوزيلندا والصين واليابان، وباختصار، لم تبق قارة من قارات الكرة الأرضية إلا وفيها عراقيون، منهم وهم القليلون من يتلهون بعد أن نفضوا عقولهم وقلوبهم من المأساة الفاجعة، ومنهم وهم الكثيرون من يحملون الوطن معهم أينما ارتحلوا، ويحلمون بالعودة مجددا إلي دجلة والفرات، بعد أن مزق أرواحهم طول الشتات.
منذ أقل من سنة، تلقيت عن طريق الإيميل رسالة مؤثرة حقاً، كتبها أحد الشعراء العراقيين الشبان وفيها وصف دقيق للمأساة الفاجعة التي حلت بالعراق وبالعراقيين الشرفاء والبسطاء، وقد تعجبت وقتها حين قرأت السطر الأول من الرسالة أكتب إليك من الجحيم.. أكتب إليك من هيروشيما.. تصور.. من هيروشيما .. وهنا أعترف بأن تصوري لم يكن في محله.. حيث تصورت أن هذا الشاعر العراقي الشاب يحاول تشبيه ما يجري في العراق بما كان قد جري في هيروشيما اليابان، عندما جربت الولايات المتحدة الأمريكية لأول مرة في التاريخ كله استخدام القنبلة الذرية صباح يوم 16 أغسطس آب سنة 1945، لأني لم أكن اتخيل أو أتصور أبدا أن الرسالة قادمة بالفعل من هيروشيما اليابانية!!
في القاهرة وخلال أحد لقاءاتي مع الفنانة العراقية المرموقة رؤيا رؤوف منذ أقل من شهر، قالت لي: إن الشاعر باسم فرات عاتب عليك، لأنك لم ترد علي رسالته التي أرسلها لك عن طريق الإيميل!.. قلت
لها: لقد كتبت رداً سريعاً علي رسالته التي كانت رسالة مؤثرة حقاً، وقد نشرت الرد في الراية بمجرد أن تلقيت هذه الرسالة.. سألتني رؤيا رؤوف: هل تعرف أين يقيم باسم فرات؟.. قلت لها بكل ثقة: في العراق أما يعي فقد أندهشت لأني لم أكن أعرف الحقيقة، قائلة: إنه ليس في العراق.. بل في هيروشيما.. وكان تعليقي السريع: إن باسم فرات قد هرب من سفينة مثقوبة ليلوذ بأحضان مدينة كانت منكوبة.. وفي الحالتين.. حالة السفينة وحالة المدينة فإن مرتكب الجريمة واحد.. إنه غرور القوة الأمريكية.
أردت أن أتأكد حقاً من أن الشاعر العراقي الشاب باسم فرات يقيم في هيروشيما وليس في بغداد أو أية مدينة عراقية سواها.. حصلت من رؤيا رؤوف علي رقم تليفونه واتصلت به بالفعل، وجاءني صوته العراقي المثقل بالشجن من قلب مدينة يابانية كانت قد ذاقت المحن، وها هو يلجأ إلي هيروشيما التي تعافت ويسمونها مدينة الأنهار الستة، معللاً نفسه بأن يتعافي في وطنه الغالي الذي يحمله معه أينما ارتحل، دون أن يتناساه أو يتلهي عنه بحياة هانئة هادئة علي الطريقة الشرقية اليابانية. ومن هيروشيما يأتي صوت باسم فرات حزينا وملتاعاً:
أنا وبغداد
نجلس معاً علي شاطئ نعرفه
نحتسي خرابنا
بغداد...
ليل يجفف عتمته بضيائي
سلاماً مناديل الوداع التي جففها مطر الانتظار.. سلاماً عباءات الدموع التي هي تاريخنا بلا شك...
وينطلق باسم فرات أكثر وأكثر لكي يرسم بغداد علي امتداد أسطر قصيدة طويلة، حافلة بملامح المأساة علي المستويين الفردي والجماعي، حيث يقول في مستهلها:
ما شئت شئت
أسكب الفجر في تلمس ليل غارق بعماه
أكتب تاريخ جنوبيين فوق عباءة أمي
وعبثاً أمسح أكفان الأيام المنسدلة من شعرها
مقبرة السنوات تتمدد
فوق اسفلت ذاكرة مليئة بندوب الحروب
حداد يغلف حيواتنا
لا أتنفس سوي الخراب
أحاول - دون جدوي - أن أفتح كوة فيه
لا أجدني إلا انكساراً يشع..
صوت احتجاج الإنسان الفرد علي ما جري ويجري مما عايشه ويعايشه باسم فرات هو صوت واضح النبرات، عميق بالدلالات، حتي حين شاء أن يكتب ملامح موجزة من سيرته الذاتية، فإنه لم يجد غير كلمة الاحتجاج يكررها، كأنه يزيحها عن روحه حتي يتسني له أن يتنفس، بدلاً من أن يختنق إذا ظلت هذه الكلمة كامنة في أعماقه.. هو - علي سبيل المثال - يقول: سنة 1967 أطلقت احتجاجي الأول في مدينة كربلاء - سنة 1968: احتجاجاً علي بكائي السرمدي وعجز الأطباء، اقترحت حكيمة العائلة وضعي في المقبرة، فإن بكيت، فهذا دليل علي أني سوف أعيش ردحا من الزمن - سنة 1969: أبي أطلق احتجاجه الأخير وهو في سن الخامسة والعشرين، دفاعاً عن جارته فأورثتنا شهامته البؤس والانكسارات.. ويقدم باسم فرات لأحد دواوينه ما يقول إنه يغني عن الإهداء: أبي - حزن عتيق - أمي - كتاب الحزن - حين فتحه أبي - خرجت أنا.. .
هذا ملمح سريع، بل متسرع، من حياة إنسان عراقي، هو الشاعر باسم فرات الذي ابتعد عن دجلة والفرات لكي يتذكرهما ويحملهما معه إلي المدينة ذات الأنهار الستة.. هيروشيما - اليابان.
حين تكون السلطة المركزية مقتدرة وقوية في وطن من الأوطان، فإن المواطنين أجمعين يشعرون بنعمة الأمان.. أما حين تفقد هذه السلطة هيبتها وقوتها أو تتهاوي وتنهار، فإن قطاع الطريق ومحترفي الاجرام يتناسلون ويتكاثرون كما يتكاثر الذباب فوق طبق مملوء ببقايا طعام، وهنا يتبخر الإحساس بالأمان من قلب المواطن العادي الذي لا يطمح إلا في تأمين ما يتكفل باستمراره في الحياة، وبدلا من هذا الإحساس الجميل بالأمان، يحل الخوف ويتفشي الذعر لمجرد حركة عابرة أو نظرة غير مقصودة!
لم تكن السلطة المركزية في العراق خلال زمن الرئيس صدام حسين ضعيفة أو خائرة، بل كانت مقتدرة وقوية، لكن الحرب التي امتدت ثماني سنوات في العراق وإيران أحدثت ما أحدثت من شروخ وآثار سلبية، وهكذا أخذ ألوف من العراقيين يخرجون من الوطن تباعاً، بحثاً عن الخلاص الفردي لكل منهم، أو طمعاً في تحقيق طموح مشروع أو غير مشروع في المستقبل حين تنضج الظروف وتتهيأ الأجواء لتحقيقه. وبعد أن خمدت حرب الثماني سنوات، حاولت الإمبراطورية الأمريكية ان تذيق السلطة المركزية في العراق مدارات الإذلال وطعم الهوان، فلجأت إلي الحصار الجائر علي امتداد سنوات، وهو الحصار الذي عمق مأساة الإنسان العراقي البسيط، لكن السلطة لم تسقط، فكان لابد من اختراع أكاذيب وابتكار أضاليل، تتهيأ بها اجواء العالم لاحتلال العراق بالقوة المسلحة، وهكذا دخلت طلائع قوات المارينز الأمريكية بغداد الرائعة والعريقة منذ الثامن من أبريل سنة 2003 دون أن يعرف الساسة الأمريكيون أن الشعب العراقي شعب أبي، يقاوم أي احتلال أجنبي، مهما تكن قوته وقسوته، ولهذا فوجيء هؤلاء الساسة بضربات المقاومة البطولية، وبأنهم قد كرروا الخطأ الفادح الذي سبق أن ارتكبوه بحماقاتهم في فيتنام.
العراقيون منذ الاحتلال الأمريكي اصبحوا يعيشون تحت وطأة جحيمين، جحيم العيش فوق تراب الوطن، وجحيم الخروج إلي أي مكان، يمكن أن يتحقق فيه أي قدر من الأمان، وقد اختار الذين يستطيعون الخروج ان يرتحلوا، وهؤلاء يعدون ويحصون بالملايين، وقد توزعوا في مختلف بقاع الأرض عبر المنافي الاختيارية أو الاضطرارية، القريبة من الوطن أو البعيدة، فهناك عراقيون في سوريا والأردن ومصر وأقطار عربية أخري، وهناك عراقيون في دول أوروبا كلها، وعراقيون آخرون ارتحلوا إلي استراليا ونيوزيلندا والصين واليابان، وباختصار، لم تبق قارة من قارات الكرة الأرضية إلا وفيها عراقيون، منهم وهم القليلون من يتلهون بعد أن نفضوا عقولهم وقلوبهم من المأساة الفاجعة، ومنهم وهم الكثيرون من يحملون الوطن معهم أينما ارتحلوا، ويحلمون بالعودة مجددا إلي دجلة والفرات، بعد أن مزق أرواحهم طول الشتات.
منذ أقل من سنة، تلقيت عن طريق الإيميل رسالة مؤثرة حقاً، كتبها أحد الشعراء العراقيين الشبان وفيها وصف دقيق للمأساة الفاجعة التي حلت بالعراق وبالعراقيين الشرفاء والبسطاء، وقد تعجبت وقتها حين قرأت السطر الأول من الرسالة أكتب إليك من الجحيم.. أكتب إليك من هيروشيما.. تصور.. من هيروشيما .. وهنا أعترف بأن تصوري لم يكن في محله.. حيث تصورت أن هذا الشاعر العراقي الشاب يحاول تشبيه ما يجري في العراق بما كان قد جري في هيروشيما اليابان، عندما جربت الولايات المتحدة الأمريكية لأول مرة في التاريخ كله استخدام القنبلة الذرية صباح يوم 16 أغسطس آب سنة 1945، لأني لم أكن اتخيل أو أتصور أبدا أن الرسالة قادمة بالفعل من هيروشيما اليابانية!!
في القاهرة وخلال أحد لقاءاتي مع الفنانة العراقية المرموقة رؤيا رؤوف منذ أقل من شهر، قالت لي: إن الشاعر باسم فرات عاتب عليك، لأنك لم ترد علي رسالته التي أرسلها لك عن طريق الإيميل!.. قلت
لها: لقد كتبت رداً سريعاً علي رسالته التي كانت رسالة مؤثرة حقاً، وقد نشرت الرد في الراية بمجرد أن تلقيت هذه الرسالة.. سألتني رؤيا رؤوف: هل تعرف أين يقيم باسم فرات؟.. قلت لها بكل ثقة: في العراق أما يعي فقد أندهشت لأني لم أكن أعرف الحقيقة، قائلة: إنه ليس في العراق.. بل في هيروشيما.. وكان تعليقي السريع: إن باسم فرات قد هرب من سفينة مثقوبة ليلوذ بأحضان مدينة كانت منكوبة.. وفي الحالتين.. حالة السفينة وحالة المدينة فإن مرتكب الجريمة واحد.. إنه غرور القوة الأمريكية.
أردت أن أتأكد حقاً من أن الشاعر العراقي الشاب باسم فرات يقيم في هيروشيما وليس في بغداد أو أية مدينة عراقية سواها.. حصلت من رؤيا رؤوف علي رقم تليفونه واتصلت به بالفعل، وجاءني صوته العراقي المثقل بالشجن من قلب مدينة يابانية كانت قد ذاقت المحن، وها هو يلجأ إلي هيروشيما التي تعافت ويسمونها مدينة الأنهار الستة، معللاً نفسه بأن يتعافي في وطنه الغالي الذي يحمله معه أينما ارتحل، دون أن يتناساه أو يتلهي عنه بحياة هانئة هادئة علي الطريقة الشرقية اليابانية. ومن هيروشيما يأتي صوت باسم فرات حزينا وملتاعاً:
أنا وبغداد
نجلس معاً علي شاطئ نعرفه
نحتسي خرابنا
بغداد...
ليل يجفف عتمته بضيائي
سلاماً مناديل الوداع التي جففها مطر الانتظار.. سلاماً عباءات الدموع التي هي تاريخنا بلا شك...
وينطلق باسم فرات أكثر وأكثر لكي يرسم بغداد علي امتداد أسطر قصيدة طويلة، حافلة بملامح المأساة علي المستويين الفردي والجماعي، حيث يقول في مستهلها:
ما شئت شئت
أسكب الفجر في تلمس ليل غارق بعماه
أكتب تاريخ جنوبيين فوق عباءة أمي
وعبثاً أمسح أكفان الأيام المنسدلة من شعرها
مقبرة السنوات تتمدد
فوق اسفلت ذاكرة مليئة بندوب الحروب
حداد يغلف حيواتنا
لا أتنفس سوي الخراب
أحاول - دون جدوي - أن أفتح كوة فيه
لا أجدني إلا انكساراً يشع..
صوت احتجاج الإنسان الفرد علي ما جري ويجري مما عايشه ويعايشه باسم فرات هو صوت واضح النبرات، عميق بالدلالات، حتي حين شاء أن يكتب ملامح موجزة من سيرته الذاتية، فإنه لم يجد غير كلمة الاحتجاج يكررها، كأنه يزيحها عن روحه حتي يتسني له أن يتنفس، بدلاً من أن يختنق إذا ظلت هذه الكلمة كامنة في أعماقه.. هو - علي سبيل المثال - يقول: سنة 1967 أطلقت احتجاجي الأول في مدينة كربلاء - سنة 1968: احتجاجاً علي بكائي السرمدي وعجز الأطباء، اقترحت حكيمة العائلة وضعي في المقبرة، فإن بكيت، فهذا دليل علي أني سوف أعيش ردحا من الزمن - سنة 1969: أبي أطلق احتجاجه الأخير وهو في سن الخامسة والعشرين، دفاعاً عن جارته فأورثتنا شهامته البؤس والانكسارات.. ويقدم باسم فرات لأحد دواوينه ما يقول إنه يغني عن الإهداء: أبي - حزن عتيق - أمي - كتاب الحزن - حين فتحه أبي - خرجت أنا.. .
هذا ملمح سريع، بل متسرع، من حياة إنسان عراقي، هو الشاعر باسم فرات الذي ابتعد عن دجلة والفرات لكي يتذكرهما ويحملهما معه إلي المدينة ذات الأنهار الستة.. هيروشيما - اليابان.