باسم فرات .. يجد العراق في مكان قصيّ
سعد القرش
4 آب / أغسطس 2018
قبل استحداث الحدود السياسية، بأشكالها الصارمة، فصلت التخوم بلدا عن آخر. ذلك الفجر من طفولة التاريخ شهد فتوة العراق، وكانت بلاد الرافدين أكبر وأكثر من عراق، حديقة تتجاور وتتفاعل فيها ممالك وأعراق وأديان وشعوب تتنافس في صناعة الحضارة والخلود، وتنشد الخلود بشعر نبت في أرضه، ونضج وصار «عذبا فراتا»، وعبر التخوم، وأشاع جمالا يعوز المشهد العراقي الآن.
ولا يخلو النثر الجديد من هذه الروح، وإن أثقله الشاعر العراقي باسم فرات، في يوميات رحلته «لا عشبة عند ماهوتا» بهموم وأمنيات نابعة من رهانه على قيامة العراق، وطموحه إلى رحلة «لا تشبه سوى شخص واحد في هذا العالم، هو قارئ الكتب باسم فرات» الذي لم يستسلم لحزنه على مغادرة بغداد، أحب المدن إلى روحه، واستطاع بالشعر أن يجعل من المنفى وطنا.
وكما لم تحُل التخوم قديما دون عبور الشعر، فإن الحدود والاستبداد سخر منهما الشعر، وانطلق شعراء عراقيون إلى العالم، وتفرقوا في البلاد، كل يحمل عراقه، العراق الذي لم يفارق باسم فرات أينما يذهب، وبادله وجدا بوجد، وبدا البلد الطارد في زمن الدكتاتورية أبا يحنو على ابنه وينتظره في المنفى ويمنحه الطمأنينة. وعلاقة الابن والأب لم يشر إليها المؤلف في كتابه الذي حمل عنوانا فرعيا هو «من منائر بابل إلى جنوب الجنوب»، إلى نيوزيلندا. ولكنه وجد العراق في مكان قصيّ، فيما لم يتوقع أن أهل ذلك الموقع يعرفون شيئا أبعد من أنظارهم. كانت السيارة قد تعطلت، وذهب إلى إصلاحها صديق الشاعر الذي جذبته غابة مليئة بالطيور، فدخلها وعبر نهرا، وفوجئ بشلال دائري يرجح أن أحدا لم يكتشفه.
تاه الشاعر وأضاع علامات الرجوع، فاستسلم للمسير، ووجد شيخا جالسا وسط الشلال، تلامس ضفيرتاه المياه، وكان جسده المكسو بالوشم ضخما يذكّره بأبطال أسطوريين. اسمه «ماهوتا»، وينتمي إلى «الماوريين»، سكان نيوزيلندا الأصليين. سأله عن بلده، وأجابه المؤلف، فرد مباشرة «أخي، هل تعلم أن ثمة أسطورة بعيدة… تقول إننا أتينا من العراق، من البصرة انحدرنا بقواربنا».
هذا الرجل المحظوظ، «ماهوتا»، حظي بأن يكون عنوانا لكتاب عربي نال عنه مؤلفه جائزة ابن بطوطة من المركز العربي للأدب الجغرافي، ولولا أنه كتاب رحلة لظننت ماهوتا شخصية روائية؛ فملامحه لا تدل على إحاطته بالأساطير، ووعيه بجوع استعماري أوصل البريطانيين إلى نيوزيلندا التي أطلقت على الرجل الأبيض «باكهه».
وقال ماهوتا «أيها العراقي، نحن إخوة، كلانا ضحية لهؤلاء الباكهه، أخبرني ماذا فعلوا بكم؟»، فروى جناية بريطانيا على العراق، وكيف اصطنعت المشكلات، ووطنت «أعدادا كبيرة من غير العرب والتركمان»، وعبثت بالحدود، وكرست نظرة استشراقية للعراق كبلد متخلف. واستعاد الرجل ما فعلوه بنيوزيلندا، وقال «نعم، هذا هو ما حدث، يا أخي»، ويتداول الماوريون كلمة «يا أخي» التي لا يقولها البيض. وقال وهو يبكي إنهم اتهموا الماوريين بأنهم أكلة لحوم البشر، «هل رأيت خبث الباكهه، يا أخي العراقي؟». وفي ثوان عاد بالشاعر إلى مكانه الأول، حيث صاحبه يلوّح له. ودعه ماهوتا ورجع إلى الغابة، ونصحه «لا تلتفت وراءك وتتابعني».
https://alarab.co.uk/%D8%A8%D8%A7%D8%B3%D9%85-%D9%81%D8%B1%D8%A7%D8%AA-%D9%8A%D8%AC%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82-%D9%81%D9%8A-%D9%85%D9%83%D8%A7%D9%86-%D9%82%D8%B5%D9%8A
سعد القرش
4 آب / أغسطس 2018
قبل استحداث الحدود السياسية، بأشكالها الصارمة، فصلت التخوم بلدا عن آخر. ذلك الفجر من طفولة التاريخ شهد فتوة العراق، وكانت بلاد الرافدين أكبر وأكثر من عراق، حديقة تتجاور وتتفاعل فيها ممالك وأعراق وأديان وشعوب تتنافس في صناعة الحضارة والخلود، وتنشد الخلود بشعر نبت في أرضه، ونضج وصار «عذبا فراتا»، وعبر التخوم، وأشاع جمالا يعوز المشهد العراقي الآن.
ولا يخلو النثر الجديد من هذه الروح، وإن أثقله الشاعر العراقي باسم فرات، في يوميات رحلته «لا عشبة عند ماهوتا» بهموم وأمنيات نابعة من رهانه على قيامة العراق، وطموحه إلى رحلة «لا تشبه سوى شخص واحد في هذا العالم، هو قارئ الكتب باسم فرات» الذي لم يستسلم لحزنه على مغادرة بغداد، أحب المدن إلى روحه، واستطاع بالشعر أن يجعل من المنفى وطنا.
وكما لم تحُل التخوم قديما دون عبور الشعر، فإن الحدود والاستبداد سخر منهما الشعر، وانطلق شعراء عراقيون إلى العالم، وتفرقوا في البلاد، كل يحمل عراقه، العراق الذي لم يفارق باسم فرات أينما يذهب، وبادله وجدا بوجد، وبدا البلد الطارد في زمن الدكتاتورية أبا يحنو على ابنه وينتظره في المنفى ويمنحه الطمأنينة. وعلاقة الابن والأب لم يشر إليها المؤلف في كتابه الذي حمل عنوانا فرعيا هو «من منائر بابل إلى جنوب الجنوب»، إلى نيوزيلندا. ولكنه وجد العراق في مكان قصيّ، فيما لم يتوقع أن أهل ذلك الموقع يعرفون شيئا أبعد من أنظارهم. كانت السيارة قد تعطلت، وذهب إلى إصلاحها صديق الشاعر الذي جذبته غابة مليئة بالطيور، فدخلها وعبر نهرا، وفوجئ بشلال دائري يرجح أن أحدا لم يكتشفه.
تاه الشاعر وأضاع علامات الرجوع، فاستسلم للمسير، ووجد شيخا جالسا وسط الشلال، تلامس ضفيرتاه المياه، وكان جسده المكسو بالوشم ضخما يذكّره بأبطال أسطوريين. اسمه «ماهوتا»، وينتمي إلى «الماوريين»، سكان نيوزيلندا الأصليين. سأله عن بلده، وأجابه المؤلف، فرد مباشرة «أخي، هل تعلم أن ثمة أسطورة بعيدة… تقول إننا أتينا من العراق، من البصرة انحدرنا بقواربنا».
هذا الرجل المحظوظ، «ماهوتا»، حظي بأن يكون عنوانا لكتاب عربي نال عنه مؤلفه جائزة ابن بطوطة من المركز العربي للأدب الجغرافي، ولولا أنه كتاب رحلة لظننت ماهوتا شخصية روائية؛ فملامحه لا تدل على إحاطته بالأساطير، ووعيه بجوع استعماري أوصل البريطانيين إلى نيوزيلندا التي أطلقت على الرجل الأبيض «باكهه».
وقال ماهوتا «أيها العراقي، نحن إخوة، كلانا ضحية لهؤلاء الباكهه، أخبرني ماذا فعلوا بكم؟»، فروى جناية بريطانيا على العراق، وكيف اصطنعت المشكلات، ووطنت «أعدادا كبيرة من غير العرب والتركمان»، وعبثت بالحدود، وكرست نظرة استشراقية للعراق كبلد متخلف. واستعاد الرجل ما فعلوه بنيوزيلندا، وقال «نعم، هذا هو ما حدث، يا أخي»، ويتداول الماوريون كلمة «يا أخي» التي لا يقولها البيض. وقال وهو يبكي إنهم اتهموا الماوريين بأنهم أكلة لحوم البشر، «هل رأيت خبث الباكهه، يا أخي العراقي؟». وفي ثوان عاد بالشاعر إلى مكانه الأول، حيث صاحبه يلوّح له. ودعه ماهوتا ورجع إلى الغابة، ونصحه «لا تلتفت وراءك وتتابعني».
https://alarab.co.uk/%D8%A8%D8%A7%D8%B3%D9%85-%D9%81%D8%B1%D8%A7%D8%AA-%D9%8A%D8%AC%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82-%D9%81%D9%8A-%D9%85%D9%83%D8%A7%D9%86-%D9%82%D8%B5%D9%8A