ليس غريبا أن نسمع أو نقرأ عن شاعر عراقي دفعه الشظف ولاحقته القضبان وشط به الحيف وتناوشته الظنون وحاصره العسف والإجبار على إختيار خيمة ما في بلاد ما. فثمة الكثير من المبدعين قد توزعوا أقاصي الأرض وهم يطوون المنافي تحت جوانحهم وقد توسد البعض منهم تراب المدن التي فتحت لهم أذرعها، وليس آخرهم الشاعر بلند الحيدري على سبيل المثال وليس الحصر.
ترى لم يختار المبدع منفى بديلا عن وطن هو من أغنى البلدان مياهاً ونفطاً وتراثا إنسانياً، وما زال يعد منهلا لكثير من ((القبائل)) التي تحيط به وتصدر له ((حتى اللحظة)) هدايا التفخيخ لتفجر أحلام صغاره على الأرصفة وفي المدارس والمسيرات وهي تحلم ببناء وطن آمن وسعيد. ما الذي يجعل المبدع يترك موطئ قدمه ليدفع بخطواته في الجليد أو الرمل
أقول ليس غريباً أن يختار الشاعر منفاه حفاظاً على ما تبقى من إنسانيته، التي تحاول قوى الظلام ـ التي تنبت كالفطر السام في كل مكان وزمان ـ أن تَسِم ذات الفرد الحرة بميسمها الخاص وإلا ستصادر كل نأمة من جسده. لكن أن يختار الشاعر بلدا كاليابان ومدينة هيروشيما تحديداً.. فثمة أسئلة تثار هنا، خاصة عند قراءتك لمجموعة (أنا ثانية) للشاعر باسم فرات. فهيروشيما مدينة الأنهار الستة التي ضربت بأول قنبلة ذرية راح ضحيتها الآلاف، ولما تزل تعاني من التشوهات على مستوى الزرع والضرع وكل ما يمت للإنسان بصلة.. وبلاد النهرين التي أصابتها لعنة (تنتالوس) في أن يجوع ويعطش أبناؤها رغم الوفرة المفرطة.. فهل كانت مدينة هيروشيما، بعد ان مرت عليها أصابع الخراب قوة جذب مغناطيسي لذاكرة الشاعر..؟ هذه الذاكرة المثخنة بالجراح وهي تبحث في خضم تشوهاتها علها تعثر على تبرير لما حدث.. عن الأسباب التي جعلت الشاعر يغادر عشه ويهاجر خوف التشوه التام الذي سيلحق بما تبقى من روحه في حال إذعانه لكل أشكال السطوة في بلاده في الوقت الذي نراه يذوب حنينا لوطنه.
((أُقايضُ الحرب بالمنفى
وبابلّ لا تواسيني
تحاصرني البحار
ودجلة غارق في العطش
أغمس الفوانيس في راحتيّ
لأمنح النجوم هذا الألق))
إن أغلب قصائد الشاعر باسم فرات في ((أنا ثانية)) تصطبغ بلون الوجع العراقي وتتخذ من التشوهات عدة لها، وهي توكيد لذات متشظية ما تزال تطاردها أشباح الحروب والاقصاءات لتعلن صرخة جريحة في ذروة اغترابها.. ونحن نقرأ ونتلمس كيف تعمل مجسات الشاعر المهدد حتى في غربته ومنفاه. وكيف تلتقط الألفاظ كمضادات حيوية يستخدمها الشاعر كقوة طاردة لكل أنواع المهيمنات التي تحاول أن تجعل من الإنسان مسخا خرافيا يدب على أربعة قوائم وتعود به القهقرى إلى ما قبل شريعة الغاب.
في قصيدة ((جبل تَرَناكي)) صورة معمقة للوحدة والغربة، كما فيها من صور التباهي بجذر المنبت الأول والتحدي والشموخ حين يتوحد الجبل مع ذات الشاعر ويرمز للوطن أخرى.
((بُعَيدَ كل خسارة لها مع الأمواج
تلتف حولي الغيوم
أمطاري خارجة على القانون
وشلالاتي نزيف يهدر))
في قصيدة أخرى لا تحمل الذاكرة إلا صور الرعب وذكريات من خريف الوطن وهي سيل من الغثيان الذي تركته المخافر والزنازين.
((السرفات سحقت ذاكرتي
الزنازين جعلتني قميصا متهرئاً
على كتفي تسيل المنافي))
حتى يصل الشاعر ـ في ذروة اغترابه ـ الى معادلة مفادها ان الأحداث التي جرت عليه، وشوهت الكثير من أعماق روحه النقية، قد تكون حولته الى كائن آخر لا يمت الى ذاته بصلة ما فيتساءل مستفهما يسأل الآخر وهو يواجه ذاته الجريحة ويعجب من رؤيته نفسه ومن بقائه حيا رغم كل شيء.
((أنا باسم فرات.. يا الله.. أتعرفني؟!
المخافر موشومة على جلدي
وأمي لم تلتفت للشظايا
حين مشطت صباي..
ألأني كنت أحمل الوطن في جيب قميصي
وتحت لساني نهران يهدران
أركض خلف موتي وجثتي تتبعني
والبلاد خريفٌ طويل
سيلٌ من الغثيان))
فالقارئ لمجموعة (أنا ثانية) للشاعر باسم فرات يخرج بنتيجة واحدة وهي إحساسه بصور العتمة التي تضغط على روحه التي تستصرخ العالم باحثة عن مسرب ضوء يعيد لها ايقاعها الإنساني المألوف وكأنما عطلت كل مجساته نتيجة ما مورس ضدها من قمع حتى بات لا يذكر شيء من الوطن إلا جانبه المعتم الذي بات يغشي ذاكرته. يتعمق هذا الشعور في أغلب القصائد مثل ((انكسارات)) و((دون تلفت)) و((برتبة منكسر)) و((الجنوبي)) و((ليس أكثر من حلم)) وقصيدة ((تاريخنا)) التي جاء فيها:
((اللافتات السود
الأمهات الثكالى
تلفعن بتراتيل النواح السومري
(كل سنواتي يابسة)
أطلق براءتي باتجاه الحروب
كي لا يطويني علمٌ
سقط هو الآخر صريعا قبلي)) .
وهكذا يذكرنا الشاعر باسم فرات وهو في هيروشيما ـ المدينة المنفية كما الشاعر وهي تحمل خرابها ـ بفداحة الأزمة، أزمة وطن راهن عليه تجار الحروب ولم يعد وطنا إلا بقدر ما يذكرك بسجونه ومخافره وسطوة حاكميه على مر العصور في التفنن بكل أنواع العسف ووسائل التعذيب.
ترى لم يختار المبدع منفى بديلا عن وطن هو من أغنى البلدان مياهاً ونفطاً وتراثا إنسانياً، وما زال يعد منهلا لكثير من ((القبائل)) التي تحيط به وتصدر له ((حتى اللحظة)) هدايا التفخيخ لتفجر أحلام صغاره على الأرصفة وفي المدارس والمسيرات وهي تحلم ببناء وطن آمن وسعيد. ما الذي يجعل المبدع يترك موطئ قدمه ليدفع بخطواته في الجليد أو الرمل
أقول ليس غريباً أن يختار الشاعر منفاه حفاظاً على ما تبقى من إنسانيته، التي تحاول قوى الظلام ـ التي تنبت كالفطر السام في كل مكان وزمان ـ أن تَسِم ذات الفرد الحرة بميسمها الخاص وإلا ستصادر كل نأمة من جسده. لكن أن يختار الشاعر بلدا كاليابان ومدينة هيروشيما تحديداً.. فثمة أسئلة تثار هنا، خاصة عند قراءتك لمجموعة (أنا ثانية) للشاعر باسم فرات. فهيروشيما مدينة الأنهار الستة التي ضربت بأول قنبلة ذرية راح ضحيتها الآلاف، ولما تزل تعاني من التشوهات على مستوى الزرع والضرع وكل ما يمت للإنسان بصلة.. وبلاد النهرين التي أصابتها لعنة (تنتالوس) في أن يجوع ويعطش أبناؤها رغم الوفرة المفرطة.. فهل كانت مدينة هيروشيما، بعد ان مرت عليها أصابع الخراب قوة جذب مغناطيسي لذاكرة الشاعر..؟ هذه الذاكرة المثخنة بالجراح وهي تبحث في خضم تشوهاتها علها تعثر على تبرير لما حدث.. عن الأسباب التي جعلت الشاعر يغادر عشه ويهاجر خوف التشوه التام الذي سيلحق بما تبقى من روحه في حال إذعانه لكل أشكال السطوة في بلاده في الوقت الذي نراه يذوب حنينا لوطنه.
((أُقايضُ الحرب بالمنفى
وبابلّ لا تواسيني
تحاصرني البحار
ودجلة غارق في العطش
أغمس الفوانيس في راحتيّ
لأمنح النجوم هذا الألق))
إن أغلب قصائد الشاعر باسم فرات في ((أنا ثانية)) تصطبغ بلون الوجع العراقي وتتخذ من التشوهات عدة لها، وهي توكيد لذات متشظية ما تزال تطاردها أشباح الحروب والاقصاءات لتعلن صرخة جريحة في ذروة اغترابها.. ونحن نقرأ ونتلمس كيف تعمل مجسات الشاعر المهدد حتى في غربته ومنفاه. وكيف تلتقط الألفاظ كمضادات حيوية يستخدمها الشاعر كقوة طاردة لكل أنواع المهيمنات التي تحاول أن تجعل من الإنسان مسخا خرافيا يدب على أربعة قوائم وتعود به القهقرى إلى ما قبل شريعة الغاب.
في قصيدة ((جبل تَرَناكي)) صورة معمقة للوحدة والغربة، كما فيها من صور التباهي بجذر المنبت الأول والتحدي والشموخ حين يتوحد الجبل مع ذات الشاعر ويرمز للوطن أخرى.
((بُعَيدَ كل خسارة لها مع الأمواج
تلتف حولي الغيوم
أمطاري خارجة على القانون
وشلالاتي نزيف يهدر))
في قصيدة أخرى لا تحمل الذاكرة إلا صور الرعب وذكريات من خريف الوطن وهي سيل من الغثيان الذي تركته المخافر والزنازين.
((السرفات سحقت ذاكرتي
الزنازين جعلتني قميصا متهرئاً
على كتفي تسيل المنافي))
حتى يصل الشاعر ـ في ذروة اغترابه ـ الى معادلة مفادها ان الأحداث التي جرت عليه، وشوهت الكثير من أعماق روحه النقية، قد تكون حولته الى كائن آخر لا يمت الى ذاته بصلة ما فيتساءل مستفهما يسأل الآخر وهو يواجه ذاته الجريحة ويعجب من رؤيته نفسه ومن بقائه حيا رغم كل شيء.
((أنا باسم فرات.. يا الله.. أتعرفني؟!
المخافر موشومة على جلدي
وأمي لم تلتفت للشظايا
حين مشطت صباي..
ألأني كنت أحمل الوطن في جيب قميصي
وتحت لساني نهران يهدران
أركض خلف موتي وجثتي تتبعني
والبلاد خريفٌ طويل
سيلٌ من الغثيان))
فالقارئ لمجموعة (أنا ثانية) للشاعر باسم فرات يخرج بنتيجة واحدة وهي إحساسه بصور العتمة التي تضغط على روحه التي تستصرخ العالم باحثة عن مسرب ضوء يعيد لها ايقاعها الإنساني المألوف وكأنما عطلت كل مجساته نتيجة ما مورس ضدها من قمع حتى بات لا يذكر شيء من الوطن إلا جانبه المعتم الذي بات يغشي ذاكرته. يتعمق هذا الشعور في أغلب القصائد مثل ((انكسارات)) و((دون تلفت)) و((برتبة منكسر)) و((الجنوبي)) و((ليس أكثر من حلم)) وقصيدة ((تاريخنا)) التي جاء فيها:
((اللافتات السود
الأمهات الثكالى
تلفعن بتراتيل النواح السومري
(كل سنواتي يابسة)
أطلق براءتي باتجاه الحروب
كي لا يطويني علمٌ
سقط هو الآخر صريعا قبلي)) .
وهكذا يذكرنا الشاعر باسم فرات وهو في هيروشيما ـ المدينة المنفية كما الشاعر وهي تحمل خرابها ـ بفداحة الأزمة، أزمة وطن راهن عليه تجار الحروب ولم يعد وطنا إلا بقدر ما يذكرك بسجونه ومخافره وسطوة حاكميه على مر العصور في التفنن بكل أنواع العسف ووسائل التعذيب.