حين أكملت قراءة ديوان باسم فرات الأخير " أنا ثانية " نحيته جانباً وفي نيتي أن أعود الى قراءته مرة أخرى لعلني أجد سبباً لتلك الصورة التي أعادتني الى الوراء ثلاثين سنة.
لم تتخل عني تلك الصورة وأنا أعيد قراءة القصائد مرة ثانية.
الصورة:
في حي من أحياء البصرة القديمة " القطانة" حيث كنت أسكن كانت دكاكين صاغة الذهب تمتد على جدران شوارع الحي، وكنت أرى الصاغة مرتين في اليوم، في الصباح حين أذهب الى المدرسة وفي العودة وقت الظهيرة.
لم ار وجوه الصاغة أبداً كانوا ينحنون بلحاهم البيضاء الطويلة على "كورة" النار وهم يقلبون أو "يجلون" قطعة الذهب. كانت ظهورهم المنحنية تنبئ عن صبرهم الطويل وهم ينحتون قطعهم الذهبية.
مرة واحدة اقتربت من أحدهم علني أرى وجهه، نظر اليّ بسرعة مستطلعاً ثم عاد الى منحوتته يمسح عليها كما تمسح الأمّ جبين رضيعها.
إنهم نحاتون على طريقتهم الخاصة وكذلك كان باسم فرات. لا أدعي إني ناقد محترف، إلا إني أعشق المفردة التي تؤرقني وتمسح بي الارض وتصرخ في وجهي وتعيد لي الإحساس بقيمة الوجود رغم كل الالام التي نعانيها والقهر الذي يضيق حتى على أنفاسنا.
هكذا كانت قصائد باسم فرات الأخيرة بالنسبة لي، لقد وجدت فيها ذلك الاحتجاج الدفين على كل ما هو معروض في ساحات القردة هذه الأيام.
ثلاثة إحتجاجات أرقتني في هذه القصائد، أولها ذلك المنفى الإضطراري الى حيث لاعودة الى شوارع الوطن وأزقتها، لاعودة الى الدرابين التي نلعب فيها "شرطي وحرامي"، لا عودة الى الزلابية و"مَنّ السماء" ولقمة القاضي.
الثاني ذلك الإحتجاج على كل ماهو مصنوع من الخزف الصناعي الهش وهو يغلف الماضي ويستولي على الحاضر ويريد الإطاحة بالمستقبل.
الثالث هو علامة الإستفهام التي لاتسعها الأرض: ماذا نريد من هذا العالم وماذا يريد منا هو؟
إن باسم فرات ــ صائغ الذهب اللعين ــ ينحت كلماته بصبر وحين ينتهي من آخر مراحلها يفخخها في وجهك ليجعلك تتلوى من كثرة الأسئلة المنهالة على نافوخك.
لاجىء
نعم أنا لاجىءٌ
توعّكتُ حروبا
فاسترحتُ بظلالِ منافٍ
وَرثتُ من أبي إنخذاله
ومن الثكناتِ طعم المهانة
سنوات الجوع
تصهل في شهيقي
لي في المطارات
إنكسارات
بصمات أصابع
وعلى الجواز صفعات رجال الأمن
على الحدود ذاكرة منتفخة بالقيح.
لم تتخل عني تلك الصورة وأنا أعيد قراءة القصائد مرة ثانية.
الصورة:
في حي من أحياء البصرة القديمة " القطانة" حيث كنت أسكن كانت دكاكين صاغة الذهب تمتد على جدران شوارع الحي، وكنت أرى الصاغة مرتين في اليوم، في الصباح حين أذهب الى المدرسة وفي العودة وقت الظهيرة.
لم ار وجوه الصاغة أبداً كانوا ينحنون بلحاهم البيضاء الطويلة على "كورة" النار وهم يقلبون أو "يجلون" قطعة الذهب. كانت ظهورهم المنحنية تنبئ عن صبرهم الطويل وهم ينحتون قطعهم الذهبية.
مرة واحدة اقتربت من أحدهم علني أرى وجهه، نظر اليّ بسرعة مستطلعاً ثم عاد الى منحوتته يمسح عليها كما تمسح الأمّ جبين رضيعها.
إنهم نحاتون على طريقتهم الخاصة وكذلك كان باسم فرات. لا أدعي إني ناقد محترف، إلا إني أعشق المفردة التي تؤرقني وتمسح بي الارض وتصرخ في وجهي وتعيد لي الإحساس بقيمة الوجود رغم كل الالام التي نعانيها والقهر الذي يضيق حتى على أنفاسنا.
هكذا كانت قصائد باسم فرات الأخيرة بالنسبة لي، لقد وجدت فيها ذلك الاحتجاج الدفين على كل ما هو معروض في ساحات القردة هذه الأيام.
ثلاثة إحتجاجات أرقتني في هذه القصائد، أولها ذلك المنفى الإضطراري الى حيث لاعودة الى شوارع الوطن وأزقتها، لاعودة الى الدرابين التي نلعب فيها "شرطي وحرامي"، لا عودة الى الزلابية و"مَنّ السماء" ولقمة القاضي.
الثاني ذلك الإحتجاج على كل ماهو مصنوع من الخزف الصناعي الهش وهو يغلف الماضي ويستولي على الحاضر ويريد الإطاحة بالمستقبل.
الثالث هو علامة الإستفهام التي لاتسعها الأرض: ماذا نريد من هذا العالم وماذا يريد منا هو؟
إن باسم فرات ــ صائغ الذهب اللعين ــ ينحت كلماته بصبر وحين ينتهي من آخر مراحلها يفخخها في وجهك ليجعلك تتلوى من كثرة الأسئلة المنهالة على نافوخك.
لاجىء
نعم أنا لاجىءٌ
توعّكتُ حروبا
فاسترحتُ بظلالِ منافٍ
وَرثتُ من أبي إنخذاله
ومن الثكناتِ طعم المهانة
سنوات الجوع
تصهل في شهيقي
لي في المطارات
إنكسارات
بصمات أصابع
وعلى الجواز صفعات رجال الأمن
على الحدود ذاكرة منتفخة بالقيح.