أشعار كربلائية يعود فيها الشاعر مكرها إلى أمكنة طفولته
العرب باسم فرات [نُشر في 26/06/2014، العدد: 9601، ص(15)]
تحولتْ المقالات والدراسات المكتوبة عن ديواني الثاني “خريف المآذن” إلى هَمٍّ يُؤرِّقُني، وشُعورٍ حادٍّ بالمسؤوليةِ، وراحتْ وَطأةُ الاحتفاءِ تُثقل كاهلِي. لقد وجدتُ أن الكتابةَ عن العائلةِ، ربما تجعلُ من ديواني القادمِ ذا صبغةٍ تختلفُ ولو بعض الشيءِ، ثم كان النجاحُ الكبيرُ الذي حققتُهُ في العاصمةِ النيوزلنديةِ وَلْنِغْتُن مبعثَ غبطةٍ لي وتآلفٍ معَ المكانِ. من هنا بدأَ المكانُ الجديدُ يَتَسَلَّلُ إلى قصائدي، فصار يتراوح بين وجودٍ ثانويٍّ كما في قصيدة “أنا ثانيةً” ووجودٍ رئيسيٍّ كما في “هنا حماقات هناك.. هناك تبخترُ هنا”.
كانت الانتقالةُ إلى هيروشيما نوعيةً في حياتي، فَتَرَسَّخَ الاعتزازُ بالمكانِ ثقافةً، وكانت حصيلةُ هذا- وعلى مدى ستَّةِ أعوام قضيتُها في اليابانِ وجُنوبِ شَرقِ آسيا- أن أنجزتُ ديواني “بلوغ النهر”. وحدث معه كما حدثَ مع “خريف المآذن”
فتوالت الدراسات والبحوث، لتنافس في عددها “خريف المآذن”، وإن كانت أقَلَّ من ناحية العدد قليلاً، فهي في مجملِهَا أكثرُ رصانةً، والآراءُ الكتابيةُ عمومًا قاربت الخمسين رأيًا، بينما في “خريف المآذن” تجاوزت الخمسين.
باب التنميط
أصابتني بعد الاحتفاءِ بـ”بلوغ النهر” رهبةٌ أكبر مما أصابتني بعد الاحتفاء بـ”خريف المآذن”. صرتُ أتساءل: ماذا سأقدّمُ بما يجعل الديوان القادم يحوي اختلافًا على مستوى الموضوع والطرح والمعالجة؟ وصرتُ كلما أقرأ كلامًا يشيد بتصالحي مع المكان وكيفَ صَبغَ قصائدي، حتى لو كان الكلام ثناء كبيرًا كما كتب لي صالح جواد آل طعمة “من وجهة نظري، أنت واحد من الأصوات النادرة المختلفة التي تفاعلت بشكل خلاق (مبدع) مع محيطها في المنفى”، أشعرُ بأنها إشارة إلى أنني دخلت التقليدية وسرقتُ من القرّاء دهشة القراءة في قصائدي. حيث صار كل مَن يعرفني يعتقد أنني “شاعر مكان بامتياز”.
أخطر ما يسيءُ للتجربةِ الشعريةِ، هو وضعُها في قَوالبَ مُحددةٍ لدى القُرّاء. جعل التميّز نَمَطيّا، بحيث حين التطرق إلى الشاعر تحضرُ في الذاكرةِ صورةٌ نَمَطيّةٌ رَسَّخَها الشاعرُ نفسه أو نُقّادُ شعرِهِ. مِن هنا كنتُ أخشى أن لا أصدرَ مجموعةً جديدةً إلاّ بعد سنواتٍ قد تطول، ولكن عواملَ كثيرةً جعلتْ أن يكون عام 2014 عامًا مميزًا بالنشرِ، ففيه أصدرتُ ثلاثةَ كُتبٍ هي “مسافرٌ مقيمٌ .. عامان في أعماق الأكوادور” والذي فاز بجائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة، والثاني “دموع الكتابةِ.. مقالاتٌ في السيرةِ والتجربةِ” ثم كتابي الشعري “أشهقُ بأسلافي وأبتسمُ”، ومن هذه العوامل تنوع رحلاتي بين العراق والأردن والأكوادور وكولومبيا والبيرو، وتجربة العودة إلى مدينتي كربلاء ومعايشتي لأُمّي وهي تُصارع السرطان الذي نَهَشَ جسدها حتى وَدَّعتِ الحياةَ، لأشعر حقًّا باليُتمِ، وتذكرتُ مقولةَ أن الرجل مازال طفلاً حتى تتوفى أُمُّهُ فيشيخ بعدها.
أحزان عراقية
رغم أنني لم أنعم بطفولةٍ سَويّةٍ حيث مَقتلُ أبي دفاعًا عن جارتِنا، وأنا في الثانيةِ من عُمري، ومعظم حياتي قضيتُها بعيدًا عن والدتي طفلاً ومراهقًا ومن ثَمَّ الهجرة الطويلة بعيدًا عن العراق، لكن وفاةَ أُمي على صدري كان له تأثيرٌ كبيرٌ، ومع رؤيتي لمدينتي والفنادق تنتصبُ فيها وتتوارى أزقتُها الباردةُ صيفًا الدافئةُ شتاءً أمام الكونكريت والْمُكيّفات ومولدات الكهرباء، حيث رأيتُ موتَ طفولتي ومراهقتي، تذكرتُ تلك الأعوام التي أضحت بعيدةً، وشعرتُ أن تاريخي أصبحَ سرابًا، وعليّ أن ألهثَ خلفَهُ لعلّي أودّعُهُ وداعًا أخيرًا كما فعلتُ مع أمي.
حاولتُ الكتابةَ بعفوية وروحٍ طفوليةٍ وشَغفِ مراهقٍ، للوصول إلى كربلاء الحلم، ولتوثيق حنيني لمدينتي وأزقتِها والإمساك بجمال تلك الفتاة التي شغلت تفكيري طويلاً، الفتاة التي كان تاريخ عائلتها من تاريخ المدينة ولا فرق بينها وبين كربلاء، هنا حاولتُ قطع الخيط الفاصل بين المدينة والفتاة، حيث تتماهى كربلاء حبيبة، أي أنسنة المدينة كما تتماهى الحبيبة مدينة ووطنًا للشاعر.
حين عدتُ إلى العراق بعد غربة دامت أكثر من ثماني عشرة سنة، ودخلت المدينةَ، لم أرَ المنائر، حيثُ حجبَتْها البناياتُ العالية، وكنتُ أحاول بكل ما أوتيتُ من ذاكرة أن أستعيد الأماكن، كان فرحي لا يختلف عن فرح طفل يتيمٍ بهدية في العيد، وقد جربتُ اليتم مبكرًا وقيمةَ هديةِ العيدِ كما جربتُ الغربةَ طويلاً، أقول هكذا كان فرحي حين أتذكرُ مكانًا أو علامة أو بابًا أو زقاقًا، لكن حيرتي كانت كبيرة أمام هذا الحشد من الناس والسيطرات والازدحام غير المبرر ربما من وجهة نظري.
أول مَن قابلت كان ابن خالتي الذي تركته طفلاً، وإذا برجل أمامي يمطرني قُبُلاتٍ وعناقًا، وكنتُ أستغربُ تَصرفه الحميم هذا فقلت له: أرجوك عَرّف نفسَكَ أولاً، كي أبادل مَن أجهل ذاتَ الحميمية، وكانت معرفةُ الكبار الذين تركتهم صغارًا لأكتشف أن نسبة كبيرة منهم أصبح أطفالهم بذات العمر الذي تركتهم فيه أو الصورة التي علقت بذاكرتي. ومن خلال تلمسي لمعرفة الأهل والأقارب، كنتُ أبحث عن كربلاء التي تركتها، قمت صحبة حفيد خالتي الكبرى بزيارة أماكن قضيتُ فيها طفولتي، زرتُ المقامات الدينية والأسواق، اصطحبني إلى عقد شير فضة ولكني بعده حين حاولت الوصول إلى نفس المكان لم أفلح، شعرتُ بغربة قاتلة وحنين جارف مع وجع عميق سببه أمي التي يفتك بها السرطانُ أمامي ولا حول لي.
زمن الخسارات
لعِب بيعُ بيتِنَا في باب السلالمة، دورًا إضافيًّا في شعوري بالخذلان، بالانكسار، بالهزيمة أمام غول الحياة ومتطلباتها، شعرتُ أنه لا بدّ لي أن أعوّض هذه الخساراتِ المتعددة، فلم يعد ثمة كثير مما يذكرني بطفولتي، أين تل الزينبية حيث قضيت سنواتٍ فيه وأنا أبيع تربة الصلاة والأكفان والمسابح وكل ما يخص العبادات، وأنظر إلى تلك الفتيات بنات العوائل الثرية اللاتي يسكن بالقرب من المكان، يتمتعن بطفولتهن وبياض الثراء وحمرته تزيد من لهبِ طفولتي كي تنضج مراهقة أبكر مما وضعه رجال الدين والعلم معًا.
من هنا، من هذه الخسارات، رحتُ أكتبُ كربلاءَ الحبيبةَ والمدينةَ والفتاةَ الثريةَ التي أغوتني بشعرها العسلي وعينين عسليتين ذات شتاء كربلائيٍّ، يوم سقطتْ من يدها ورقة فيها “مجنونٌ أنتَ ستحبني بعمق وتكتب ديوانًا عني ولكني سأختفي من حياتك قبل إنجازك الديوان”. حتى هذه اللحظة لا أتذكر المكان هل هو بين الحرمين أم في عقد السادة أم حي الحسين أم كانت الورقة معلقة بإحدى المنائر، ولم تكن ثمة فتاة سوى كربلاء- الحلم. كربلاء التي كانت كما العراق تكبر وتزداد جمالاً وبهاءً وأنا أجوب المنافي من منفى إلى قصيدة.
وهكذا حين عودتي إلى المنافي وجدتُني أدوّن بروح طفولية هذا الديوان؛ لعلّ كربلاء المرأة والمدينة تحملني إلى فراديسها. من هنا سيتيه القارئ بين كربلاء المدينة وكربلاء الفتاة بشعرها العسليّ الطويل، لقد محوتُ الخطّ الفاصل بينهما ضاربًا بعرض الخيال والذاتية جميع القواعد المتبعة، لأن المدينة كانت تمثل الوطن -المرأة والوطن- الولادة والوطن المنفى، وأن الماضي تحوَّل إلى سرابٍ فلا آثار تدلني على أعوامي قبل خروجي من العراق.
وأختم هذه الشهادة بما دوّنه الشاعر عبود الجابري حين قرأ الديوان فهي خير مُعبّر عما اكتنفني لحظة الكتابة: “هذه نصوص كتبها الطفل باسم فرات حين أفضت به الغربة إلى عتبةِ ما بعد الأربعين، وهي نصوصٌ لا تتَّكِئُ على مُحسِّناتٍ بديعيةٍ أو صنعةٍ أعرفُ أن باسم يتقنها، لكنها نصوص نفضت ثيابَها من جغرافيا كانت مقيمةً في نصوص باسم فرات، وقادها الحنين إلى أمكنةٍ وطقوسٍ عاشها باسم فرات طفلاً، فعاد هنا لاستذكارها بألم شفيف. إنها نصوصٌ كربلائيةٌ بامتيازٍ، نجد فيها مَلامحَ من طفولةِ الشاعرِ التي أَغوتهُ بالعودةِ إليها مُكرَها حين ضاق ذرعًا بالتَّذكُّرِ، مَرَدُّ هذه العودة في يقيني هو الزيارات التي قام بها باسم إلى مسقطِ رأسِهِ، جريحًا يَجرُّ قلبَهُ وراءه بعدَ وفاةِ أُمِّهِ آخر قِلاعِ قَلبِهِ، والحفر التي غطتها الغربةُ بالترابِ وما لبثَـــتْ أن تكشَّفَتْ أَمامه عندما وَطِئَتْ قدماه مرابعَ طُفولَتِهِ”.
صحيفة العرب اللندنية
http://www.alarab.co.uk/?id=26287